[justify] [/justify][justify][/justify][justify][/justify][justify]
نكمل – والكمال عزيز – الناس أما بادية وإما حاضرة بقطع النظر إلي نظر الناس بأن هذا قبلي فهو بدوى وذاك غير ذلك فهو حضري ، ليست العبرة على الحقيقية بهذا ، على أن هذا القول ظل عالقاً بذهني إلي وقت قريب دون أن أمرره على العقل ، ثم اتضح لي أنه يدخل في واحدة من ثلاث أعمال نتنه حذر منها الحبيب صلى الله عليه وسلم حيث قال : ثلاث من أعمال الجاهلية لا يتركهن الناس الطعن في الأنساب والنياحة وقولهم مطرنا بنجم كذا وكذا.
فما يجب أن يؤخذ في الحسبان البيئة التي يعيش فيها المرء وطبيعة الحياة التي يمارسها والعمل الذي يقوم به ، هذه المحددات هي ما نحتاجه في موضوعنا ، فنحتاج إذن لتفكيكها بصورة أبلغ حتى نستطيع الإجابة على السؤال على أنه يصعب أن نأتي الموضوع بأشمله فسنتجاهل عناصر كثيرة فكما يقال ما لا يدرك جله لا يترك كله
أخي أبو مشاري البادية الآن في ضواحي ينبع النخل قد وصلتهم الكهرباء كما تعلم منذ سنوات ليست بعيدة ، وعبدت إليهم الطرقات ، وأوصلت إليهم وسائل الاتصالات ، وأكثر ما تأثر بها فئة الشباب فتراهم يشتركون ليتابعوا المنافسات ، من كأس العالم إلي أقوى الدوريات ، سواء الأوربية أو المحلية من المباريات والمسابقات ، ولا يتحدثون إلا بأحدث أنواع الجوالات ، ثم هل تعلم بأن أسرع ما وصل من الاتصال بالإنترنت وكل ما ورد من أجهزة المحمول لا يغيب هناك ، أما الملابس فهي على أعلى المواصفات و أحدث الموديلات ، بل أحدثك بأعجب من هذا كله ، إن منهم من يلتقون في الليلة لقاء سمر ، أو في ليالي طلوع القمر ، فيمكثون إلي وقت السحر ، فيشتهون وجبة من مطاعم البيتزا أو البيك أو الماكدونالدز أو المشويات ، فيبادرون بالاتصال بأحدهم ممن انتهت ساعات عمله أو يتبرع متبرع منهم بالمهمة !! هذا أخي الشاهين كلامي أقوله من واقع المخالطة والمعايشة لا من نسج الخيالات ، فهل هذه تراها حياة بدو ؟؟ هل المكان هو من قرر أنهم بادية ؟ أم انتمائهم لعصبة معينه هو المقرر ؟ بالطبع المكان ليس له دخل فالعبرة كلها بما يحيطه ، المكان معيار ولكنه لا ينفك عن معايير أخر ترتبط معه لتحدده ، كما الانتماء لا ينفك عن الإنسان فالله خلقنا شعوبا وقبائل لنتعارف فهي تحدده من ناحية ولكنها لا تصنفه أو ترجحه بمعزل عن العناصر الأخرى .
هذه ثول غير بعيدة عنا كانت منطقة نائية يعيش فيها كثير ممن نقول أنهم من البادية ويأتيها البدو الرحّل بحثاً عن الكلأ في أرضها، و كانت لا يكاد يعرفها أحد ، ونحن لم نكن لنعرفها لو لم تكن فيها مطاعم الأسماك الطازجة ! اليوم تراها تجذب أبناء الحاضرة رغم أنها موضع يعيش فيه البدو ، بل تراها وقد أتجه إليها الغربي والعربي من أصقاع المدورة الأرضية ، فهل نقول عن ثول الآن أنها بادية ؟ وهل نصف من يعيش فيها أنهم بدو لأن المنطقة بادية في الأساس؟ بالطبع لا ، إذن هذا يجعلنا نقول بأن العبرة ليست في المكان بقدر ما هي في الظروف القائمة فيها ، وليست في الانتماء بقدر النظر لما هو قد هيأ للعيش فيها!!
و لا تخفى عليك قصة الشاعر علي بن الجهم ، كان بدويًّا جافيًا وفد على الخليفة العباسي المتوكل على الله فأنشده قصيدة قال فيها:
أنت كالكلب في حفاظك للود *** وكالتيس في قراع الخطوب
أنت كالدلو لا عدمناك دلوا *** من كبار الدلا كثير الذنوب
فغضب حاشية الخليفة على الشاعر ولكن الخليفة المتوكل عرف جيّد شعره ، و رقّة مقصده ، و خشونة لفظه ، وذلك لأنه وصف كما رأى و لعدم المخالطة و ملازمة البادية . فأمر له بدار حسنة على شاطئ دجلة فيها بستان يتخلله نسيم لطيف و الجسر قريب منه ، فأقام ستة أشهر على ذلك ثم استدعاه الخليفة لينشد ، فقال :
عـيون الـمها بين الرصافة والجسر *** جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
خـليلي مـاأحـلى الـهوى وأمـره *** أعـرفـني بـالحلو مـنه وبـالمرّ !
كـفى بـالهوى شغلاًوبالشيب زاجراً *** لـو أن الـهوى مـما ينهنه بالزجر
بـما بـيننا مـن حـرمة هل علمتما *** أرق من الشكوى وأقسى من الهجر ؟
و أفـضح مـن عـين المحب لسّره *** ولا سـيما إن طـلقت دمـعة تجري
وإن أنـست لـلأشياء لا أنسى قولها *** جـارتها : مـا أولـع الـحب بالحر
فـقالت لـها الأخـرى : فما لصديقنا *** مـعنى وهـل في قتله لك من عذر؟
صـليه لـعل الوصل يحييه وأعلمي *** بـأن أسـير الـحب في أعظم الأسر
فـقـالت أذود الـناس عـنه وقـلما*** يـطيب الـهوى إلا لـمنهتك الستر
فقال المتوكل : أوقفوه ، أخشى أن يذوب رقة و لطافة !! انتهت القصة
الآن هذا الشاعر ذُهب به إلي الحاضرة وغيرت عليه البيئة وذلك بنقله من مكان إلي آخر لأن المكان مهيأ هناك فتغير كلامه أليس كذلك ؟؟ ولكن المتأمل اليوم في واقع الحياة من حوله يجد أن الحضارة ذهبت إلي المواطن التي يعيش فيها الناس في الشعاب وفي الأودية في القرى والهجر وحتى على رؤوس الجبال فصهرتهم على السواء أبناء الـ( مدينة ، قرية ، هجرة ) فأولجتهم واقع الحياة الحضارية والحضارية الانفتاحية ، ما كان له من الأثر أكبره في تغير كثر من العادات كالمطعم والملبس ومنها الكلام (محور هذه المساجله ) فالأمور ليست كالسابق تحتاج أن تغير مكانك لتتغير !!
الآن أستطيع أن أخلصك من كثرة كلامي
السؤال يقول : هل هناك فرق بين أقوال أهل القرية وأهل البادية بحكم اختلاف البيئة ؟
أقول في الإجابة : نحتاج أن نحدد معايير عن بيئة البادية والقرية موضع المقارنة . أتذكر اللبنتين اللتين عقدنا عليها بادئ الرأي عند كلام ذلك البدوي وصفاء لغته ، الآن جاءت مناسبتها ، نقول : إن كانوا من البدو الأقحاح الرحل ممن لم تدخلهم وسائل المدنية ولم يخالطوا حاضرة بأي شكل كان ، وكان سكان القرية من البادية الذين نزحوا إلي بيئة القرية وتكتلوا على مثلهم فلا فرق مع الجيل النازح بيد أن الفوارق ملموسة على الأبناء .
وأما إن كانوا من بيئة البادية الذين داخلتم وسائل المدنية في مكانهم فلا فرق يصل إلي درجة عدم إدراك بعض ما يقال ، وأما الفروقات البسيطة فموجودة في الأسرة الواحدة تبعاً لطبيعة الشخصية وتأثرها بالمخالطة .
هذا ما اعتقده فإن أصبت فمن الله وإن أخطأت فلا أقول إلا كما قال إبن الأثير حين قال : لا أقول أن الخطأ سهواً جرى به القلم ولكنني أعترف بأنني أجهل أكثر مما أعلم
استاذنا أبو مشاري ، هذا ما أراه ومنك يكون تعديله أو تصحيحه أو نقضه أو الإفادة عليه ، فأنت المؤرخ الذي لا تخفى عليه خافيه مثل هذه ، ولا بد وأنك قد طرقتها في أبحاثك ورحلاتك.
منى لك الشكر الجزيل محفوفـًا بالمودة محاطـًا بالتقدير والتعزيز.
[/justify]
المفضلات