هذا مقطع من رواية "ترمي بشرر"
نشر في إحدى الصحف المحلية قبل عدة أشهر


ترمي بشرر

يعد أبي من أمهر البنائين في مدينة جدة بالرغم من استخدامه القياسات البدائية التي قلما يخطئ في احتساب الأبعاد، ويصر على صحة حساباته إصراراً مبالغاً فيه، ناهراً معاونيه عن معارضته لو أن أحدهم شذ عما قرره أثناء التخطيط، امتلك سراً غامضاً في مقدرته على تشييد البيوت من غير انحرافات تذكر، وبرع في إقامة تصاميم هندسية لم تكن معروفة في مدينة جدة أيام شبابه، كان يأخذه من الحجاج، والمعتمرين، ففي أيام الحج يتفرغ لمتابعة الحجيج، والسؤال عن مهنة من يتحدث إليه، فإذا وجده بناء جالسه لرسم (كروكي) للعمران في بلاد محدّثه، فنبغ، وطار اسمه كأمهر البنائين، رغب أن أخلفه في مهنته، فهربت منه بحجة الدراسة، وعندما وجدني هائماً في الأزقة لم يكترث كثيراً بتلقيني ما يجب علي فعله، فانشغاله بالإنفاق على ثلاث زوجات ثابتات (غير الزوجات اللاتي جلس بين أحواضهن قليلاً، ومضى) جعل مهمته الأساسية توفير أرزاق لمطاحن الأفواه التي أوجدها على هذه الأرض، أو اقترن بها.

في اليوم المحدد لمبيته في مخدع أمي يصل مع الغروب، وبينما هو يتناول عشاءه يداهمه النوم فلا يقدر على الانتقال أبعد من مائدة طعامه، ولا يقبل أن يُحرَّك من مكانه خشية أن لا يعاوده النوم بنفس القسوة، والجبروت، فيظل في المكان الذي يداهمه النوم فيه، هذه المداهمة ترغم أمي على المبيت معه أينما نام، ولكي لا تجد نفسها تجاوره في أماكن متفرقة من البيت، وهي في حالة تشكف، حرصت على استقباله في مخدعها بمجرد وصوله، وكان هذا الحرص محل انتقاد عمتي الدائم، واتهامها لأمي بتغييب أخيها عنها، واحتكاره روحاً وجسداً.

عندما كبرت شعرت بأنه لا يطيق المكوث معنا بسبب صرير عمتي، وشكواها الدائمة من انفلاتي، ورخاوة أمي معي، وتذكيرها إياه بما يجب أن يفعله مع أقاربه، أو مطالبته له بزيادة النفقة عليها، أو جذبه في ثرثرة طويلة عما كان يجب أن يفعله لزيادة دخله، أو حثه على تسيير مصالحها المعطلة بسبب عدم اهتمامه بها، كل هذا النعيق (كان يفتعل فيه نومه العجل على ما أظن)، ويتخلص منا مع أذان الفجر، ليصل إلى عمله كما ينبغي لمعلم عليه الإشراف على كل صغيرة وكبيرة.

ومع نهوض العمران الحديث تراجع موقعه من معلم إلى مشرف مبان، وفي غياب المهندس المشرف يتجاسر في تغيير المخطط، ومع جسارته يخسر قدراً كبيراً من موقعه بين العمال حين يأتي المهندس المشرف، ويأمر بإزالة ما استحدثه أبي محملاً إياه فروقات الهد، والبناء من جديد.

هذا الدور الثانوي قلل من همته، وشيد في داخله حسرة خالطها إذعان مرغم في تلبية إرشادات المهندسين.
في إحدى الظهاري اكتشف خطأ في أحد الأعمدة الممتدة لربط (كمرة) الدعائم بسقف السطح، ولكي يتأكد من الخطأ قبل أن يحاج المهندس المشرف خشية من تسفيه اكتشافه، أراد أن يتوثق، فمد قدمه في الفراغ قبل أن ينقلها على السطح، فلم يسعفه ثقله في البقاء متوازناً، ومع اختلاله كان جسده ملوثاً بدمه أسفل السقالة، ولم يعد مضطراً لسماع صوت عمتي، أو تلقي تبعات جسارته في مناكفة المهندسين، أو إجهاد نفسه بصعود السقالات العالية. كان محتاجاً ـ فقط ـ لمن يدس جثمانه في تربة تكون رحيمة به لذلك قررت رئتاه أن تنفجر داخلياً لتنزع عنه الأجهزة الطبية التي أخرت دفنه شهراً كاملاً.

لم أحبه، أو أكرهه، كان ضيفاً خفيفاً، يأتي لينام، ويغادر في الصباح من غير أن يحدث جلبة.
ومع حصر الوراثة كان قد خرج من الدنيا بابنين (أنا وإبراهيم)، وبنت (وليدة لم يمض على ولادتها سوى أسبوع من زوجته الأخيرة، لم أرها)، هؤلاء الورثة لم يجدوا شيئاً يذكرهم بأبيهم، فقد ادعت العمة خيرية ملكيتها للبيت الذي نقطنه، ولم نجد ـ نحن الإخوة ـ شيئاً نجتمع عليه.

وعاش كل منا بعيداً عن الآخر، وبقيت أنا وعمتي خيرية ملتصقين في بيت واحد، نتبادل التربص ببعضنا.
كنت قد سقطت قبل أبي، وأمي، فسقوط أبي أودعه التراب، وسقوط أمي أودعها العزلة، وسقوطي أودعني الضياع.
تغيرت خارطة بيتنا، حدث تناقص مفاجئ وسريع وشح بيتنا من كل الوجوه (أمي، وأبي، والزائرين) إلا وجهها.
قبل أن يسقط أبي غدا مجيئه لبيتنا أداء لواجب أخلاقي، وديني متحرياً من هذا المجيء العدل بين زوجاته، إذ لم يعد محتاجاً لأن يسمع صوت أمي، فمع قدومه يذرف الكلمات على مسامعها، لترد عليها باهتزازات من رأسها بالموافقة، أو النفي، وربما تجمعت دموعها في محاجرها، وسكبتها بعيداً عن عينيه.

الوحيدة التي ظل صوتها ينخر فضاء بيتنا كان صوت عمتي، تستقبل أبي دائماً فائرة المزاج:
ـ تركت هذه الدابة لمن يا فاضل؟
فيختلط عليه الأمر، وينوي الاستفهام عن أي دابة تقصد: أنا أو أمي!
ويرجح أنها تقصد أمي، فيحاول خفض صوته:
ـ ألم يكفك ما فعلت بها؟
فتفور برمدها المقذي:
ـ ماذا فعلت بها، هي التي سقطت.
حل الصيف، ومعه الرطوبة الدبقة، وتقافز أهل الحي لأسطح المنازل لإصلاح (أرايل) التلفاز، لاستقبال البث المصري، وتفنن البعض بتعليق الصحون، والقدور الكبيرة، وربطها بأسلاك (الانتيا) لاستقبال صورة أكثر وضوحاً للبرامج المصرية، كانت أخبار رقصات شيريهان تملأ مسامع النسوة، فتسابقن لنقل كل ما يبثه التلفاز المصري من ترفيه في مجالسهن كافتخار لوصول البث المصري لتلفزيوناتهن، ولم تشأ عمتي أن تكون بعيدة عما تسمعه (وكذلك أمي) فاقترعتا أيهما يصعد لإصلاح (الانتينا) بعد امتناعي عن تأدية هذا الدور بحجة الانشغال بالاغتسال، والتهيؤ لحضور حفلة طرب (شكشكة) وأبديت عدم استعدادي في تضييع الوقت من أجل هذا الأمر، حضرت اقتراعهما فيما كنت متجرداً، وسالكاً طريقي للدخول إلى الحمام، وكان على عمتي أن تصعد للسطح من خلال سلم عال ارتكز على جدارنا الداخلي، لكنها تمنعت بحجة أن الاقتراع ثلاثاً، وفي الثالثة جاء الدور على أمي، وكان الشرط بينهما أن تصعد من تأتي عليها القرعة، وتمسك الأخرى بالسلم.
كنت أسمع صوتيهما المتعاليين، وأنا أغتسل:
ـ هل ظهرت الصورة؟
ـ (لا حركي يساراً، لا لا انتظري، حركي يميناً)
ـ هه
ـ (ايوه .. أيوه ثبتي الإريل... خلاص)
خرجت من الحمام، وأمي تحاول الإمساك بالطرف الأعلى من السلم، وتتهيأ للنزول من على السطح، وعندما ثبتت يديها بطرفي السلم، رأيت عمتي تجذبها جذباً لتتعلق في الهواء، وترتطم على الأرض، وقطعة من لسانها تبتعد عن فمها ليلحق بها دم شاخب.
احتفظت أمي بالقطعة المبتورة من لسانها في الفريزر على أمل استعادتها.
كنت أشاهدها (وفي غفلة منها)، وهي تقرب المرآة من فمها، وتخرج لسانها المبتور تضعه بين سبابتها وإبهامها، وتحاول إيصاله بلسانها، تركبه تركيباً، وأول ما تتخلى سبابتها، وإبهامها عنه يسقط داخل فمها، أو على الأرض، تحمله كطفل رضيع، وتسرع بغسله بالماء، وهي تجهش بالبكاء، مرات عديدة قفزت للثلاجة، وعادت بالقطعة المبتورة تتأملها، وتحاول وصلها بلسانها، وفي كل مرة تسقط القطعة المبتورة في فمها، أو على الأرض، حركة معادة لم تمل من القيام بها، وفي إحدى المرات لم تجد لسانها المبتور الذي تحتفظ به في مكانه، فأخذت تبكي بحرقة، وهي تقلب محتويات (الفريزر) بحثاً عنه، احتاجت أن تفرغ (الفريزر) من كل محتوياته علها تجد قطعتها المبتورة أسفل ما تخزنه هناك.

حاولت عبثاً أن ألحق بالقط الذي التهم تلك القطعة المبتورة، ادعت عمتي أنها تنظف الثلاجة، وامتدت يدها لترمي بلسان أمي المبتور لقمة سائغة لقط جائع دخل بيتنا في مراهنة على أكل ما يجده حتى ولو كان طوباً.

رأيتها تمد يدها لداخل الثلاجة، وتلقي بشيء نحو ذلك القط، تنبهت له، وهو يقلب بمخالبه القطعة المتجمدة، ويلعقها، كنت متحجراً بين لعقه لقطعة قذفت إليه، وبين زيغ نظرات عمتي، تصنعت أنها تبعده عن اللقمة التي استقرت بين مخالبه، زجرها المتراخي لذلك القط كان تحريضاً على التقاط ما قدمته له والهرب، كان تحريضاً صريحاً حينما اقتربت منه على مهل متظاهرة بمحاولة أخذها منه قبل أن تنشب بين أظافره، فـ(بسبست) عليه، ليفهم أنها اللحظة الأخيرة للهرب بصيده، وعلى عجل قضمها، وقفز بها خارج البيت.

ركضت خلفه بين الأزقة الملتوية، كان يمضغ لقمته، وهو يركض، قتلته بعد يومين قبل أن ينطق بعذابات أمي!
في الليالي التي يكون أبي عند إحدى زوجاته تنفرد أمي بنفسها جانباً، وتبدأ في تدريب لسانها على إخراج الكلمات السليمة، فتخرج كل الكلمات كسيحة لا تبين معنى، وتظل تعالج بُكْمَها في محاولات مستميتة لنطق اسم أبي، وكلما عجزت تناشجت نشيجاً محموماً ودفنت رأسها في وسادتها.

اعتزلت الخروج، ولم تعد تقوم بزيارة الجارات، واكتفت بالعمل داخل البيت، والانشغال بالتنظيف، والطهو، والغزل، ولا تخرج لاستقبال أحد من القادمات لبيتنا، فتجد العمة خيرية الفرصة سانحة لوصمها بكل النعوت التحقيرية على مسامع الزائرات من كونها امرأة معطوبة، لا تخرج من غرفتها بتاتاً، ولا تعمل شيئاً سوى الاستلقاء على سريرها، وتأتأة الكلمات الغريبة.
في الليل تنفرد عمتي بمشاهدة التلفاز المصري بنشوة غامرة، وهي تردد المفردات باللهجة المصرية، وتضحك على لكنتها المصرية.