ينبع في العهد النبوي : ( على نبينا محمد أفضل الصلاة وأتم التسليم) :

من أولى الأحداث التي ارتبطت بينبع في هذا العهد المبارك (غزوة ودّان) التي وقعت في السنة الثانية من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم حيث خرج غازياً في شهر صفر حتى بلغ ودَّان وهي بجوار الأبواء ، يريد قريشاً وبني ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانه فوادعته فيها بني ضمرة ، ووادعه مخشي بن عمرو الضمري ، ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة ، ولم يلق كيداً ، وهي أول غزوة غزاها.(انظر: ابن هشام: السيرة النبوية، تحقيق طه عبدالرؤوف سعد، 1975، دار الجيل ، بيروت، ج2، ص170ـ171) .

ويذكر عبدالكريم الخطيب أن ودان هذه قرية منورة الغربية من ينبع البحر . (انظر: تاريخ ينبع، ص185) .

كما غزا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في شهر ربيع الأول يريد قريشا حتى بلغ (بواط) من ناحية رضوى ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيداً فلبث بها بقية شهر ربيع الآخر وبعض جمادى الأولى . ورضــوى كما سبق ذكره جبل بينبع . (انظر : ابن هشام ، السيرة النبوية ، ج2، ص176. مع العلم أن ودان وبواط ليستا بحريتين) .

ومن الرايات التي عقدها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لبعض أصحابه باتجاه ساحل البحر الأحمر بهدف اعتراض قوافل قريش ، سرية عبيدة بن الحارث ، والتي عدها ابن هشام أول راية عقدها عليه الصلاة والسلام ، وسار بها حتى بلغ ماء بالحجاز بأسفل ثنية المرة .(ثنية المرة بالكسر وتشديد الراء، قرب ماء يدعى الإحياء من رابغ، انظر السمهودي: وفاء الوفاء، ج4، ص1167) .

ولقي بها جمعاً كبيراً من قريش إلا أنه لم يكن بينهم قتال ، إلا أن سعد بن أبي وقـاص رضي الله عنه رمى فيها بسهم ، فكان أول سهم رُمي به في الإسلام . (انظر : ابن هشام : السيرة النبوية، ج2، ص171) .

وتلت هذه السرية سرية حمزة بن عبدالمطلب رضي الله عنه إلى سيف البحر من ناحية العيص من المهاجرين ، ولقي أبا جهل في ثلاث مئة راكب من أهل مكة إلا أن مجدي بن عمرو الجهني حجز بينهما ، وكان موادعاً للفريقين ، فلم يقع قتالٌ . (انظر : ابن هشام ، ج2، ص174) .

غزوة العشيرة:

نزل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم العشيرة من بطن ينبع غازياً ، فأقام بها جمادى الأولى وليالي من جمادي الآخرة ، من السنة الثانية للهجرة وادع فيها بني مدلج وحلفاءهم من بني ضمرة ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيداً في تلك الغزوة وقال لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه مالك يا أبا تراب؟ لما يرى عليه من التراب ، فقد حدَّث عمار بن ياسر رضي الله عنه قال : كنت أنا وعلي بن أبي طالب رفيقين في غزوة العشيرة ؛ فلما نزلها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وأقام بها ؛ رأينا أنُاساً من بني مدلج يعملون في عين لهم وفي نخل . فقال لي علي بن أبي طالب : يا أبا اليقظان ، هل لك في أن نأتي هؤلاء القوم ، فتنظر كيف يعملون ؟ قال : قلت : إن شئت ؛ قال : فجئناهم، فنظرنا إلى عملهم ساعة ، ثم غشينا النوم . فانطلقت أنا وعلي حتى اضطجعنا في صدر من النخل وفي دقعاء من التراب فنمنا ، فوالله ما أهبنا إلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحركنا برجله . وقد تتربنا من تلك الدقعاء التي نمنا فيها ، وبعد قوله : يا أبا تراب قال : ألا أحدثكما بأشقى الناس رجلين ؟ قلنا : بلى يا رسول الله ؛ قال : أحيمر ثمود الذي عقر الناقــة ، والذي يضربك يا علي على هذه ـ ووضع يده على قرنه ـ حتى يبل منها هذه . وأخذ بلحيته.(انظر : ابن هشام : السيرة النبوية : ج2، ص176ـ177) .

إلا أن وصف علي بن أبي طالب رضي الله عنـــه بأبي تراب ورد في حديث سهل بن سعد . قال : جاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، بيت فاطمة فلم يجد علياً في البيت . فقال : " أين ابن عمك ؟ " قالت : كان بيني وبينه شيء ، فغاضبني ، فخرج ، فلم يَقِلْ عندي . فقـال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لإنسان : " انظر أين هو " فجاء ، فقال : يا رسول الله ! هو في المسجد راقد . فجاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو مضطجع ، قد سقط رداؤه عن شقه ، وأصابه ترابٌ . فجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يمسحه عنه ، ويقول : " قم أبا تراب ! قم أبا تراب " متفق عليه وأخرجه البخاري في كتاب الصلاة باب نوم الرجال في المسجد ، ( انظر محمد فؤاد عبد الباقي : اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان ، ج3، ص133) .

ينبع في العهد العباسي:

لعل أول وأهم الأحداث التي ارتبطت بالحجاز وأحد ثغوره( ينبع ) في العهد العباسي " ثورة محمد بن عبد الله ذي النفس الزكية " رحمه الله . وهو محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ، أبو عبد الله الملقب بالأرقط ، وبالمهدي ، وبالنفس الزكية ، ولد ونشأ بالمدينة ، وكان يقال له صريح قريش ، لأن أمه وجداته لم يكن فيهن أم ولد . (انظر : ابن الأثير : الكامل ، ج5، ص12، وابن الطقطقا : محمد بن علي بن طباطبا : الفخري في الآداب السلطانية والدول الإسلامية ، دار صادر ـ بيروت، 1386هـ ـ 1966م، ص165ـ166، وانظر الزركلي : الأعلام، ج6، ص220 ) .

ولما أعلن أبو العباس السفاح الخلافة عباسية رفض النفس الزكية مبايعته ، ولما تولى أبو جعفر المنصور الخلافة لم تكن له همة إلا طلب النفس الزكية والسؤال عنه ، واختار أبو جعفر رجلاً من رجاله يقال له عقبة بن أسلم، أعده لمهمة كشف حقيقة ما يخبئه آل علي له ، واستطاع عقبة هذا أن يأخذ ما أراد من عبد الله بن الحسن بالحيلة والدهاء وعرف منه أن ابنيه محمد وإبراهيم خرجا لطلب الخلافة ، فنقل ذلك لأبي جعفر ، وفي رحلة حج للمنصور سجن عبد الله بن الحسن ، ولم يكتف بذلك بل بعث عيناً له وكتب معه كتاباً على ألسنة الشيعة ، إلى محمد يذكرونه طاعتهم ، ومسارعتهم ، وبعث معه بمال وألطاف ، فقدم الرجل المدينة ، فدخل على عبد الله بن حسن فسأله عن محمد فذكر له أنه في جبل جهينة (أي جبل رضوى بينبع) وقال : امرر بعلي بن حسن ، الرجل الصالح ، الذي يدعى الأغر وهو بذي الإبر ، فهو يرشدك ، فأتاه فأرشده. ولكن كان لأبي جعفر كاتب على سره متشيعاً، فكتب إلى عبد الله بن حسن بأمر ذلك العين، وما بُعث له، فقدم الكتاب على عبد الله، فارتاعوا وبعثوا أبا هبار إلى علي بن الحسن وإلى محمد ليحذرهم الرجل، فخرج أبو هبار حتى نزل بعلي بن حسن، فسأله فأخبره أن قد أرشده اليه، قال أبو هبار: فجئت محمد إلى موضعه الذي هو به، فإذا هو جالس إلى كهف معه عبد الله بن عامر الأسلمي، وابني شجاع وغيرهم، والرجل معهم أعلاهم صوتاً، وأشدهم انبساطاً، فلما رآني ظهر عليه بعض النكرة، فجلست مع القوم، فتحدثت ملياً، ثم أصغيت إلى محمد، فقلت: إن لي حاجة فنهض، ونهضت معه فأخبرته بخبر الرجل، فاسترجع، وقال: فما الرأي؟ فقلت: إحدى ثلاث أيها شئت فافعل، قال: وما هي؟ قلت، تدعني فأقتل الرجل قال ما أنا بمقارف دماً إلا مكرهاً: أو ماذا؟ قلت توقره حديداً تنقله معك حيث انتقلت قال: وهل بنا فراغ له من الخوف والإعجال: وماذا؟ قلت تشده، وتوثقه وتودعه بعض أهل ثقتك من جهينة. إلا أن هذا الرجل عين أبي جعفر هرب منهم وأبلغ المنصور بأمرهم. واشتد طلب المنصور لمحمد بن عبد الله، وخرج إلى محمد النفس الزكية والي ينبع من قبل المنصور بالخيل والرجال، فهرب النفس الزكية من جبل رضوى، وأثناء ذلك أفلت له ولد صغير من الجبل فتقطع.

ولما حج المنصور سنة 144هـ وفي عودته من الحج أخذ معه بني الحسن وجعلت القيود والسلاسل في أرجلهم وأعناقهم، وكان يراقب هذا الموقف جعفر الصادق من وراء ستر وهو يبكي ودموعه تجري على لحيته وهو يدعو الله ثم قال: والله لايحفظ الله حرميه بعد هؤلاء، وكان محمد وأخوه إبراهيم يأتيان إلى أبيهما ويستأذنانه بالخروج ويقول لاتعجلا حتى يمكنكما ذلك.

وسجنهم المنصور بقصر ابن هبيرة شرقي الكوفة، وأحضر المنصور محمد بن إبراهيم بن الحسن ـ وكان أحسن الناس صورة. فقال له: أنت الديباج الأصغر: قال: نعم قال: لأقتلنك قتلة لم أقتلها أحداً ثم أمر به فبنى عليه اسطوانة وهو حي فمات فيها، وكان ابراهيم بن الحسن أول من مات منهم، ثم عبد الله بن الحسن. وذكر أن المنصور أمر بقتلهم وقيل بل سقوا سماً.

دفعت هذه الأحداث، وإلحاح المنصور في طلبه محمداً أن يخرج فخرج قبل وقته الذي فارق عليه أخاه إبراهيم، فأنكر ذلك، ولكن إبراهيم تأخر عن وقته لجدري أصابه، وقد خرج في أول يوم من رجب (145هـ) وفي رواية لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة، واستطاع السيطرة على المدينة.

كلف أبو جعفر المنصور عيسى بن موسى بقتـال النفس الزكية وقـال: لا أبالي أيهما قتل صـاحبه، وأرسل معه 4000 من الجند وكتب إلى عيسى بن موسى من لقيك من آل أبي طالب فاكتب إلي باسمه ومن لم يلقك فاقبض ماله، فقبض عين أبي زياد "في ينبع"، وكانت لجعفر بن محمد "الصادق"، فلما قدم على أبي جعفر كلمه جعفر، قال: مالي قال: قد قبضه مهديكم.( انظر: الطبري: الأمم والملوك، ج4، ص402ـ412 (أحداث سنة 144). وابن الأثير: الكامل في التاريخ، ج4، ص374ـ376. الطبري: الأمم والملوك، ج4، ص422 ـ 423. ، ج4، ص437).

ينبع في العهد الأيوبي:

ومن قرية العلقمية بينبع ظهر مؤسس الطبقة الرابعة من أمراء مكة الأشراف في العام 597هـ (الشريف قتادة ابن إدريس بن مطـاعن بن عبد الكريم بن عيسى بن حسين بن سليمـان بن علي بن عبد الله بن محمد بن موسى بن عبد الله بن موسى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ويكنى أبا عزيز الينبعي المكي) وكان هو وأهله يسكنون العلقمية من ينبع، وأصبح في قومه رئيساً، فجمعهم، وأركبهم الخيل، وحارب الأشراف بني حراب، من ولد عبد الله بن الحسن بن الحسن، وبني علي، وبني أحمد، وبني إبراهيم. ومن دوافع توجهه إلى مكة ما وصله من أخبار بني عمه الهواشم بني فليته من انهماكهم في اللهو، وتبسطهم في الظلم، وأعد نفسه وقومه وتوجه إلى مكة وقيل إنه لم يذهب بنفسه بل بعث ابنه حنظلة فملك مكة، وخرج منها مكثر بن عيسى بن فليته آخر أمراء مكة من الهواشم (وهم الطبقة الثالثة).

وكان قتادة مهيباً، وقوراً قوي النفس شجاعاً مقداماً، فاضلا وله شعر، ومن شعره عندما طلبه الخليفة العباسي الناصر أن يَقدُم عليه ببغداد وافق في أول الأمر ثم تراجع خشية أن يُغدر به :



ولـي كف ضرغــام أصول ببطشـــها
وأشــرى بهــا بين الــورى وأبيـع

تظــل ملــوك الأرض تلثـم ظهرهــا

وفي بطنهــا للــمجــــدبين ربيـع

أ أجعلـها تحت الثــرى ثــم أبتغـــي

خــلاصاً لهــا إني إذاً لرقيـــــع
ومــا أنــا إلا المسـك في كل بلـــدة

أضــوع وأمــا عنــدكم فأضيـــع




ويذكر ابن الأثير أن ولايته اتسعت من حدود اليمن إلى المدينة، وله قلعة بينبع،، وأكثر من العسكر والمماليك، وخاف العرب في تلك البلاد منه خوفاً عظيماً، وكان أول ملكه حسن السيرة، فقد أزال عن مكة العبيد المفسدين، وحمى البلاد، فأحسن إلى الحجاج وأكرمهم، إلا أنه بعد ذلك وفي آخر أيامه ساءت سيرته، وتوفي في 617 أو 618هـ في شهر جمادى الأولى أو الآخرة.(انظر : ابن الأثير: الكامل في التاريخ، ج9، ص345 حوادث سنة 618هـ ،وانظر ابن عنبه: عمدة الطالب، ص166، وانظر تاريخ ابن خلدون، ج4 ص134ـ136، الفاسي: العقد الثمين، ج5، ص463ـ475، وانظر عبد العزيز بن فهد، غاية المرام بأخبـار سلطنة البلد الحـرام، ج1، ص550ـ555، وانظر عبد الملك بن حسين وانظر العصامي: النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي، 1379، المطبعة السلفية، القاهرة، ج4، ص207ـ214،وانظر : السنجاري: منائح الكرم ، ج2، ص266ـ269 وانظر : الدحلان : خلاصة الكلام، ص23 ،وانظر سنوك: صفحات من تاريخ مكة، ج1، ص173ـ176، وانظر: السباعي: تاريخ مكة، ص224ـ227).

وفي العام 621هـ وفي خضم التنافس بين حكام مصر وحكام اليمن على مكة اشترى الأيوبيون في مصر ينبع من الأشراف بني الحسن وقصدوا بذلك الإشراف المباشر على ميناء ينبع، وقدر المبلغ الذي تم دفعه للأشراف بأربعة آلاف مثقال، ولم تزل بأيديهم إلى سنة 630هـ، وأقاموا فيه بعض الإنشاءات، ورغم استعادة الأشراف السيطرة على الميناء إلا أن الأيوبيين استرجعوه وبنوا فيه قلعة حصينة ووضعوا فيه عسكراً لحمايته، وبالتالي أصبحت ينبع الميناء سيدة الأحداث القادمة، اُتخذت الميناء الرئيسي للمدينة وأصبحت في المرتبة الثانية بعد جُدة. وبالرغم من سيطرة الأيوبيين بقيت ينبع ملاذاً لأمراء مكة في صراعاتهم الداخلية، فكانت أحياناً تؤوب إليها الأحداث من مكة، وأحياناً تنطلق منها بخروج أمير من بني الحسن منها أو بدخول أمير من بني الحسن إليها.. وفي سنة 700هـ نال ينبع خير عندما نزل بها الأمير بكتمر الجو كندرا وأنفق في حجته خمسة وثمانين ألف دينار، فقد جهز سبعة مراكب في البحر الأحمر تحمل الغلال والدقيق وأنواعاً من العسل والسكر والزيت والحلوى وغير ذلك، وعند وصوله ينبع وصل من هذه المراكب ثلاثة ففرق كثيراً من محتوياتها بين الحجاج الذين يمرون ينبع بحراً أو براً، وكذلك نال أهل ينبع منها نصيب، وكذلك فعل في جُدة ومكة، ولم ينس أيضاً حجاج الشام.( انظر: المقريزي: السلوك، ج1، ص337، والنجم عمر بن فهد: إتحاف الورى، ج3، ص39. وانظر حمد الجاسر: بلاد ينبع، ص49. المقريزي: السلوك،ج2، ص342، وابن فهد: إتحاف الورى، ج3، ص132).

ينبع في العهد المملوكي:

وفي العام 792هـ وفي خضم صراع الشريف عنان من أجل الوصول إلى الإمارة، وفي طريق عودته من مصر يرافقه مندوب تركي من السلطان لتقليده الإمارة بمكة مر بينبع، فشجعه أمير ينبع وبير بن مخبار على مشاركته في قتال بني إبراهيم حتى انتصروا عليهم، فتوجه عنان بعد ذلك إلى مكة.(انظر: الفاسي: العقد الثمين، ج5، ص421، وابن فهد: إتحاف الورى، ج3، ص377).

وفي العام 794هـ عين الشريف علي بن عجلان أميراً على مكة، لكن الأشراف بمكة كانوا على خلاف معه ولم يساندوا إمارته، فتركوا مكة عام 795هـ إلى بحرة قرب جُدة فلحقهم علي بن عجلان إلى بحرة فرحلوا إلى جُدة أملاً في أن يستولوا على مركب سلطاني قادم من مصر، فلما علم بذلك اضطر إلى إعطائهم 400 غرارة قمح فلم يرضوا فزادهم مئة أخرى فرضوا وخرجوا من جُدة. وأدت هذه الصراعات إلى تضعضع الأمن في مكة وجُدة فما كان من التجار إلا أن نقلوا تجارتهم إلى ميناء ينبع.(انظر:ابن فهد: إتحاف الورى: ج3، ص388ـ389، الدحلان: خلاصة الكلام، ص36).

وفي ينبع وفي سنة 798هـ اضطر أميرها وبير بن مخبار إلى تسليم مبلغ ثلاثين ألف درهم مقابل ما استولى عليه من القمح وغيره إلى الشريف حسن بن عجلان الذي قدم من مصر وبرفقته جماعة من الترك ليقلدوه الإمارة في مكة بعد أن هدد أمير ينبع بالحرب.(انظر: الفاسي: العقد الثمين: ج3، ص349، ابن فهد: إتحاف الورى: ج3، ص398).

وفي سنة 809 تم القبض على عامل جُدة جابر الحراشي بأمر من أمير مكة، فصودرت أمواله وسجن بمكة، ثم أُخرج من السجن بشفاعة صاحب صنعاء، وأعيد إليه جزء من ماله، وتوجه إلى اليمن، وذكر النجم ابن فهد أن مكاسب أمير مكة من التجار والحراشي بلغت قرابة 40.000 مثقال.

وفي نفس العام في شهر رمضان وصل أميرا ينبع الشريفان وبير ومُقبل ابنا مخبار إلى أمير مكة حسن معلنين ولاءهما له، وزال مابينهم من خلاف. وفي عام 812هـ عاد ولاؤهما له، وزال مابينهم من خلاف. وفي عام 812هـ عاد الحراشي إلى الأحداث وسعى جاهداً للانتقام من حسن بن عجلان بالذهاب إلى مصر وتشجيع السلطان على عزله إلا أن سعيه باء بالفشل، وأثناء عودته من مصر مع الحاج سكن ينبع وتقرب إلى ولاتها، وبنى لهم بها قلعة وسوراً ورغم ما اكتسبه من مال لكنه ما زال يرغب في العودة إلى مكة.

وفي العام 815هـ غضب أمير مكة من جابر الحراشي وسعى إلى إخراجه من ينبعَ لما بلغه من أنه يشجع حاكم اليمن على صرف المراكب من ميناء جُدة إلى ميناء ينبع، فكان أن خرج الحراشي من ينبع إلى مصر وأخذ يحرض السلطان المملوكي على أمير مكة حسن بن عجلان فلم تنجح محاولته وأُعيد إلى الحجاز برفقة الحاج مكبلاً بالحديد فعفا عنه أمير مكة، بل وفوض إليه أمر جُدة مرة أخرى.

وينال ينبع كذلك نصيبٌ من هذه الصراعات ومن ذلك ما حصل عام 825هـ عندما نزل الأمير جانبك الخازندار ينبع في شهر ذي الحجة لقتال الشريف مقبل أمير ينبع، وبرفقته عقيل بن وبير الحسني الذي منحه السلطان إمرة ينبع، واضطر مقبل بقبول عقيل شريكا له في الإمارة، فما أن غادر الحاج ينبع حتى عاد القتال بين الأميرين . وانتصر مقبل على عقيل ابن أخيه، ولما عاد الحاج إلى ينبع هاجم المماليك الأمير مقبل، وقتل في ذلك جماعة من الأشراف من بني حسن وكثر السلب والنهب في ينبع في الأشراف وغيرهم، وما إن خرجوا من ينبع حتى عاد مقبل لقتال ابن أخيه عقيل على الإمارة إلا أنه لم يتمكن من ذلك وهزم في عام 828 وحمل الشريف مقبل في الحديد إلى الإسكندرية وسجن بها.(انظر: الفاسي: العقد الثمين، ج3، ص359، ابن فهد: إتحاف الورى، ج3، ص450ـ451. المقريزي: السلوك، ج7، ص67ـ68، ص116).

ومازالت ينبع منطلقاً لبعض الأحداث، فتقبل إليها الأحداث وتدبر فتحل في مينائها حملات الحجيج ويصطدم امراؤها بأمراء الحج فيسيرون معهم أو يسيرون ضدهم، ومازالت ملاذاً لأمراء مكة والثائرين من أشرافها، فلايمر عام دون أن يكون هناك ذكر لينبع في أحداث الحجاز الداخلية. وفي العام 827هـ وصل أمير الحاج المصري الأمير قرقماس في ربيع الأول إلى ينبع يحمل أمراً بعزل حسن بن عجلان وتولية علي بن عنان وأشرك معه أهل ينبع والصفراء والمدينة فالتقى بهم الأمير الجديد في ينبع ودخلوا مكة في جمادى الأولى وتوجه الأمير الجديد إلى جُدة لملاطفة التجار القادمين إليها وتشجيعهم على الرسو في ميناء جُدة.(انظر : ابن فهد: إتحاف الورى، ج3، ص604).

وفي العام 872هـ عادت ينبع أيضا إلى واجهة الأحداث معلنة بداية صراعات مسلحة وأحداث سياسية متلاحقة، عندما قتل سبع وسّباع ولدا هجار من أمراء ينبع، ويشير ابن فهد إلى أنهما قتلا في صراع مع قطاع طرق للحج، ويذكر ابن إياس أن أمير ينبع خنافر بن وبير قتلهما، فكانت تلك الحادثة بداية سلسلة من الصراعات انطلقت من ينبع.

وفي عام 875هـ أقر السلطان الأشرف قايتباي في إمرة ينبع الشريف سبع بن خنافر.

ونال هذا الشريف أيضاً خُلَع السلطان عام 883هـ، وتقرير ما له في إمارة ينبع. (انظر: ابن فهد: إتحاف الورى، ج4، ص485، وانظر: محمد بن أحمد الحنفي"ابن إياس" : بدائع الزهور في وقائع الدهور، تحقيق محمد مصطفى، الطبعة الثانية، القاهرة، 1383ـ1963، ج3، ص15ـ16،ص60،ص147).

ففي ينبع قام الأمير دراج (من نسله الأشراف ذوي هجار القاطنين بينبع النخل إلى الوقت الحاضر). بدور نبيل في حفظ مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم من عبث أميرها حسن بن الزبير الذي تهجم على مخزون الحجرة الشريفة، ودخل المدينة في شهر ربيع الأول من عام 901هـ وسيطر على الأوضاع بالمدينة واطمأن الناس بوصوله إليها. إلا أن هذا الأمير دراج توفي عام 902هـ، وتنازع أبناؤه على إمرة ينبع فبرز منافس قوي من الأشراف لأبناء دراج على الإمارة فتح باباً لصراع سياسي وعسكري فترة من الزمن هو يحيى بن سبع، وبالرغم من توليه الإمارة في جمادى الآخرة من عام 903هـ إلا أن ذلك لم يصدر من السلطان المملوكي إنما من أمير مكة فحمل هذا الأمير الينبعي على المماليك ودخل معهم في صراع مسلح مستعيناً بقبائل ينبع وماجاورها في قطع طريق قوافل أمراء الحج المماليك.

ودخل في حلبة هذا الصراع أمير مكي خارجًا على إخوته ، هو أحمد بن محمد بن بركات المعروف بالجازاني، وعاشت الحجاز فترة من الصراع الحامي حتى هُزِم ابن سبع عام 912هـ.(انظر: ابن إياس: وبدائع الزهور: ج3 ص318،386،ج4،ص36، حمد الجاسر: بلاد ينبع، ص51ـ56).

وتواصلت الصراعات في مكة وماحولها بسبب الجازاني وابن سبع في هذا العام وما بعده، ونالت جُدة منها نصيباً، فما أن يخرج أمير من مكة حتى يهاجم جُدة ليسيطر على تجارتها ويجبي مكوسها ويمول عسكره ورجاله استمراراً للصراع المسلح. وقتل الجازاني عام 909هـ في شهر رجب وهو يطوف بالبيت العتيق.

وواصل أمير ينبع ابن سبع صراعه المرير مع الحجاج والمماليك، فما كان من السلطان قانصوه الغوري إلا أن أعد عدة حملات إحداها إلى مكة لقتال ابن سبع والأخرى إلى الكرك لقتال عرب بني لام حول العقبة والأخرى للهند لقتال البرتغاليين الذين أخذوا يهاجمون بلاد المسلمين في الهند وسواحل شرق أفريقيا ثم زحفاً إلى السواحل العربية في اليمن والحجاز. ويشير ابن إياس إلى البنائين والنجارين الذين توجهوا لجُدة لبناء السور حولها .

وفي خضم الصراع الذي أحدثه ابن سبع أمير ينبع، أقر السلطان في العام 912هـ الشريف هجار بن دراج أميراً لينبع. أمـلاً في الحد من قوة يحيى بن سبع.

وفي رمضان من نفس العام تمكنت حملة مملوكية من هزيمة يحيى بن سبع وجماعته وأتباعه إلا أن يحيى بن سبع استطاع الهرب. وتواصل الصراع وفي شوال وذي القعدة هاجم جيش مملوكي ينبع ودارت رحى معركة كبيرة بين الطرفين كانت الهزيمة على يحيى بن سبع، وقد غالى المماليك في الفتك والقتل بأهالي ينبع، ولما وصل الخبر إلى القاهرة احتفل احتفالاً كبيراً بهذا النصر، وحملت رؤوس أشراف ينبع على الرماح يُدار بها في شوارع القاهرة.

وفي حملة أخرى عام 913 تمكن المماليك من الانتصار على يحيى بن سبع وأعوانه من الأعراب وحمل إلى القاهرة ثمان مئة رأس من رؤوس العرب من بني إبراهيم الذين قتلوا في المعركة، وأشهرت على رؤوس الرماح في شوارع القاهرة.

ويرى السيد محمد بن عبد الله الحسيني الشهير بكبريت المدني صاحب "رحلة الشتاء والصيف" أن من أسباب انهيار دولة المماليك، ومقتل قانصوه الغوري مبالغته في قتل أشراف ينبع حتى بنى من رؤوسهم مسطبة، جلس عليها أمراء عسكره.(انظر:حمد الجاسر: بلاد ينبع، ص64، وانظر: عبد الكريم الخطيب: تاريخ ينبع، ص240).

ولما دخل العام 914هـ، سعى يحيى بن سبع للتقرب من السلطان المملوكي طالباً الصفح فأرسل ابنه، فأُعطى الأمان، وأُخلع عليه، وطلب منه إحضار أبيه. وفي رجب حضر يحيى بن سبع، فأرسل إليه السلطان أماناً، فدخل القاهرة، وأخلع عليه السلطان، ومنع من التعرض له.(انظر:ابن إياس: بدائع الزهور: ج4، ص47ـ138، العصامي: سمط النجوم العوالي: ج4، ص284ــ288).

وكانت ينبع تمارس دور حلقة الوصل السياسية بين مصر ومكة والمدينة وبالتالي هي محطة عبور للأحداث السياسية ما بين مصر والحجاز فكانت المراسيم السلطانية وأمراء الحاج ينزلون بينبع ومنها ينطلقون إلى مكة أو المدينة بعد إشراك أمراء ينبع وأهلها في أي حدث سياسي لمعرفتهم بالعلاقة التاريخية الوطيدة بين أمراء مكة من الأشراف وينبع، وبقدر ما قد ينال أهل ينبع من أذى وأضرار إلا أنهم أيضاً تنالهم الخلع السنية السلطانية والهدايا، وإذا وزع على الحجاج في ينبع معونات نال أهالي ينبع منها نصيبٌ، وما يكتسبونه من نزول وارتحال الحاج بمينائهم الهام. إلا أن ميناء جُدة هو الأبرز تجارياً والأحداث السياسية والصراعات المختلفة التي حامت حوله كلها تدور حول السيطرة على تجارة الميناء خاصة في القرنين الثامن والتاسع الهجريين. وساهم هذا الميناء في تجارة البحر الأحمر، حيث ترد إليه السفن بالغلال كل سنة، وتقدر قيمة تجارته كل عام بحوالي 30.000دينار. وبلغت ينبع أوج ازدهارها زمن سلاطين المماليك الجراكسة نتيجة الاصطلاحات الكثيرة التي أُدخلت على طريق الحج، مما أدى إلى تدفق الحجاج، فكانت ينبع محطة برية وبحرية في آن واحد لحجاج مصر والشام، وقامت بدور تجاري هام زمن المماليك، وأصبحت ينبع الميناء الثاني في الحجاز بعد جُدة إلا أن الصراعات السياسية بين المماليك والأشراف في ينبع ساهمت في الحد من دور ينبع خاصة السنوات الأخيرة من حكم المماليك في القرن العاشر الهجري.( انظر: أبو المحاسن: النجوم الزاهرة: ج16، ص300ـ301ـ360. ،وانظر:حمد الجاسر: بلاد ينبع، ص49. فهمي: نعيم زكي، طرق التجارة الدولية ومحطاتها بين الشرق والغرب، ص140. السليمان: علي حسين: العلاقات الحجازية المصرية، ص190 ـ 191).