أخي المعلم أهلا بهذا الحضور البهي أما الشكر فإنه لله أولا ثم لشاعرتنا عيدة العروي التي استطاعت أن تدفعنا إلى البحث ومراجعة التاريخ حتى نطلع على هذه الأوراق المجهولة من تاريخ الفرس ونعرف بعدها سر هذا التنافر الموجود بيننا وبينهم والذي لم يستطع الرباط الإسلامي الذي يدعونه أن يزيله .
الحلقة الثالثة
[align=right]المبحث الثالث [/align]
المانوية
[align=justify]
ولد ماني في ولاية مسين ببابل عام 215أو216 بعد نير ول المسيح عليه السلام . وقد ظهر في زمانسابور بن أزدشير،وقتله بهرام بن هرمز بن سابور عام279 لأنه جنح نحو الزهد الذي لا يناسب دولة بهرام المحاربة . وينتسب ماني إلى أسرة إيرانية عريقة ، فامة من العائلة الاشكانية المالكة ، وأبوه فاتك الحكيم من أطراف العائلة الاشكانية .. بدأ مانى دعوته في الهند مما جعل بعض المؤخرين يعتقدون أنه أخذ نظرية التناسخ من البوذية أو بعض المذاهب الهندية الأخرى (8). أخذ ماني عن الزردشيه قولهم بأن العالم مصنوع من أصلين : نور ، وظلمة . لكنه أختلف معهم ومع المجوس في اعتقاده بأنه النور والظلمة قديمان أزليان ،بينما يعتقد المجوس بان الظلام محدث وليس قديماً . وأخذ ماني عن النصرانية عقيدة التثليث ، فالإله عنده : مزيج من "العظيم الأول " ، و "الرجل القديم" ، و "أم الحياة " . وفي النصوص التي حفظت عن المانوية عبارات مأخوذة عن الأناجيل المسيحية (9) . ويعتقد ماني بتناسخ الأرواح ، وأن هذا التناسخ يقع على الأجزاء النورانية من الإنسان ، وآمن بنبوتي عيسى عليه السلام وزر دشت ، ويؤمن ماني بأنه خاتم الأنبياء ، وقد أرسل لتبليغ كلام الله إلى الناس كافة . وأطلق الفرس على ماني ومن تبعه " الزنادقة " وسبب هذه التسمية أن زر دشت جاء الفرس بكتاب اسمه " البستاه " وعمل له تفسيراً أسماه " الزند " وجعل للتفسير شرحاً أسماه " الباز ند " . وكان من أورد في شريعتهم شيئاً بخلاف المنزل الذي هو "البستاه" وعدل إلى التأويل ، وأنه منحرف عن الظواهر من المنزل إلى تأويل هو بخلاف التنزيل ، فلما جاءت العرب أخذت هذا المعنى عن الفرس وقالوا : زنديق ، وعربوه ، والثنوية هم الزنادقة ، ولحق بهؤلاء سائر من اعتقد القدم ، وأبي حدوث العالم وعلى رأسهم "المانوية " (10) . وللمانوية تنظيم دقيق ، فهيكل الجماعة يقوم على خمس طبقات متسلسلة كأبناء العلم ، وابناء العقل وأبناء الفطنة ، وآخر طبقة السماعون وهم سواد الناس ، ولكل طبقة من هذه الطبقات شروط وتكاليف .. ونجح ماني في إدخال أخوين لسابور في تنظيمه (11) وبعد أن لقي ماني مصرعه على يد بهرام ، اتخذ أتباعه عيداً لهم أسموه "بيما" ذكرى لمقتل نبيهم الشهيد ، واستمرت الدعوة بشكل سري بعد اضطهاد الزردشتين لهم .
المبحث الرابع
[align=center]المزدكية [/align]
مؤسسها مزدك بن بامداد ظهر أيام قباذ والد كسرى انو شروان في فارس عام 487 ، وبدأ دعوته كمؤمن بعقيدة ماني مع خلاف بسيط فهو يرى أن النور يفعل بالقصد والاختيار والظلمة تفعل على التخط والاتفاق . ومزدك رجل تنفيذ وليس رجل زهد كماني ، ولهذا نهى الناس عن المخالفة والمباغضة والقتال ، ولما كان القتال بسبب عدم المساواة نادى بتقسيم الأرزاق بين الناس بالتساوى ، كما نادى بالاباحية وجعل الناس شركاء فيهما كاشتراكهم في الماء ، والنار ، والكلأ (12) . وحض بذلك السفلة على العلية ، وسهل السبيل للظلمة إلى الظلم ، وللعهار إلى قضاء بهمتهم ، وشمل الناس بلاء عظيم لم يكن لهم عهد بمثله ، وصاروا لا يعرف الرجل منهم ولده ، ولا المولود أباه ، ولا يملك الرجل شيئا مما يتسع به . وساعد المزدكيين على المضى بجرائمهم ، وتحقيق الشيوعية التي يدعون إليها ، استجابة قباذ لهم وتعاونه معهم ، وكان أخوه جاماسب وأحدا منهم . ولقد قوى أمرهم حتى كانوا يدخلون على الرجل في داره فيغلبونه على منزله ونسائه وأمواله (13). وكان أتباع مزدك يزهدون في أكل لحم الحيوانات ، وإذا ضافو أنسانا لم يمنعوه من شيء يلتمسه كائنا ما كان ، ولهم فلسفة خاصة في الاباحيه فهم يرون أن العاديين من الناس لايستطيعون التخلص من حب اللذات المادية غلا في اللحظة التي يستطيعون فيها إشباع هذه الحاجات بالاختيار . وبعد أن كانت المزدكية مذهبا دينيا صارت مذهبا اجتماعيا ، وقوانين ثورية ، ومباديء شيوعية ، وعم شرهم كل مكان حتى جاء كسرى الأول "انوشروان بن قباذ" فرد الأموال لأهلها ، وجعل الأموال التي لا وارث لها رصيد لاصلاح ما فسد .
وقال عنها أحمد أمين : " وبعد كسرى عاشت المزدكية فرقة سرية ... عاشت على هذا النحو أيام الدولة الساسنية ثم عادت إلى الظهور من جديد في بداية العصور الإسلامية (14) " .
ووصف بعض المؤرخين الثورة المزدكية فقالوا : فاذا حجاب الحفاظ والأدب قد ارتفع ، وظهر قوم لا يتحلون بشرف الفن أو العمل ، لاضياع لهم موروثة ، ولاحسب ولا نسب ، ولاحرفة ولا صناعة ، عاطلون ، مستعدون للغمز والشر وبث الكذب والافتراء ، بل هم من ذلك يحيون في رغد من العيش وسعة المال وهكذا عم التطاول كل مكان ، واقتحم الثوار قصور الأشراف ، ناهبين الأموال ، مغتصبين الحرائر ، وكانوا يملكون هنا وهناك ، أراضي تلفت لأن السادة الجدد لا يعرفون الزراعة (15) .
نتائج البحث :
من خلال استعراضنا لأهم أديان الفرس القديمة نستطيع أن نستخلص النتائج التالية (16) :
1- عبد الفرس قوى الطبيعة والأجرام السماوية ، وآلهة تمثل قوى أخلاقية ، أو آراء معنوية مجسمة ، وكان الدين عندهم يتدخل في أقل أمور الحياة اليومية ، وكان على الفرد أن يصلي للشمس أربع مرات أثناء النهار ، كما يصلي للقمر وللنار وللماء ، ونار البيت لا يجوز أن يخبو لهيبها . وهناك فرق بين المجوسية والثنوية ، ومن الأديان التي تنتسب للمجوسية : الكيومرثية ،الزروانية ، والزردشتية ، أما الأديان التي تنتسب إلى الثنوية فهي : المانوية ، المزدكية ، الديصانية ، ... والفرق بينهما أن المجوسية قالت بقدم النور وحدوث الظلام في حين قالت الثنوية بأن النور والظلمة أزليان قديمان فهما متساويان في القدم ومختلفان في الجوهر والطبع والفعل والمكان والأجناس والأبدان والأرواح . وعلى كل حال فالمجوسية والثنوية أصبحت من تراث الفرس والفرق بينهما بسيط ، فجميع أتباع هذه الديانات عبدوا النور والظلمة والشمس والقمر ، واعتقدوا بالحلول والتناسخ والأساطير والخرافات .
2- تأثرت ديانات الفرس باليهود والنصارى والبوذيين .فاليهود حلوا بلاد فارس منذ أن سباهم " بختنصر" وازداد عددهم في عهد الاشكانيين ، وقد نظم اليهود أنفسهم منذ القرن الأول الميلادي ، واعترف بعض ملوك فارس بهم ، وقد أنشأوا مدرسة (سورا) المشهورة في أوائل القرن الثالث الميلادي وصاهرهم ملوك الفرس ومرازبهم ، فامتزج الدم اليهودي بالفارسي فزوجة بختنصر كانت يهودية واسمها (دينارد) وكانت سبب رد بني إسرائيل إلى بيت المقدس (17) .وتأثرت ديانات الفرس باليهودية كما تأثرت بما عند اليهود من تنظيم وسرية وتقية ، واستمر أثر اليهودية في معتقدات الفرس في مختلف حقب التاريخ .وانتشرت النصرانية في كل مكان من إيران ، وعندما انتهى الحكم إلى الإشكانيين كان للجالية النصرانية مكان في الرها وكانت هناك اسقفيات كثيرة في المناطق الأرمنية والكردية والأهواز ، وحاولوا غير مرة أن يجمعوا كل الجماعات النصرانية تحت إدارة مركز واحد في المدائن ، غير أنهم فشلوا لأسباب ذاتية داخلية ، وعاش نصارى إيران في سلام وإن كان الموقف قد تغير عندما اعتنق قسطنطين الديانة النصرانية وقام نصارى إيران بالتآمر على سابور فاستشاط غضباً ، وبدأ اضطهادهم منذ عام 339 وحتى هلاك سابور الثاني . وكذلك لم يكن أزدشير الثاني خليفة سابور محباً للنصارى واستمر اضطهاد النصارى حتى جاء يزدجرد الأول 339-421 فتحسنت العلاقات النصرانية الزردشتية (18) .أما أثر النصرانية في معتقدات الفرس ، فسبق أن رأينا كيف جاءت المانوية بعقيدة التثليث والحلول مأخوذتين من عقيدة النصارى . واختلط رجال الدين الفرس بالبوذيين فأخذوا عنهم وأعطوهم وزاد هذا الاختلاط عندما كان أصحاب الديانة المغلوبة يفرون من بلادهم ويلتجئون إلى الهند أو الصين كما حصل للزردشتين والمانويين .
3- الزعامة الدينية في بلاد فارس كانت تتمثل في قبيلة من القبائل ، فالسيطرة الدينية قديماً كانت لقبيلة ميديا وفي عصر أتباع زردشت أصبحت السيطرة لقبيلة المغان . ورجال القبيلة الدينية هم ظل الله في الأرض وقد خلقوا لخدمة الآلهة ، والحاكم يجب أن يكون من هذه القبيلة ، وتتجسد فيه الذات الإلهية ، وتتولى هذه العائلة شرف سدانة بيت النار .إن عبادة الله عن طريق القبيلة هو الذي دفع الفرس إلى التشيع لآل البيت لاحباً بآل البيت ولكن هذا التصور يلائم عقيدة المجوس .
4- السرية أصل من أصول عقائد المجوس : فالزرادشتيون استمروا يعملون وينشطون بكل سرية بعد أن تعرضوا للاضطهاد على أيدي أتباع مزدا والمانوية تحولت إلى حركة سرية بعد أن بطش بهرام بن هرمز بهم والمزدكية أصبحت دعوة سرية بعد أن نكل بهم أنو شروان . ومع السرية كانت أديان الفرس منظمة تنظيماً هرميا دقيقاً يراعون به ظروف العصر ، وكانت تنظيماتهم من القوة بحيث تمكنهم من الوصول إلى قصور الحكام في حالات ضعفهم ، أما في غير حالات الضعف فالحكام من أفراد القبيلة التي ترعى شؤون الدين .
5- تاريخ أديان الفرس يمتاز بالفتن وكثرة الثورات ومن الأمثلة على ذلك أن ثورة عارمة وقعت بين بابك وجوتجهر ، ثم نشيت فتنة بين سابور وأزدشير .
وفي هذه الفتن والمعارك كان الأخ يقتل أخاه والأب يقتل إبنه بدون رحمة ولا شفقة ، وعندما يشعر ملوك فارس بان الخطر قد أحاط بهم كانوا ينقضون على من يزعمون أنهم أنبياء لهم ، فبهرام بن هرمز قتل ماني ، وكسرى أنوشروان قتل مزدك . وعلى ضوء معرفتنا لهذه الحقيقة نعلم أسباب الثورات والفتن في البلاد التي يسيطر عليها المجوس في عصرنا هذا كما نعلم لماذا كانوا ومازالوا يصفون خصومهم عن طريق الاغتيالات . [/align]
الهوامش
ــــــــــــــــــــــــــــ
[align=right]
(8) إيران في عهد الساسانيين لكريستنس ، ص171
(9) إيران في عهد الساسانيين لكريستنس ، ص171
(10) مروج الذهب للمسعودي ، جـ1 ، ص 251
(11) إيران في عهد الساسانيين لكريستنس ، ص169
(12) الملل والنحل للشهرستاني جـ1،ص249 طباعة دار المعرفة
(13) تاريخ الطبري جـ1 ، ص137
(14) فجر الإسلام لأحمد أمين جـ1 ، ص 137
(15) إيران في عهد الساسانيين لكريستنس ، ص343 ترجمة يحيى خشاب.
(16) الملل والنحل للشهرستاني جـ1،ص244 طباعة دار المعرفة
(17) مروج الذهب للمسعودي ، جـ1 ، ص 288
(18) إيران في عهد الساسانيين لكريستنس ، ص253 ترجمة يحيى خشاب.[/align]
يتبع
المفضلات