ومازالت نساء هذا العصر يلجأن إلى مساحيق الألوان لتبديل ألوان بشراتهن وشعورهن وأظفارهن وملابسهن بقصد إضفاء الجمال والفتنة عليهن. ولا نكاد نرى شيئاً في هذا العالم يخلو من عنصر اللون, ولذا فإن لعنصر اللون الدور الأكبر في بناء اللوحة الفنية التشكيلية لما يحمله من شحنات نفسية وقيم جمالية وقدرة تعبيرية ورمزية وتأثير مباشر على بصر المشاهد المتلقي ونفسه ووجدانه. والمتلقي الذوّاقة يحتاج إلى تدريب عينيه على كل ذلك وتثقيف نفسه بكل جديد حول الألوان وما تتضمنه من قيم. ومن الناس مَن يعتقد أن هناك ألواناً جميلة وأخرى غير جميلة. والحقيقة بخلاف ذلك, فكل الألوان جميلة وممتعة عندما توضع في الأماكن المناسبة لها. وكلها تبدو غير جميلة عندما توضع في غير ذلك.
وعلى سبيل المثال: اللون الأسود جميل جداً على العباءة السوداء والشعر الأسود والعينين الحوراوين, ولكنه قبيح جداً عندما نطلي داخل غرفة الجلوس باللون الأسود. أو نطلي مبنى كاملا باللون الأسود. دون أن نحرّك هذا اللون ونخفف من عتمته وكآبته بألوان أخرى أكثر زهواً. والمشاهد المواظب على زيارة المتاحف ومعارض الفنون الجميلة يستطيع أن يرتقي بذوقه صعوداً حتى يصل إلى حالة من حالات النشوة والمتعة في ارتشاف الألوان وتذوّقها.
وعلى سبيل المثال أيضا: يميل الإنسان الريفي دائماً إلى الألوان البكر القوية الصارخة الطاغية كالأحمر القاني والأصفر الفاقع والأخضر الزمردي والأزرق النيلي, لارتباط ذلك بمشاعره البكر الجيّاشة العارمة التي لم تهذبها يد المدنية. بينما يميل الإنسان الحضري إلى الألوان الهادئة الممزوجة والمطفية والمكسورة كالأبيض الحليبي والسكري والسمني والبيج والعسلي والرمادي, ولو نقل ابن الريف إلى المدينة ليعيش فيها لتدرج بذوقه وتذوقه من الألوان البكر الطاغية إلى الألوان الهادئة المطفية. ولا أريد أن يفهم من هذا المثال أن الألوان الهادئة المطفية أكثر جمالاً أو رقيّاً من الألوان البكر القوية لأن الألوان كلها جميلة ورائعة عندما توضع في أماكنها المناسبة وتوظف التوظيف الصحيح - كما أسلفت - ولكني أردت أن أعطي مثالاً عن كيفية التدرج والارتقاء في ارتشاف الألوان وتذوّقها, من خلال المخالطة والمعاشرة والدراسة والثقافة, وزيارة المعارض الفنية والاحتكاك بالفنانين, والاطلاع على كل جديد في عالم الفنون الجميلة. وهنا تحضرني حادثة الشاعر العربي البدوي الذي حضر إلى أحد الخلفاء مادحاً فقال له:
أنت كالكلب في حفاظك للود
وكالتيس في قراع الخطوب
...إلخ القصيدة.
فعرف الخليفة - بعقله الراجح وحسّه السليم - أن الشاعر لم ير خيراً من الكلب مثالاً للوفاء في باديته ومحيطه. ولم ير أشجع من التيس في الصراع ومقارعة الخصوم. في تلك البيئة الجرداء القاحلة وأنه استخدم هذه العبارات الخشنة الجافة لشدة ملازمته لأهل البادية وبعده عن أهل الحضر.
فأمر له بدار حسنة ومتاع وكساء. وأمر بعضاً من حاشيته أن يتعهده بالرعاية والعناية ومخالطة أهل الحضر ومجالستهم ومحاورتهم ليتأثر بهم ويأخذ عنهم ويقتبس من ألفاظهم وعباراتهم وأحاديثهم في التعبير. حتى إذا ما مضت مدة من الزمن استدعاه الخليفة مجدداً لينشده فحضر وقال:
عيون المها بين الرصافة والجسر
جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري.
فتعجب الخليفة من رقة شعره ولطافته وعذوبة ألفاظه فقال: خشيت عليه أن يذوب رقة ولطافة.
وعلى الرغم من أن هذه الحادثة تنسب إلى الشاعر العربي العباسي علي بن الجهم. وإلى الخليفة العباسي المتوكل, وعلى الرغم من شكّنا في صحة هذا النسب لأن الشاعر العربي علي بن الجهم لم يكن بدويا قط, بل عاش في أحضان المدينة ما بين مدن خراسان وبغداد متقلّباً في بيوتات السلطة والسلطان, ولكننا أوردنا هذه الحادثة كشاهد على تأثير البيئة والمحيط على عملية الذوق والتذوق لدى الفنان والمتلقي على السواء. وأنه على المهتم بالفنون الجميلة الساعي إلى تذوّقها والتمتع بها أن يواظب على زيارة المتاحف والمعارض وأن يحتك بالفنانين والعارضين والنقاد يحادثهم ويحاورهم وأن يطلّع على كل جديد في عالم الثقافة الفنية لتتكون لديه ملكة التذوق الفني ليصل في نهاية المطاف إلى متعة تذوق اللوحة الفنية التشكيلية. بغض النظر عن صحة هذه الحادثة, أو صحة نسبها. ولكي لا يظل المشاهد المتلقي سلبياً وهامشياً في عملية تذوق اللوحة الفنية.
ثـانيـاً: المضـمـون في الـلـوحـة الفنية التشكيلية:
المضمون هو: تلك الأفكار والرؤى والعواطف التي تحاصر الفنان وتعشش في مخيلته ودخيلته زمناً. حتى تضطره لتفريغها وسكبها على سطح اللوحة الفنية. محاولاً التعبير عنها بوساطة عناصر الشكل التي تقدم ذكرها. وهي نتاج لثقافة الفنان وعقائده وعاداته وتقاليده ورؤاه في الحياة والمجتمع والطبيعة. فقد يكون مضمون اللوحة محاولة للتعبير عن المرأة أو الحب أو السلام أو الحرب, أو الجمال أو الطبيعة... إلخ. ويمكننا القول: إن الأفكار والرؤى والعواطف التي يسعى الفنانون للتعبير عنها وتجسيدها لا حصر لها. ولكن يستحسن هنا أن نذكر أنه ليس كل ما يجول بخاطر الفنان من أفكار ورؤى وعقائد يمكن التعبير عنها بوساطة اللوحة الفنية التشكيلية. لأن لهذه اللوحة مساحة تعبيرية محدودة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالتعبير عن القيم الجمالية البصرية. ولذا اندرج اسمها في فئة الفنون الجميلة كالنحت والعمارة والزخرفة, أما بقية الأفكار والعواطف الأخرى التي تعجز اللوحة التشكيلية عن التعبير عنها يلجأ الفنانون إلى التعبير عنها بوساطة أنماط أخرى من الفن, كالموسيقى والشعر والمسرح والقصة والرواية والسينما... إلخ.
فاللوحة الفنية التشكيلية أقدر على التعبير عن جماليات الألوان والخطوط والأشكال والفراغات لأنها قيم جمالية صوتية مسموعة ولأن اللوحة الفنية التشكيلية ترتشف بوساطة العين بينما القطعة الفنية الموسيقية ترتشف بوساطة الأذن.
وهكذا لكل لون من ألوان الفنون وسيلة ارتشافه والتواصل معه, وقدرته التعبيرية. ولذا فالفنان التشكيلي المبدع هو الذي يحسن اختيار المواضيع والمضامين التي يمكنه التعبير عنها بوساطة اللوحة الفنية التشكيلية. وما تملكه من عناصر ومقومات وقدرات تعبيرية.
والمتلقي المهتم الساعي إلى تذوّق اللوحة الفنية التشكيلية هو الذي يستطيع أن يرتقي بذوقه رويداً رويداً ليصل في نهاية المطاف إلى الحالة التي تمكّنه من معرفة وإدراك مدى الانسجام والتوافق بين الشكل والمضمون في اللوحة الفنية التشكيلية. ومثل هذه الحالة لا تأتي عفواً بل تحتاج إلى الاحتكاك الدائم بالمعارض والعارضين والاطلاع الدائم على الجديد في عوالم الثقافة الفنية - كما أسلفت .
وأخيراً, يمكننا القول: إن اختيار أسمى المواضيع وأنبل العناوين والمضامين محوراً للوحة الفنية التشكيلية لا يرفع من شأنها فنياً - إن كانت هابطة من حيث الشكل - في حين نجد كثيراً من اللوحات الفنية المتكاملة شكلاً, دون أن يكون لها أيّ مضمون فكري أو عقائدي. ومع هذا, تظل لوحة فنـية آسرة ومدهشة. لأن عناصر الشكل في اللوحة الفـنية التشكيلية تظل أهـم من المضـمون كثـيراً في بنائها, ولكن حين يزاوج الفنان المبدع بين الاثنين معاً فـي بنـاء اللوحة التشكيلية بشكل متـوازن ومتـلائم ومبدع وخلاّق, نكون قد وصـلنا إلى اللوحة الفنية التشـكيلية المثال.
المفضلات