نشأة علم الأنساب وتطوره :
الصحيفة السابعة عشر ص17 من كتاب علم الأنساب, للنسابة عبد الله سلامة المرواني الجهني؛
نسخة دار الأصبهاني للعام 1399 هجري :


علم الأنساب علم انساني أصيل تخصص فيه العرب؛ وفاقوا فيه الأمم؛ وقد جاءت العلوم الحديثة كعلم الأجناس؛ وعلم الاجتماع؛ وعلم النفس؛ وعلم التربية؛ تؤيد اصالة هذا العلم ووجوب دراسته واحيائه؛ ولن يستلذ أو يتفهم انسان ما دراسة الأدب العربي؛ والتاريخ العربي في عصريهما الجاهلي والإسلامي تفهماً عميقاً مبنياً على العلم الصادق والإدراك الدقيق ما لم يكن ملماً الماماً شاملاً بعلم الأنساب العربية قديمها وحديثها؛ ولا أبالغ إذا قلت إن بعض العلوم العربية تقوم على قاعدة عقلية نفسية سُدَاها ولُحْمَتُها معرفة الأنساب العربية وخاصة علوم الدين والعربية والتأريخ .

وعلم الأنساب من خصائص الحياة العربية الأصيلة في الجاهلية والإسلام؛ ولا يحتاج من يثبت ذلك إلى دليل
( ويكفى ان تعيش مع سكان البادية في عصرنا هذا لتعرف مدى أصالة هذا العلم فالبرغم من مرور عصور وعصور على اختفاء هذا العلم من دنيا علوم العرب فإن الذي يجيد فن علم الأنساب له مكانة رفيعة بينهم ) .

وإذا كان علم الأنساب قاوم كل عوامل الفناء التي تعرض لها كما تعرض لها العرب أنفسهم فإن الواجب أن نحيي هذا العلم وعلى أرضه نضع خطوط مستقبلنا؛ ويحسن هنا أن نذكر ما قاله أمير البيان شكيب أرسلان حيث يقول : إن علم الأنساب : هو العلم الذي يبحث ي تناسل القبائل؛ والبطون؛ والشعوب؛ وتسلسل الأبناء من الآباء والجدود؛ وتفرع الغصون من الأصول في الشجرة البشرية؛ بحيث يعرف الخلف من أي سلف انحدر؛ والفرع من أي أصل صدر؛ وفي هذا العلم من الفوائد النظرية؛ والعلمية؛ بل الضرورات الشرعية؛ والأجتماعية؛ والأدبية؛ والمادية ما لا يحصى؛ فليس علم الأنساب بطراز مجالس يتعلمه الناس لمجرد الاستطراف أو للدلالة على سعة العلم؛ إنما هو علم نظري عملي معا .

والعربي بطبيعته شغوف بعلم الأنساب سواء تحضر أو تبدى؛ فهو علم الخاصة والعامة سواء في العصر الجاهلي أو في العصور الإسلامية المتعاقبة؛ ففي العصر الجاهلي كان العرب يحفظون أنسابهم ويروونها؛ لا فرق بين كبيرهم وصغيرهم وجاهلهم وعالمهم؛ والحادثة التي وقت لأبي بكر رضي الله عنه ودغفل المشهورة تدل دلالة واضحة أن علم الأنساب هو علم العرب الأصيل

يقول صاحب نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب :
( كان أبو بكر رضي الله عنه نسابة؛ فخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فوقف على قوم من ربيعة فقال‏ :‏ ممن القوم ؟؟؛ ‏قالوا‏ :‏ من ربيعة؛ قال ‏:‏ وأي ربيعة أنتم أمن هامتها أم من لهازمها ؟؟؛ قالوا‏ :‏ بل من هامتها العظمى؛ قال أبو بكر ‏:‏ ومن أيها‏ ؟؟؛ ‏قالوا‏ :‏ من ذهل الأكبر‏؛ ‏قال أبو بكر ‏:‏ فمنكم عوف الذي يقال له لا حر بوادي عوف‏ ؟؟؛ قالوا : لا؛ قال‏ :‏ أفمنكم بسطام بن قيس ذو اللواء؛ أبو العرى؛ ومنتهى الاحياء‏ ؟؟؛ قالوا : لا؛ قال ‏:‏ أفمنكم الحوفزان الحارث بن شريك قاتل الملوك وسالبها أنعمها وأنفسها ؟؟؛ قالوا : لا‏؛ قال ‏:‏ فمنكم المزدلف بن أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان ‏الحر صاحب العمامة الفردة ؟؟؛ قالوا‏ :‏ لا؛ قال‏ :‏ أفمنكم أخوال الملوك من كندة ؟؟؛ قالوا‏ :‏ لا؛ ‏قال ‏:‏ أفمنكم أصهار الملوك في لخم ؟؟؛ قالوا : لا؛ فقال : فلستم بذهل الأكبر؛ بل ذهل الأصغر !؛ فقام إليه غلام من بني شيبان يقال له : دغفل؛ وقد بُقِلَّ وجهه فقال‏ :‏
إن على سائلنا أن نسأله .... والعبء لا تعرفه أو تحمله

يا هذا إنك قد سألت فأخبرناك؛ ولم نكتمك شيئًا من خبرنا فممن الرجل ؟؟؛ قال أبو بكر ‏:‏ أنا من قريش؛ ‏ قال : بخ بخ؛ أهل الشرف والرياسة‏؛ ‏فمن أي القرشيين أنت ؟؟؛ قال ‏:‏ من ولد تيم بن مرة‏؛ ‏قال الفتى ‏:‏ امكنت والله الرامي؛ - والله - من سواء الثغرة؛ ‏أفمنكم قصي بن كلاب الذي جمع القبائل من فهر وكان يدعى مجمعًا ؟؟؛ قال‏:‏ لا؛ قال ‏:‏ فمنكم هاشم الذي هشم الثريد لقومه ورجال مكة مسنتون عجاف ؟؟؛ قال‏ :‏ لا؛ قال :‏ أفمنكم شيبة الحمد مطعم طير السماء؛ الذي كأن وجهه قمر يضيء في الليلة الظلماء ؟؟؛ قال : لا‏؛ قال : أفمن المفيضين بالناس أنت ؟؟؛ قال ‏:‏ لا؛ ‏قال ‏:‏ أفمن أهل الندوة أنت ؟؟؛ قال ‏:‏ لا‏؛ قال ‏:‏ فمن أهل السقاية أنت ؟؟؛ قال ‏:‏ لا؛ ‏قال ‏:‏ أفمن أهل الرفادة أنت ؟؟؛ قال ‏:‏ لا‏؛ ‏قال ‏:‏ أفمن أهل الحجاجة أنت‏ ؟؟؛‏ قال‏ :‏ لا‏ .

فاجتذب أبو بكر رضي الله عنه زمام ناقته فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الفتى ‏:‏
صادف در السيل درأ يدفعه ... يهيضه حينا وحينًا يصدعه

أما والله : يا أخا قريس لو ثبت لاخبرتك أنك من زمعات قريش؛ ولست من الذؤائب؛ أو ما أنا بدغفل !! ‏؛‏ قال‏ :‏ فاخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فتبسم‏؛ ‏فقال علي رضي الله عنه : يا أبا بكر لقد وقعت من الغلام الاعرابي على باقعةٍ؛ قال : أجل يا أبا الحسن؛ ‏:‏ ما من طامة إلا وفوقها طامة؛ وإن البلاء مؤكل بالمنطق ‏.‏

هذا هو شأن علم الأنساب في الجاهلية؛ أما في صدر الإسلام فإن علم النسب ظل كريماً مطلوبا؛ فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصاً على حفظ الأنساب؛ بل أنه صلى الله عليه وسلم أقر علم الأنساب؛ فقد استأذن حسان في هجاء المشركين فقال له كيف نسبي ؟؟؛ قال حسان : لأسلنك منهم كما تسل الشعرة من العجين؛ وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتز بنفسه؛ فقد قال : ( أنا النبي لا كذب؛ أنا ابن عبد المطلب ) كما قال : ( إن الله جعل العرب بيوتاً؛ فجعلني في خيرهم بيتاً ) .

وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتعلم الأنساب وحفظها فقال : » تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم « والذي يعرف كيفية تكوين القبيلة العربية ونظام تنوع القبائل يجد أن كل القبائل العربية متشابكة في النسب من جهة الآباء والأمهات؛ وأنها لعاطفة نبيلة شريفة أن نوقظ في نفوسنا الشعور الصادق بالأخوة والقرابة الأصيلة؛ وإنها لأخوةً أعلن فائدتها وخيرها الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث يقول : « فوالله إنه ليكون بين الرجل وبين أخيه الشيء؛ لو يعلم الذي بينه وبينه من دخلة الرحم لردعه ذلك عن انتهاكه « .

ومن المقرر المعروف أن الناس في صدر الإسلام كانوا يتعلمون الأنساب كما يتعلمون الفقه؛ وكانوا إذا قصدوا سعيد بن المسيب للتفقه في الدين قصدوا عبد الله بن ثعلبة ليأخذوا عنه الأنساب؛ وكان الخلفاء الأربعة الراشدون أنفسهم وكثير من الفقهاء من أعلم الناس بالأنساب .

وفي العصر الأموي أصبح لعلم الأنساب علماء متخصصون يروون انساب العرب ليحفظها الناس عنهم؛ نذكر منهم : دغفل بن حنظلة السدوسي؛ وصحارى العبدى؛ والقطامي؛ وابا صالح؛ وزهير ابن ميمون؛ وعقيل بن أبي طالب؛ وأبي الكناس الكندي؛ والنخبار بن أوس؛ وسعد؛ وعوانة بن الحكم؛ ومحمد بن السائب الكلبي القضاعي؛ وغيرهم كثير .

وفي العصر العباسي كثر اختلاط العرب بغيرهم من الأمم؛ فانتقل علم الأنساب من الرواية إلى التدوين؛ ولذلك اسباب أهمها :
الرد على الشعوبيين فيما ألفوه من كتب يذكرون فيها مثالب العرب وعيوبهم نتيجة لنزعة جديدة هدفها الحط من شأن العرب بتعدد عيوبهم وذكر مثالبهم؛ فألف علان الشعوبي [ابن غنيم: أصله من فارس] وكان عارفاً بالأنساب والمثالب؛ فهتك فيه العرب وأظهر مثالبهم؛ وذكر فيه مثالب قريش قبيلة بعد قبيلة على الترتيب؛ إلى آخر قبائل اليمن؛ كما ألفت كتب رفعت من شأن بعض الأمم الأخرى؛ كالفرس؛ وترفع من شأنها بذكر مفاخرها .

وأول من بدأ بتسجيل الأنساب كان في أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ فاستقرت في ذلك الحين أنساب القبائل إذ دونت الدواوين وتعينت صلة العرب بعضها ببعض؛ وانتظمت جيمعها في مجموعتين قحطانية وعدنانية؛ ثم جاء عصر التدوين فقيل أول من ألف هذا العلم وضبطه هو الإمام النسابة هشام بن محمد الكلبي المتوفى سنة 204 وإلى هذا ذهب المستشرقين كالأستاذ ليف بروفنسال .

[/QUOTE]