ينبع في شعر حسن القفطي

أ.د.عبدالملك بن علي الجنيدي

أستاذ بكلية الهندسة، وعميد معهد البحوث والاستشارات، جامعة الملك عبدالعزيز، جدة

culture_pict

اسم شاعرنا هو حسن بن عبدالرحيم بن علي الخطيب القفطي الخزرجي الأنصاري. ينحدر من أسرة عربية نزحت من المدينة المنورة واستقرت بمصر. ولد الشاعر في منتصف القرن الثالث عشر الهجري «حوالي 1253هـ» في بلدة تسمى القصير. وكان والده تاجرًا فأرسل ابنه «حسن» إلى ينبع ليرعى له سفنه وتجارته هناك.
وفي نهاية القرن الثالث عشر عاد مجبرًا إلى مصر بعد أن نعي له والده. لكنه لم يستطع العودة إلى ينبع في ظل إصرار أهله على بقائه بينهم، فعاش هناك يحن إلى ينبع ويتوق إليها ويتذكر أيامه الخوالي بينبع وأصدقائه ومحبيه حتى وافته المنية عام 1321هـ.

تغنى شاعرنا كثيرًا بينبع، وامتدح أهلها، وحن إليها، وذكرها في معظم قصائده. يقول في إحدى مطولاته شوقًا لينبع:
إلى الفلك فانهض واغنم السير في البحر
إذا فـــزت بالإمــكان من فرصة الدهر
وكن بالجواري المنشآت وسيرها
خبيرًا متى هــبت رياح الســــرى فاسر
وبادر لهاتيك السفينة واغتنم
سرى الليل أو فاغتنم السير في الفجر
ويمم بها نحو الحجاز وعج بها
على مــــنبع الخـــيرات في ينبع البحـــر
هي البلدة المشتاق قلبي لمن بها
ويحــلو لســــــمعي ذكرها طـــيب النشر
أميل لمن فيها بقلب تقلبت
حشـــاشته من لوعة الشـوق في الجــمر
وإن ذكرت يومًا أهيم بذكرها
وأسقى وهــاد الأرض بالأدمــع الحــمر
وقد لامني قومي إذا قمت في الدجى
أئـن كمــا أنّ الأســـيرُ مــــــن الأســــــــر

يا له من وفاء عجيب! غادر ينبع فجأة لزيارة مسقط رأسه فحالت نوائب الدهر دون عودته إلى تلك البلدة التي أحبها وأحبته. وفي اعتقادي أن حرارة البعد صهرت قريحة شاعرنا في التغني بينبع مثل ما جادت قرائح عمالقة الشعر العربي وهم في المنفى مثل شوقي، والبارودي.
ومن أجمل ما قاله في ينبع والشوق إليها:
يا قلب دعني في الذي أنا فيه
إن كــان لي عــيش به أو فــــيه
والحق بأهلك بالحجاز وخلني
أبدي لأهلي الســـر أو أخـــفيه
واختر من البلدان فيه ينبعًا
فمـــلاعب الغــــزلان في واديه
بلد إذا ما رمت وصف ملاحه
حدث بما قد شئت عن أهليه
إذ لو توارت عنه شمس نهاره
أضحـت وجوه مــــلاحه تغنيه
كم فيه من ظبي كحيل نافر
أحـوى حوى الدر الثمين بفيه
أو شمس حسن بالهلال تدملجت
وبدت كـبرد في ســــــماء التيه

ومما قاله شاعرنا في الشوق لينبع:
عودوا بنا لنواحي ينبع عودوا
فعيشها قد صفا والعـــــــــود محمود
وزودوا القلب من ذكر الرحيل لها
فكـــم له غـــــرض فـــيها ومقــــصود
خير البلاد الذي ما اختاره وطنًا
إلا فتى بجــــنان الحســـن مــــوعـــود
أعظم به بلدًا ناهيك من بلد
أمضى الصوارم فيه الأعين السـود
تشكو الأسود الضواري فيه مظلمة
من الظبا وأمير الحسن موجود

ومن أجمل ما قاله شاعرنا في تعلقه بينبع قوله على البحر البسيط:
أمن تذكر أكل الحوت بالرطب قلبي وحـــــــلة عبس غـــــاية الطلــــــب
أعـرضت عن لــذة العـــناب والعـــنب وفي الخريق فؤادي ضاع وا أسفي
أم شوق نفسك للمعدوس أورثها على الخــــريق بذاك الحي في لهــــب
كــــراهة التين والرمــان والقصـــــــب قد شاب رأسي ولو أني نظرت إلى
أما ترى النيل في تلك البطاح جرى باب الشبيبي لكــــان الرأس لم يشب
فجــــاء من رؤية الأزهــــار بالعــــجب أهوى وقوفي لدى باب الحديد لكي
فكيف تحزن بالأرياف من أسف أرى مصابيح سوق الليل كالشـــهب
على ديار شـــــراب المـــــاء والحــــطب في رقعة السمن لي قصد ولي غرض
نعم أميل لهاتيك الديار ولو وعند ســــــــوق الفواتي منتهى أربي
أصـــبحت فيها عديم المال والنســــب يا فوز من كان موجودًا هناك إذا
أحبها وأحب القاطنين بها قام الحراج وصار البيع في الرطب
وإن جـــــــفوني بلا ذنب ولا ســـــــــبب والمشترون له حازوه وانقلبوا
أما وحرمة ما في البحر من سمك بنعمة في الفــــــواتي خـــير منقلـــــب
وما حوى الحوت من رأس ومن ذنب يا عرب ذاك الحمى كيف السبيل إلى
ما النيل عندي سوى نيل الترشف من قـــلبي الذي نشــــا في حـــــبكم وربي
ماء العصيلي إذا ما صـب في القرب ناديته يوم ترحالي أحدثه
شوقي إلى القاد في الأحشاء يوقد من بأنني راحــــل عــنه فلـــــــم يجـــــــــب
نار اشــــتياقي إلى مـنجـــارة العـــرب من ذا يلوم على شوقي إلى بلد
ومهجتي في رصيف البنط ما برحت العـــــــيش في غيره للقلب لــم يطــب
رهـــينة لــــم تحــــل عنه ولـــم تغــــــب ما عاقني عن رجوعي في أماكنها
وصورة الصور في الأحشاء صورها إلا تراكـــــم أحـــــزاني بمـــــــوت أبي

ويصور شاعرنا يوم نعى الناعي إليه أباه، ويذكر سفره وارتحاله عن ينبع بأنه قرار صعب، جاء ضد رغبته وهواه حتى كأنه ترك قلبه هناك وغادر إلى مصر. بل إن قلبه لم يرد عليه إمعانًا في الحزن واللوعة لفراق ينبع. ما هذا السحر النافذ إلى قلب كل من سكن تلك المدينة؟ نترك الإجابة لسكانها:
ما بال دهري إذا ما رمت نجدته
في مطلب ساءني بالعكس في طلبي
من لي برد أويقات لنا سلفت
في ينبع الخــــــير والآمـــــــال والأدب
خير البلاد وأرجاها وأقربها
نفـــعًا وأرجـــحها كســــبًا لمكتســـــــب
وكيف لا وهي من دون البلاد غدت
بابًا لبلدة طــــه المصطفى العــــربي
أرجو وآمل أن اللَه يجعلني
فيها مقيمًا مــــدى الأيـام والحقـــب

كما ورد في ديوان شاعرنا الذي يناهز الثمان مئة بيت قوله:
أرغد العيش في الحجاز ولكن
دونه الفــتك من عيون الغواني
صاح قم للسرى على بنت ريح
هي مــثل الطيور في الطـــــيران
سم باسم الإله في مجريها
من مرسي القصـر قبل الأذان
ريثما تشرق الغزالة أو في
ينبع البحر مــرتع الغــــــــــــزلان

وينهي قصيدته بتحسره على السنوات التي قضاها هناك وكأنها سويعات أو أويقات، فيقول:
لسرعان ما مرت أويقات قربهم
وهل لسرور في الزمان دوم

رحم الله شاعرنا الذي نتمنى أن يطلق اسمه على أحد الميادين أو الشوارع الرئيسة في مدينة ينبع تخليدًا لذكراه، ووفاءً لهذا الشاعر الذي أبدع في مدح ينبع والتغني بها.