رد : وصف لمدينة ينبع عام 1814م
[dci][dci]وصف لمدينة ينبع عام 1814م
كتب الرحالة الانجليزي الاصل جون لويس بيركهارت في كتابه رحلات الى شبه الجزيرة العربية اقتطف لكم جزء مما كتبه عن مدينة ينبع عندا مر عليها في السابع والعشرين من ابريل عام 1814م ومكث بها ثمانية عشر يوما في طريق عودته الى مصر وقد كتب عن ينبع وصفا كاملا للمدينة واهلها عاداتهم وتقاليدهم وتجارتهم وقد صادف انتشار مرض الطاعون في المدينة اثناء مكوثه فيها فوصف الجنائز والمرض وبعض الخرافات التي كانت سائدة آنذاك
نقلت لكم فقط ما كتبه عن مدينة ينبع الموقع والبناء والسور
لقد بنيت ينبع على الجهة الشمالية لخليج عميق يؤمن مكانا ملائما لرسو السفن وتحميه من الرياح العنيفة جزيرة واقعة على مدخله وترسو السفن قريبا على الشاطىء والمرفأ فسيح بما يكفي لاحتواء اكبر اسطول والمدينة مقسمة الى قسمين بخور صغير ويدعى القسم الاكبر (ينبع) بشكل حصري ويحمل الآخر على الجهة الغربية اسم (القعد) ــ اظنه يقصد القاد ــ ويسكنه الملاحون بشكل اساسي ويواجة القسمان البحر وقد احاط بهما في الجهات الأخرى جدار مشترك متين جدا تم بناؤه باتقان وتحميه بروج عديدة وقد تم تشييده بجهد السكان وعملهم الموحد ليشكل حماية من الوهابيين وله بوابتان باتجاه الشرق والشمال باب (المدينة) وباب (المصري)
وقد بنيت منازل المدينة بطريقة خشنة وغليظة بحيث ان قليل من الحجارة التي استعملت في البناء قد صقل سطحها والحجر كلسي مليء بالثقوب وذو لون ابيض ناصع مما يجعل منظر المدينة امرا مزعجا للنظر ولأغلب المنازل طابق واحد ارضي فقط وليس هناك أي صرح كبير في المكان باستثناء ثلاثة او اربعة مساجد سيئة البناء وبضعة خانات عامة مهدمة ومنزل الحاكم على شاطىء البحر وهو كذلك سيء البناء
ا ن اهل ينبع هم اقل تحضرا من اهل جدة ومكة ويتسم سلوكهم بالفظاظة والوحشية احيانا لكن من جهة اخرى فان تصرفاتهم اكثر تنظيما كما انهم اقل انجرافا في الرذائل من الآخرين وهم يتمتعون عامة في انحاء الحجاز كلها بكل الميزات التي يضيفها الاسم المحترم
وعلى الرغم من عدم وجود افراد واسعي الثراء في المدينة الا ان الجميع يتمتعون بوفرة ويسر اكثر مما يتوفر حتى ممن في مكة فالعائلات المحترمة كلها في ينبع لها منزل ريفي في الوادي المثمر الخصب المدعو ينبع النخل او قرى ينبع او ينبع البر الذي يقع على مسافة ست او سبع ساعات من هنا على سفح الجبال في الاتجاه الشمالي الشرقي وهو يشبه الاودية في الجديدة والظفرة حيث تنمو اشجار النخيل وتزرع الحقول وهو يمتد مسيرة سبع ساعات طولا ويحتوي على ما يفوق الاثنى عشر قرية صغيرة منتشرة على جانب الجبل ان القرية الاساسية هي (سويقة ) وهي المكان الذي ثقام فيه السوق حيث يقيم شيخ قبيلة جهينة الجليل والذي يعترف به بدو هذه القبيلة واهل ينبع ايضا
ـــ انا اعتقد انه يقصد قرية السويق وليس سويقة لان السويق هو الذي يقام فيه السوق كما ان قرية سويقة هي القرية الوحيدة الحربية وسط قرايا ينبع النخل الجهنية ـــتتعاطى تجارة ينبع بالمؤن بشكل رئيسي ولا نجد مخازن كبيرة للبضائع هنا لكن تعرض في المتاجر بعض السلع الهندية والمصرية من الالبسة للبيع وليس مالكو السفن تجارا كما هم في جدة ولكنهم مجرد ناقلين للبضائع غير انهم يستثمرون دائما ارباحهم في بعض المضاربات التجارية الصغيرة وتشغل تجارة النقل الى المدينة العديد من الناس ولتجار هذه المدينة كلها عملاء بين عرب ينبع وفي زمن السلم تنطلق القافلة الى المدينة كل اسبوعين لكنها كانت مؤخرا ترحل كل شهر فقط بسبب قلة الجمال وهناك احيانا عربات برية تتجه الى جدة ومكة واحيانا الى الوجه و مويلح وهما المحطتان المحصنتان للقافلة المصرية على البحر الاحمر
ا ن اهل ينبع هم مهربوا بضائع جسورين فلا تدخل أي سفينة لهم المرفأ من غير ان يتم ارسال جزء كبير من حمولتها على الشاطىء خلسة للتهرب من الضرائب الكبيرة وتذهب لهذا الغرض الى المرفأ ليلا مجموعات من عشرين او ثلاثين رجلا وقد تسلحوا جيدا وهم اذا ما تم اكتشافهم يقاومون ضباط الجمارك بالقوة غالبا
وعندما وصل الى ينبع في السابع والعشرون من ابريل من عام 1814م يقول
لقد لاقيت بعض الصعوبة في ايجاد غرفة في احد خانات المدينة التي كانت ملأى بالجنود الذين حصلوا على اذن بالعودة الى القاهرة بعد آخر حملة لهم على الوهابيين الجنوبيين وقد اتو الى هنا من جده ومكة وكان هناك فضلا عنهم العديد من الحجاج الذين عقدوا النية على الابحار الى السويس او القصير بعد عودتهم من المدينة ومن بين هؤلاء كانت امرأة محمد على باشا وكان هناك اربعة سفن تتحضر لنقل حاشيتها ومرافقيها وامتعتها وبعد ان اودعت امتعتي في غرفة مبهجة على سطح احد الخانات مشيت نحو الميناء لأستعلم عن السفر الى مصر وسرعان ما علمت ان ذلك كان امرا مستحيلا في الوقت الحاضر فقد اعطيت اوامر صارمة بمنع أي كان من الابحار الا الجنود الذين كانوا قد حجزوا ثلاث او اربع سفن جاهزة للانطلاق وكان عددهم يفوق الالف وخمسمائة بمن فيهم العديد من الحجاج الاتراك الذين ظنوهم جنودا لانهم يحملون السلاح ويرتدون ثيابا مماثلة لا يزالون ينتظرون وسيلة تؤمن نقلهم
وبينما كنت جالسا في مقهى قرب الميناء مرت ثلاث جنازات على فترات قصيرة ومتلاحقة وعند التعبير عن دهشتي امام هذا الامر علمت ان العديد من الناس قد توفوا خلال تلك الايام القليلة التي انتشرت فيها الحمى وقد سمعت حين كنت في بدر ان حمى خبيثة كانت سائدة في ينبع ولكني لم اعر الخبر اهتماما كبيرا ثم رأيت عدة جنازات اخرى فيما تبقى من النهار الا انه لم تكن لدي ادنى فكرة عن السبب الذي يكمن وراء ذلك العدد الكبير من الوفيات الى ان جاء الليل وصعدت الى غرفتي التى كانت تشرف على جزء كبير من المدينة وسمعت حينها اصواتا لاتعد ولاتحصى تتعالى في كل اتجاه في صراخ يفطر القلب وهو صراخ يرافق النفس الاخير الذي يتلفظ به صديق او قريب في انحاء الشرق كلها في تلك اللحظة راودتني الفكرة باحتمال وجود الطاعون وحاولت عبثا طرد مخاوفي او على الاقل اخمادها عبر النوم لكن الصراخ المروع ابقاني مستيقظا طوال الليل وعندما نزلت في الصباح الباكر الى الخان حيث كان العديد من العرب يشربون قهوتهم عبرت لهم عن مخاوفي لكني ما لبثت ان تلفظت بكلمة طاعون حتى ارسلوا في طلبي يسألونني عما اذا كنت اجهل ان الله قام بنبذ ذلك المرض والى الابد من الاراضي المقدسة في الحجاز ؟ ان منطقا كهذا لا يقبل الجدل او الجواب بين المسلمين لذلك فقد خرجت بحثا عن بعض المسيحيين اليونانيين الذين رأيتهم في الشارع في اليوم السابق وحصلت منهم على تأكيد مخاوفي فقد انتشر الطاعون منذ عشرة ايام وقد كان المرض لعدة اشهر يفتك في القاهرة بحدة شديدة وقد ماتت نسبة كبيرة من السكان في السويس ونقلت من ذلك المرفأ سفينتان محملتان بالاقمشة القطنية حمولتيهما الى جدة ومنها الى ينبع ولم يشهد احد من قبل الطاعون في الحجاز او على الاقل ليس ما يمكن ان تسترجعه ذاكرة الانسان وكان من الصعب على السكان اقناع انفسهم بوقوع مثل هذا الحدث خاصة في وقت تم فيه استرجاع المدن المقدسة من ايدي الوهابيين ولم تكن علاقات التبادل مع مصر بمثل هذا الحجم كما هي الحال الآن لذلك ليس غريبا ان يتم نقل هذا البلاء الى الحجاز وفي حين كان يموت عشرة او خمسة عشر شخصا كل يوم لم يستطع عرب المدينة التصديق بأن الوباء كان هو الطاعون بالرغم من ان مظهر الصفراء المعتاد على اجساد المصابين وتطور الوباء السريع الذي نادرا ما كان يستغرق اكثر من ثلاثة او اربعة ايام كان من شأنه ان يشكل ادلة مقنعة وازدادت نسبة الوفيات بعد وصولي بخمسة او ستة ايام فكان اربعون او خمسون شخصا يموتون في يوم واحد وهي في شعب يقدر عدده بخمسة او ستة آلاف نسبة فظيعة وبدأ السكان الآن يشعرون بالذعر
وبما انهم غير مهيئين للخضوع للخطر بصبر وروية كما يفعل الاتراك في كل جزء آخر من الشرق فقد تدفقت الاغلبية الساحقة منهم الى الطبيعة فباتت المدينة مهجورة لكن الوباء لحق بالمهجرين واللاجئين الذين خيموا قرب بعضهم بعضا فعاد الكثير منهم بعد ان عجزوا عن حل للمشكلة وقد برروا فرارهم بالقول ان الله يرسل هذا الوباء برحمته ليدعونا اليه لكننا نعي حقارتنا وندرك اننا لسنا جديرين بنعمه وفضله لذلك نرى من الافضل تجنبه والفرار منه وهي حجة سمعتها تردد مرارا وتكرارا ولو اني كنت بصحة جيدة واتمتع بكامل قواي لكنت بلا شك لحقت بهم الى الصحراء لكني شعرت بالوهن الشديد وعدم القدرة على بذل أي جهد فضلا عن ذلك فقد فكرت في احتمال هروبي من الوباء بالانغلاق في غرفتي المنعزلة وبدأت امني النفس اكثر فاكثر بالآمال في الذهاب الى مصر سريعا غير اني اصبت بخيبة امل ولعلي كنت تمكنت من ايجاد وسيلة للابحار على الفور عبر تقديم بعض الهدايا وقليل من الرشوة لكن السفن الجاهزة للابحار كانت الآن مكتظة جدا ومليئة بالجنود المرضى بحيث ان البقاء في المدينة الملوثة بالوباء كان افضل من السفر في وسيلة النقل تلك
وبعد بضعة ايام علمت ان مركبا صغيرا مكشوفا وخاليا من الجند كان جاهزا للابحار الى القصير فوافقت فورا على الذهاب على متنه لكن انطلاقه كان يؤجل من يوم الى يوم حتى الخامس عشر من من شهر ايار /مايو حين غادرت اخيرا ينبع بعد اقامة دامت ثمانية عشر يوما وسط الطاعون
لربما كانت حاتي الصحية المتدهورة والحمى الوضيعة التي رزحت تحت وطأتها هي التي امنت لي الحماية فضلا عن كل رعايتي وحرصي
لقد كنت معرضا لمرات عديدة لالتقاط العدوى لقد كان شارع ينبع الكبير مرصوفا بالمرضى ممن ينازعون الموت ويطلبون الصدقات وكان هناك عربي يلفظ انفاسه الاخيرة في فناء الخان حيث كنت اقيم كما ان سيد الخان فقد اختا وابنا من عائلته وروى لي حين جلس على سجادتي كيف مات ابنه في الليلة الفائتة بين ذراعيه وقد عارضت قلة الحرص لدى خادمي كل الاجراءات التي اتخذتها بدافع الحيطة فبعد ان افتقدته لعدة ايام في الصباح الباكر استعلمت عن سبب غيابه فاخبرني انه ذهب لتقديم يد العون في غسل جثث الموتى فالفقراء الذين ماتوا خلال الليل قد عرضوا في الصباح الباكر على النعوش على شاطىء البحر بغية غسلهم قبل الصلاة على اجسادهم في المسجد واعتقد خادمي ان الاشتراك في هذه المهمة هو عمل مثاب كان يقوم به عدة زنوج حجاج صدف وجودهم في ينبع وعبرت له عن رغبتي في بقائه في المنزل من الآن فصاعدا في تلك الساعة ليقوم بتحضير الفطور لي غير اني عجزت عن منعه من الخروج في اوقات اخرى كما كنت استطيع الاستغناء عن ذلك الواجب فنادرا ما يستطيع احد المرور في السوق من غي ان يمس اناسا مصابين بالمرض او على الاقل اؤلئك الذين كانوا على اتصال مباشر معهم
ان الاحساس بالخطر الذي كان يهددني حينها هو اكبر بكثير مما كنت اشعر به في ذلك الوقت الآن وقد الفيت نفسي بعيدا عنه لقد بتُّ معتادا بعد الايام الاربعة او الخمسة الاولى على فكرة الطاعون بشكل مقبول وقمت بمقارنة الاعداد الضئيلة للذين ماتوا كل يوم بمجموع السكان المتبقين ان وجود حالات عديدة من اشخاص بقوا في صحة جيدة على الرغم من اتصالهم المباشر بالاموات ازالت الى حد بعيد المفاهيم القائلة بانتقال المرض بالعدوى كما ان للأمثال تأثيرا كبيرا على الذهن بحيث اني حين رأيت عدد الأجانب الذين كانوا حينها في المدينة غير مكترثين بالمرض اطلاقا وغير آبهين له بدأت اشعر بالخجل من نفسي لعدم امتلاكي القدر نفسه من الشجاعة التي كانوا يبدونها لكن مما كان يبدوا ان الوباء من النوع الاشد خبثا اذ ان القليل جدا من المصابين تمكنوا من النجاة منه كما سادت الحالة نفسها في جدة ولم يكن العرب يستعملون أي نوع من الادوية فسمعت عن اناس استخدموا الحجامة وعن آخرين عولجوا عن طريق وضع لزقة ساحبة على عنقهم غير ان هذه الحالات ظلت نادرة ولم يقم الناس كلهم باعتماد تقليدها وكما هي العادة يدفن الميت بعد بضع ساعات من الوفاة وقد جرت حادثتان خلال اقامتي في ينبع حين تم دفن شخصين وهما بعد على قيد الحياة بعد ان ظنوهما ميتين بسبب الغيبوبة التي وقعا فيها حين اشتد المرض عليهما والتي اعتبرت موتا وقد اعطى احدهما اشارات تدل على انه لايزال حيا في اللحظة الاخيرة قبل دفنه فتم انقاذه اما جسد الآخر فقد وجد ويداه ووجهه تغطيهما الدماء وقد مزق الكفن تماما من جراء الجهود والمحاولات غي المجدية التي بذلها في محاولته النهوض وذلك حين تم فتح قبره بعد عدة ايام من دفنه لوضع جثة قريب له وعند رؤية ذلك قال الناس ان الشيطان قام بتشويه جسده بعد ان عجز عن ايذاء روحه
كان حاكم ينبع حريصا جدا على اخفاء معدل الوفيات الصحيح في المدينة لكن هتافات لااله الاالله الدينية التي تشير ال جنازة احد المسلمين كانت تتناهى الى الاذن من كل حي وجهة في المدينة وقد احصيت منها بنفسي اثنتين واربعين جنازة في يوم واحد
غير ان الطاعون بالنسبة للفقراء عيدا حقيقيا حيث ان كل عائلة تذبح خروفا عند وفاة احد من افرادها اذا ما كانت قادرة على تحمل النفقات وتقوم في اليوم التنالي باستضافة النساء والرجال في الجوار كله في منزلها البيوت فيعانقن كل نساء العائلة وتواسيهن وبذلك يعرضن انفسهن للعدوى في كل لحظة ويجب ان نعزوا الانتشار السريع للطاعون في المدن الاسلامية الى هذه العادة المتبعة اكثر من أي سبب آخر فما ان يضرب الطاعون عائلة ما حتى ينتقل بنجاح الى الجوار كله
ان المعتقد الشائع بين الاوربيين وحتى بين مسيحي الشرق ان الدين الاسلامي يمنع او يحرم أي اجراءات وقائية ضد الطاعون لكن ذلك امر خاطىء ان ذلك الدين يمنع اتباعه من تجنب المرض اذا ما دخل مدينة او بلدا لكنه يحذرهم في الوقت نفسه من الدخول الى أي مكان فيه الطاعون وهو يمنع الافراد من الانغلاق في المنزل والانقطاع عن التواصل مع باقي المدينة المصابة لان ذلك يكون كالهروب من الطاعون غير انه يرحب باجراءات الحجر الصحي لتفادي انتقال الوباء او نقله لغرباء حين وصولهم بيد ان الاعتقاد بالقضاء والقدر متجذر بعمق وشمولية في اذهان الشعوب الشرقية [/dci][/dci]
[poem=font="Arial,4,teal,bold,normal" bkcolor="white" bkimage="" border="solid,1,teal" type=2 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
ابو سلطان[/poem]
المفضلات