موقف النجاشي ـ رحمه الله ـ:
النجاشي([38]) هو ملك الحبشة في زمن النبي r، لما توالت المحن والابتلاءات على الصحابة y أمرهم النبي r بالخروج إلى أرض الحبشة واصفاً إياها أنها أرض صدق، وملكها لا يظلم عنده أحد، فآواهم النجاشي، وتعهد بحمايتهم، وكان من ثمرات وجودهم على أرضه دخوله في الإسلام.
فالنجاشي ـ رحمه الله ـ آمن بالنبي r ومات على ذلك، وقد صلى الرسول r عليه هو وأصحابه.
والأدلة تترى في تقرير إيمان النجاشي منها:
1. عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما قال: قال رسول الله r حين مات النجاشي: " مَاتَ اليَوْمَ رَجُلٌ صَالِحٌ، فَقُومُواْ فَصَلُّواْ عَلَى أَخِيكُمْ أَصْحَمَةَ"([39]).
2. عن أبي هريرة t: أن رسول الله r نعى لهم النجاشي صاحب الحبشة في اليوم الذي مات فيه، وقال: " اسْتَغْفِرُواْ لأَخِيكُمْ "([40]).
3. عن أبي هريرة t: أن رسول الله r نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه، وخرج بهم إلى المصلى، فصف بهم، وكبر أربع تكبيرات "([41]).
وجه الدلالة: تدل هذه الأحاديث على أن إسلام النجاشي كان واضحاً لدى النبي r، فهو يخبر أصحابه بموته في ذات اليوم الذي نعى النجاشيَّ فيه ربُّه، وهذا لا شك مصدره وحي، وينعت النجاشي بالصلاح " مَاتَ اليَوْمَ رَجُلٌ صَالِحٌ "، وهذا دليل إيمانه، ويصلي عليه هو وأصحابه، ويخبرهم برابطة الأخوة بينهم والنجاشي " فَصَلُّواْ عَلَى أَخِيكُمْ أَصْحَمَةَ "، ويأمرهم بالاستغفار له " اسْتَغْفِرُواْ لأَخِيكُمْ " وما كان ليستغفر النبي r وأصحابه y له لولا إيمانه بعد النهي عن الاستغفار للكافرين في قول الله تعالى: } مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ {([42]).
هذا بالإضافة إلى كتاب النجاشي إلى النبي r، والذي يؤكد تماماً إسلامه، حيث قال في نص الرسالة: " وأشهد أنك رسول الله صادقاً مصدقاً، وقد بايعتك وبايعت ابن عمك وأصحابه، وأسلمت على يديه لله رب العالمين "([43]).
وبعد المحاورة التي دارت بينه وبين جعفر بن أبي طالب t قال: " مرحباً بكم وبمن جئتم من عنده، فأنا أشهد أنه رسول الله، وأنه الذي بشر به عيسى، ولولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أُقبل نعليه "([44]).
إلا أنه ومع إسلام النجاشي، كان يقود نظاماً يحكم بغير شريعة الله، إذ لم يكن بإمكانه تطبيق منهج الله، وأي محاولة كهذه من شأنها أن تقلب الموازين في اتجاه ضياع ملكه، وعدم استقرار المؤمنين في أرضه، وقد لاذوا به.
يقول ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: " ونحن نعلم قطعاً أنه لم يكن يمكنه أن يحكم بينهم بحكم القرآن، فإن قومه لا يقرونه على ذلك، والنجاشي وأمثاله مع ذلك سعداء في الجنة، وإن كانوا لم يلتزموا من شرائع الإسلام ما لا يقدرون على التزامه، بل كانوا يحكمون بالأحكام التي يمكنهم الحكم بها "([45]).
فثمة عقبات كانت تعترض النجاشي في طريقه، وقد اعترف ببعضها في رسالة وجهها إلى النبي r وهو يعلن إسلامه ومبايعته له حين قال: " فإني لا أملك إلا نفسي "([46]).
وعندما أشار أمراء النجاشي عليه برد المسلمين إلى رسل قريش وأبى إلا بعد سماع كلامهم، وبعد أن أقر بأن ما جاءوا به حق قال الذين حضروا من عظماء الحبشة: " والله لئن سمعت الحبشة لتخلعنك "([47]).
وفي موقف آخر لما سأل المسلمين عما يقولون في عيسى ابن مريم عليه السلام، فأخبره جعفر بن أبي طالب t واعترف بصدق ما جاء به، وقال: " ما عدا عيسى ابن مريم مما قلت هذا العُوَيد " فتناخرت بطارقته([48]).
بعد هذا العرض يتضح لنا أن النجاشي أصحمة، الذي آمن بالنبي r هو الذي استضاف صحابته المهاجرين إليه، وما زال يقوم على نظام لم يتمكن فيه من تطبيق شريعة الله، لكنـه كان حصناً نافعاً للمهاجرين المسلمين.
والنبي r لم يأمره بالهجرة إليه، على الرغم من عرضه ذلك على رسول الله r وذلك في الرسالة التي تضمنت إرساله بستين رجلاً آمنوا من أهل الحبشة حتى قال: " وإن شئت أن آتيك بنفسي فعلت يا رسول الله، فإني أشهد أن ما تقوله حق ".
لكن النبي r مستنداً إلى فقه الموازنة بين المصالح والمفاسد اكتفى بأمنه، وحمايته للمسلمين.
المفضلات