المسلم يقنع بما قسم الله له فيما يتعلق بالدنيا، أما في عمل الخير والأعمال الصالحة فإنه يحرص دائمًا على المزيد من الخيرات، مصداقًا لقوله تعالى: {وتزودوا فإن خير الزاد التقوى} [البقرة: 197]. وقوله تعالى: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين} [آل عمران: 133].

1- منازعة الشهوات التي لا تُنال إلا بزيادة المال وكثرة المادة، فإذا نازعته الشهوة طلب من المال ما يوصله إليها، وليس للشهوات حد مُتناهٍ، فيصير ذلك ذريعة إلى أن ما يطلبه من الزيادة غير متناهٍ، ومن لم يَتَنَاهَ طلبه استدام كدَّه وتعبه، فلم يفِ الْتذاذُه بنيل شهواته بما يعانيه من استدامة كده وأتعابه، مع ما قد لزمه من ذم الانقياد لمغالبة الشهوات، والتعرض لاكتساب التبعات، حتى يصير كالبهيمة التي قد انصرف طلبها إلى ما تدعو إليه شهوتها فلا تنزجر عنه بعقل، ولا تنكفُّ عنه بقناعة.

2- أن يطلب الزيادة ويلتمس الكثرة ليصرفها في وجوه الخير، ويتقرب بها في جهات البر، ويصطنع بها المعروف، ويغيث بها الملهوف؛ فهذا أعذر، وبالحمد أحرى وأجدر متى ما اتقى الحرام والشبهات وأنفق في وجوه البر؛ لأن المال آلة المكارم، وعون على الدِّين، ومتألَّفٌ للإخوان. قال قيس بن سعد: اللهم ارزقني حمداً ومجداً؛ فإنه لا حمد إلا بفعال، ولا مجد إلا بمال. وقيل لأبي الزناد: لِمَ تحب الدراهم وهي تدنيك من الدنيا؟ فقال: هي وإن أدنتني منها فقد صانتني عنها. وقال بعض الحكماء: من أصلح ماله فقد صان الأكرميْن: الدِّين والعِرض.

3- أن يطلب الزيادة ويقتني الأموال ليدّخرها لولده، ويخلِّفها لورثته، مع شدة ضنه على نفسه، وكفه عن صرف ذلك في حقه، إشفاقاً عليهم من كدح الطلب وسوء المنقلب، وهذا شقي بجمعها مأخوذ بوزرها قد استحق اللوم من وجوه لا تخفى على ذي لب، منها:

أ - سوء ظنه بخالقه: أنه لا يرزقهم إلا من جهته.

ب - الثقة ببقاء ذلك على ولده مع نوائب الزمان ومصائبه.

ج - ما حُـــرِم من منافــع ماله وسُلِب مـن وفـور حاله، وقد قيل: إنما مالك لك أو للـوارث أو للجائحة؛ فلا تكن أشقى الثلاثة.

د- ما لحقه من شقاء جمعه، وناله من عناء كده، حتى صار ساعياً محروماً، وجاهداً مذموماً.

هـ - ما يؤاخذ به من وزره وآثامه ويحاسب عليه من تبعاته وإجرامه. وقد حُكي أن هشام بن عبد الملك لما ثَقُلَ بكى ولده عليه، فقال لهم: جاد لكم هشام بالدنيا وجدتم عليه بالبكاء، وترك لكم ما كسب، وتركتم عليــه ما اكتسب، مــا أسـوأ حـال هشام إن لم يغفـر الله له! وقال رجـل للحســن - رحمه الله تعالى -: إني أخاف الموت وأكرهه، فقال: إنك خلَّفت مالك، ولو قدَّمتَه لسرَّك اللحاق به.

4- أن يجمع المال ويطلب المكاثرة، استحلاءً لجمعه، وشغفاً باحتجانه؛ فهذا أسوأ الناس حالاً فيه، وأشدهم حرماناً له، قد توجهت إليه سائر الملاوم. وفي مثله قال الله - تعالى - ((والذين يـكـنـزون الـذهـب والـفـضـة ولا ينـفـقـونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب ألـيـم)) [التوبة:34](8).

السبيل إلى القناعة:

1- تقوية الإيمان بالله - تـعالى -، وترويض القلب على القناعة والغنى؛ فإن حقيقة الفقر والـغـنـى تكون في القـلب؛ فمن كان غني القلب نعم بالسعادة وتحلى بالرضى، وإن كان لا يجد قـوت يـومـه، ومن كان فقير القلب؛ فإنه لو ملك الأرض ومن عليها إلا درهماً واحداً لرأى غناه في ذلك الدرهم؛ فلا يزال فقيراً حتى يناله.

2- الـيقـيـن بأن الرزق مكتوب والإنسان في رحـم أمه، كما في حـديث ابن مسعود - رضي الله عنه - وفيه:" ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه وأجله وعـمـلـه وشقي أو سعيد.."(9). فالعبد مأمور بالسعي والاكتساب مع اليقين بأن الله هو الرازق وأن رزقه مكتوب.

3- تدبــر آيات القرآن العظيم ولا سيما الآيات التي تتحـدث عن قضية الرزق والاكتساب. يقــول عامــر بـن عبد قيس: أربع آيات مـن كـتاب الله إذا قرأتُهن مساءً لم أبال على ما أُمسي، وإذا تلوتُهن صباحاً لم أبال على مــا أُصـبـح: ((مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا ومَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ )) [فاطر:2]، وقوله تعالى: ((وإن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ)) [يونس:107] ، وقوله تعالى: ((ومَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا ويَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا ومُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ))[ هود:6]، وقوله - تعالى ((سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً)) [الطلاق:7](10).

4- مـعـرفــة حكمة الله - سبحانه وتعالى - في تفاوت الأرزاق والمراتب بين العباد، حتى تحـصـل عـمـارة الأرض، ويتبادل الـنـاس المنافع والتجارات، ويخدم بعضهم بعضاً قال - تـعـالـى ((أَهُـمْ يَـقْـسِـمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا ورَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجـَـاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِياً ورَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ)) [الزخرف:32] ، وقال - تعالى - ((وهُــوَ الَـذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ ورَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ)) [الأنعام:165] .

5- الإكثار من سؤال الله - سبحانه وتـعـالى - القناعة، والإلحاح بالدعاء في ذلك؛ فنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهو أكثر الــنـاس قناعة وزهداً ورضىً وأقواهم إيماناً ويقيناً، كان يسأل ربه القناعة؛ فعن ابن عباس: رضي الله عنهما - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يدعو:"اللهم قنِّعني بما رزقتني، وبارك لي فيه، واخـلــف على كل غائبة لي بخير"(11) ولأجل قناعته صلى الله عليه وسلم، فإنه ما كان يـسـأل ربه إلا الكفاف من العيش والقليل من الدنيا كما قال – عليه الصلاة والسلام -: "اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً"(12).

6- العلم بأن الرزق لا يخضع لمقاييس البشر من قوة الذكاء وكثرة الحركة وسعة المعارف، وإن كان بعضها أسباباً؛ إلا أن الرزق ليس معلقاً بها بالضرورة، وهــذا يـجـعـل العبد أكثر قناعة خاصة عندما يرى من هو أقل منه خبرة أو ذكاءًا أو غير ذلك وأكـثـر مـنـه رزقاً فلا يحسده ولا يتبرم من رزقه.

7- النظر إلى حال من هو أقل منك في أمور الدنيا، وعدم النظر إلى من هو فوقك فيها؛ ولذا قال النبي "انظروا إلى من أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم؛ فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله"(13) . وفي لفظ آخر قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ :"إذا رأى أحدكم مَنْ فوقه في المال والحسب فلينظر إلى من هو دونه في المال والحسب"(14).

ولـيـس فـي الدنيا أحد لا يجد من هو أفضل منه في شيء، ومن هو أقل منه في أشياء؛ فإن كنت فقيراً ففي الناس من هو أفقر منك، وإن كنت مريضاً أو معذباً ففيهم من هو أشد منك مرضاً وأكثر تـعـذيـبـاً، فلماذا ترفع رأسك لتنظر من هو فوقك، ولا تخفضه لتبصر من هو تحتك؟ إن كنت تـعـرف من نال من المال والجاه ما لم تنله أنت وهو دونك ذكاءًا ومعرفة وخلقاً، فلِمَ لا تذكر من أنت دونه أو مثله في ذلك كله وهو لم ينل بعض ما نلت (15)؟!

8- قراءة سِيَر السلف الصالح وأحوالهم مع الدنيا والزهد فيها والقناعة بالقليل منها، وهم قد أدركوا الكثير منها فـرفـضوه إيثاراً للباقية على العاجلة، وعلى رأسهم محمد صلى الله عليه وسلم، وإخــوانه من الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - ثم الصحابة الكرام - رضي الله عنهم - والتابعون لهم بإحسان؛ فإن معرفة أحوالهم، وكيف كانت حياتهم ومعيشتهم تحفز العبد إلى التأسي بهم، وترغِّبه في الآخرة، وتقلل عنده زخرف الحياة الدنيا ومتعها الزائلة.

9- الـعـلـم بـأن عاقـبـة الغنى شر ووبال على صاحبه إذا لم يكن الاكتساب والصرف منه بالطرق المشروعة، وقـد قـال النبي صلى الله عليه وسلم : "لا تزول قدما عبد حتى يُسأل: عن عمره فيمَ أفناه، وعن عـلـمـه فيمَ فعل فيه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيمَ أنفقه، وعن جسمه فيمَ أبلاه"(16) فمـشـكـلـة المال أن الحساب عليه من جهتين: جهة الاكتساب ثم جهة الإنفاق، وهذا ما يجعل تـبـعـته عظيمة وعاقبته وخيمة إلا من اتقى الله فيه وراعى حرماته اكتساباً وإنفاقاً.

ثم ليتفكر في أنه كلما تخفف من هذا المال وكان أقل كان حسابه أيسر وأسرع؛ وذلك كمن سافر في الطائرة وحمل متاعاً كثيراً؛ فـإنــه إذا بـلـغ مقـصـده احتاج وقتاً طويلاً لاستلامه وتفتيشه بخلاف من كان خفيفاً ليس معه شيء، وحـســاب الآخرة أعسر، والوقوف فيها أطول.

ولينظر أيـضـاً إلـى من كان المال والجاه سبب شقائه وأمراضه وهمومه وغمومه؛ فهو يشقى ويتعب في جمع المــال ونيل المناصب ثم يحمل همَّ الحفاظ على المال والمنصب فيقضي عمره مهتماً مغتماً، ثم انـظـر ماذا يحدث له إذا خسر ماله أو أُقيل من منصبه، وكم من شخص كان ذلك سبباً في هلاكه وعطبه! نسأل الله العافية.

10- النظر في التفاوت البسـيط بين الغني والفقير على وجه الحقيقة، فالغني لا ينتفع إلا بالقليل من ماله، وهو ما يـسـد حاجته وما فضل عن ذلك فليس له، وإن كان يملكه، فلو نظرنا إلى أغنى رجل في العالم لا نـجـد أنـه يسـتـطـيـع أن يأكل من الطعام أكثر مما يأكل متوسط الحال أو الفقير، بل ربما كان الفقير أكثر أكلاً مـنـه، وبعبارة أخرى: هل يستطيع الغني أن يشتري مائة وجبة فيأكلها في آن واحد، أو مائة ثوب فليبسها في آن واحد؛ أو ألف مركبة فيركبها في آن واحد؛ أو مائة دار فيسكنها في وقــت واحــد؟! لا؛ بل له من الطعام في اليوم ثلاث وجبات تزيد قليلاً أو تنقص، وللمستور كذلك مثله، وله من اللباس ثلاث قطع تزيد قليلاً أو تنقص، ولا يستهلك من الأرض في وقت واحد إلا متراً في مترين سواء كان قائماً أو قاعداً أو مضطجعاً. فعلام يُحسد وهو سيحاسب على كل ما يملك؟! وقد فهم هذا المعنى حكيم هذه الأمة أبو الدرداء - رضي الله عنه - حينما قال: أهل الأموال يأكلون ونأكل، ويشربون ونشرب، ويلبسون ونلبس، ويركبون ونركب، ولهم فضول أموال ينظرون إليها وننظر إليها معهم وحسابهم عليها ونحن منها برآء، وقال أيضاً: الحمد لله الذي جعل الأغنياء يتمنون أنهم مثلنا عند الموت، ولا نتمنى أننا مثلهم حينئذ، ما أنصَفَنا إخوانُنا الأغنياء: يحبوننا على الدِّين، ويعادوننا على الدنيا(17).

بل جاء هذا المعنى في السنة النبوية. قال عبد الله بن الشخير - رضي الله عنه -: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يقرأ ((أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ)) [التكاثر:1]، يـقـــول:"يقول ابن آدم- مالي، مالي! وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت؟"(18).

إن القانع قد لا ينال من الطعام أطيبه، ولا من اللباس أحسنه، ولا من الـعـيـش أرغــده؛ ولـكـنه ينعم بالرضى أكثر من الطمَّاع وإن كان الطماع أرغد عيشاً منه؛ لأن القانع ينظر إلى الموسر وما يملك فيراه لا ينتفع إلا بقليل مما يملك، لكنه سيحاسب عن كل ما يملك.

ثم ليعلم العاقل أن كل حال إلى زوال، فلا يفرح غني حتى يطغى ويبطر، ولا ييأس فـقـير حتى يـعصي ويكفر، فإنه لا فقر يدوم ولا غنى يدوم، وكم من رجال نـشــؤوا على فـــرش الـحـريــــر، وشـربوا بكؤوس الذهب، وورثوا كنوز المال، وأذلوا أعناق الرجال، وتعبَّدوا الأحــرار، فما ماتوا حتى اشتهوا فراشاً خشناً يقي الجنب عض الأرض، ورغيفاً من خبز يحـمـي الـبـطـن من قَرْص الجوع، وآخرون قاسوا المحن والبلايا، وذاقوا الألم والحرمان، وطووا الليالي بلا طـعـام، فـمـا مـاتــوا حـتـى ازدحمت عليهم النعم، وتكاثرت الخيرات، وصاروا من سراة الناس، وسيسوِّي الموت بين الأحياء جميعاً: الغني والفقير؛ فدود الأرض لا يفرق بين المالك والأجير، ولا بين الصعلوك والأمير ولا بين الكبير والصغير، فلا يجزع فقير بفقره، ولا يبطر غني بغناه(19)، وما أجمل القناعة! فمن التزمها نال السعادة، وما أحوج أهل العلم والدعوة للتحلي بها! حـتـى يـكـونــوا أعلام هدى ومصابيح دجى، ولو تحلى بها العامة لزالت الضغائن والأحقاد، وحلت الألفة والمودة؛ إذ أكثر أسباب الخلاف والشقاق بين الناس بسبب الدنيا والتنافس عليها، وما ضــعـف الـديـن فـي القلوب إلا من مزاحمة الدنيا له، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، حينما قال:"والله مـا الـفـقـــر أخـشـى عـلـيـكـم، ولـكـنـي أخشى أن تُبسَطَ الدنيا عليكم كما بُسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم"(20)، فهل من مدَّكر؟ وهل من معتبر يجعل ما يملك من دنيا في يديه، ويحاذر أن تقترب إلى قلبه فتفسده؟ "ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب".

القناعة كنز لايفنى