عمدة زمان
بقلم مفوز الفواز
[الجزء الأخير]

[align=justify]

o تفرق الرجال استعداداً للصلاة ، وكل واحد منهم يُذكر الآخر بأن لا ينسى الاجتماع في بيت العمدة ، فالحضور واجبٌ حتميّ لا يمكن التأخر عنه ، حتى لا يزعل عليهم العمدة .. وكثُر الهرج بينهم وهم في طريقهم إلى المسجد.
• أيش يبَغْىَ العمدة مِنَّا في الاجتماع ؟. أحدهم يسأل رفيقه وبصوت منخفض.فيجيبه الآخر بصوت أخفض منه .
• أكيد من أجل بيت أبو علي .
• ليه ؟.
• عشان نتشاور ويأخذ رأينا.
• وإحنا لينا رأي عشان يجمعنا، ويشاورنا.ما هو عنده أصحابه ، والكبَاريَّة من الرجال ، مثل الشيخ جابر .
• يا راجل لا يسمعوك الرجال ، وبعدين ما يحضروا الاجتماع .
• ولما يسمعوا ، ما هُو كل واحد حرٌ في رأيه.
• يا راجل ، قول خير .. أنت رايح للمسجد ، والاجتماع ما فيه إلا الخير.
• أنا ما قلت غلط .. تُذكر لما اجتمعنا العام الماضي عنده من شَانْ تنظيف الحارة أللِّي تأخر أربعة أيام ، وكانوا أهل الحارة كلهم موجودين ، وانت معانا .. هَيَّا قُليّ أَيشْ اللِّي صَار في الاجتماع ؟.
• لا .. ما أتْذكَّر ... ! .
• عجيب ..ما تتْذكَّر أن الهرَج والنقاش كان قاصراً على العمده والشيخ جابر وكَمْ نفر من الناس إيَّاهُم ، وإحنا كلنا جالسين بَسْ نِتْسَمَّع ، بدون ما نبدي رأينا في المشكلة ، أو حتى فيما يقولوه ولو مجاملة للموجودين ، والكُلْ عارف إنَّ المشكلة ما هي خاصة .. عامَّة ، و في النهاية إنتَ عرِفْت على أَيشْ انتهى الاجتماع .. ولو كان الاجتماع بينهم بدون ما يجمعونا على الفاضي كان أحسن ، وفي الآخر ما يتم شيء إلا الأمر اللِّي يرغبوا فيه ، وَإلاَّ قصدَك تقول إنَّ العملية منظرة ، حتى يقولوا الناس العمدة اجتمع بأهل حارته من أجل مصلحة أهل الحارة ، ويستفيد منها أيام الانتخابات ، ويومها مين يقدر يعارض.
• أذكر هذا كله .. بس ما يمنع إننا نروح للعمدة اللَّيلة ، لأن الموضوع يختلف ، الأول كان مسؤولية غيرنا، أما الثاني فهي مسؤوليتنا كلنا .. ولازم نتكاتف سوى .. وما ندري أيش يخَبِّيلْنَا الزمن .
• على قولك .. ما هي حالنا كما هي حال أبو علي ..
• يا راجِل فُضّها سِيره وقول خير .. كلمه طيبه منك " صدقه " ، هو اللي قدمته اليوم شويَّه.. ربنا يُكْتبهُولَك في موازين حسناتك.
o يرتفع أذان المغرب .. ويصمتا عن الكلام ، ليتفرغا للتكبير والتهليل . وبعد أداء صلاة المغرب .. العمدة بعدما عاد من المسجد.. وقف على الباب ، لا يدري .. أيجلس في المجلس مع من حضر، أم يستقبل الناس ويحيِّيهم . حيران في أمره ، لأنه لا يجد من يعتمد عليه في مثل هذه الأمور، فلو كان ابنه موجوداً لسَدَّ مَسَدَّه .. لكنه في سفر لإكمال دراسته في الخارج ، فابن العمدة عندما أنهى المرحلة المتوسطة ، وحصلَ على شهادة الكفاءة ، كان يدرس معه ابن الشيخ جابر ، عندها قال الشيخ جابر للعمدة :....
• ياعمده ..[ الأولاد لازم يتعلموا ، ما يجلسوا زَينَّا جاهلين ].
• العمده .. أي أولاد ؟.
• الشيخ جابر.. ولدي وولدك .
• العمدة ..يتعلموا أَيه .. ما اتعلموا وخِلْصوا ؟.
• أجابه الشيخ جابر، صحيح ياعمده هُمَّ اتعلموا .. بس مُا هُو التعليم اللي يمكن يقول الواحد فيهم إنُّه تعلَّمه عشان ينفع نفسه وبلده ، هذا كلُّه بداية الطريق.. وإلا أقول لك ، أيش رأيك نرسلهم [ بِلاد بَرَّه ] يدرسوا ويكملوا تعليمهم ويشوفوا الدنيا ، ويرجعوا لْنَا بالسلامة إن شاء الله ، و معاهم [الشهادة الكبيرة] ، وبَعدها نِفتِخِر بُهُم لأنهم يخدموا بلدهم لما يعلموا غيرهم.
o العمدة في البداية كان معارضاً للفكرة ، لأنه خائف على الأولاد ، فهما صغيرا السن.. قال مُتسائلاً :
• مِين يراقبهم وينتبه لُهم في بلاد الغربة .. ويصَحِّيهم الصباح ، ويطبخ لهم لقمتهم ، ويغسل هِدمَتهُم ..عندها قال له الشيخ جابر:
• اسمع يا عمده : عندي صديق في الخارج ، يزورني كل سنة هنا وانت تعرفه ، وأحيانا يِجي ومعاه أولاده ، وعَشَان كِذا .. أنا شَايف إننا نرسل له عيالنا ، ويسكنهم عنده ، لأنه دائماً يطلب مني أسافر له ومعي الأولاد ..ومن ناحية السكن كان يقول لِي [لا تِهتم فالبيت واسع] ، وكمان في نفس الوقت يراقبهم ويتابعهم في دراستهم ، وإلا عندك رأي ثاني.
o أخذ الشيح جابر يحاول مع العمدة حتى أقنعهُ ووافق على سفرهم .. والآن لهما ثلاث سنين.. سبح العمدة في أفكاره وحساباته ، ولا يدري من الذي دخل ومن الذي خرج ، إلى أن نادى عليه الشيخ جابر ..!
• يا عمده .. هيا الناس اجتمعت ، أنت تتحَرَّى مين.
• العمدة : أبشر .. يا شيخ جابر.
o يدخل العمدة .. الدِّيوان ، ويحيِّي بالرجال ، ويتفقد من لم يحضُر.. ويقول :
• "حمدان .. فين ، هو ما جاء" .
• عمران .. يمكن ما أحد قَلُّه يا عمده ..
• العمدة.. ما تروح بسرعة ..نادي عمك حمدان ، وفي طريقك وانت جاي مر على المعلم أبو صالح ، وقله العمده يبغاك ضروري تجِيله الآن .
o بعد أن رحَّب العمدة بضيوفه خرج من عندهم واتجه ليطرق الباب [الجواني] بعصَاه ، ونادَى " يا هُو ... القهوة ".. ولم ينتهي من ندائه للمرة الأولى ، حتى صفقت له إحداهن من الداخل ، ففهم المقصود فدارَى الباب بجسده ليتناول القهوة ، وبصوت منخفض قال لها : حُطِّيها على الأرض لا تندلق القهوة عليكِ ، فردت عليه " حاضر " بس انتبه تراها ثقيلة عليك ، فأجابها يحضِّر لِك الخير ، وسحب صينية دلال القهوة وأغلق الباب .. تناولوها الرجال وداروا بها على الضيوف في الديوان .. الدلال تلمع كأنها خارجه من عُلبِها الآن ، والفناجيل من النوع التي لا تخرج إلا للضيوف الكبار أو في أيام العيد. ومرصوصة في صينية تتناسب معَها..
العمدة يتابع من يصُب القهوة بنظراته وهو واقف على باب الديوان ..
• صب القهوة على مهلك.. قَهْوِي كُل الرجال .. صب القهوة للشيخ جابر .. ليه ما تتقهوى يا أبو محمد ".
• أبو محمد : اكتفيت يا عمده .. يجعله عامر إن شاء الله ، ونشربها في فرح الولد ربنا يرجِّعه بالسلامة .
• العمدة : يا رب .. والجميع بخير ، وساعتها أعمل لكم عزيمة كبيرة إن شاء الله.
• الشيخ جابر .. في جوازه إن شاء الله .. يا عمده .
• العمده : إن شاء الله .. وانت طيب يا شخ جابر.
o يدخل عمران .. ويوجه الكلام للعمدة :
• العم حمدان وصل يا عمده .. ومعاه المعلم أبو صالح .
• حمدان : خير يا عمده.
• العمده: خير إن شاء الله .. اتفضَّلوُا .. انتم أكيد ما عندكم خبر باللي صار لبيت أبو علي اليوم العصر ، جدار بيته انهدَم وسقط لوحده من جهة الزُّقاق ، عشان كذا إحنا ما شُفناكُم اليوم عنده ، والرجال اللي انتم شايفينهم عندي ما قصَّروا ، فزعوا وقاموا بالواجب ، رفعوا الحجارة عن الطريق وستروا البيت بالأشرعة ، وأنا شفت إنه من واجبي ما أحرمكم الأجر ، فدعيتكم للمشاركة في هذا الاجتماع .
• المعلم أبو صالح : لا والله ما عندنا خبر ، وإلا ما تأخرنا عن الجماعة .. وجزاك الله خيراً إنك أرسلت لنا ، لكن طمِّنا عسى ما أحد تضرر.
• لا .. لم يتضرر أحد ، حتى أهل البيت سالمين .. الحمد لله ، استريحوا واشربوا القهوة .. عُمران ، جيب القهوة لعمك حمدان وعمك صالح.
o يلتفت العمده للشيخ جابر .. ويقول " الكلام عندك يا شيخ جابر .. ".
• الشيخ جابر : اسمع يا أخ حمدان ويا أخ أبو صالح ، والكلام للجميع ، أخونا أبو علي سقط جدار بيته وانكشف ، والآن هو بحاجة إلى مساعدتنا جميعاَ ، كلٌ حسب قدرته وما يستطيع أن يقدمه ، وحِنَّا في هاذي الحارة يَدْ واحدة ، وأسرة واحدة ، والكَربُ اللِّي يقع على واحد فينا يُعتبر وقع على الجميع ، و ترى اللِّي نقدمه في الدنيا أجره أعظم عند الله في الآخرة.
• حمدان : لا حول ولا قوة إلا بالله .. لازم نسرع ونبنيه ، ومن بكره .. وأنا علي قيمة المونة بكاملها.
• العمده : جزاك الله خيراً.
• المعلم أبو صالح : وأنا أقوم بالبناء وبدون أجرة ، إلا حق العمال.
• الشيخ جابر : بارك الله فيك .. وأنا أتكفل بأجرة العمال.
• العمده : يا جماعة الدنيا بخير .. بس لي طلب عندكم.
• العسَّة أبو محمد.. وبعد ما سمعت يا عمده من الجماعة وفزعتهم الطيبة ، الله يبارك فيك ويُعمُر دارك .. أيش المطلوب ثاني ؟.
• العمدة : شوف يا بومحمد ، والكلام للجميع .. نبدأ في الشُّغل من بُكره بعد صلاة الفجر ، وما نقف حتى ننتهي ، ونستر بيت الرجال . وترى الغداء والعشاء لكل العمال من عندي.
• الشيخ جابر : خيرك سابق يا عمده .. لكن ما ترسِل لأبو علي ، وتخبره باللي اتفقنا عليه وإنه الشغل في الجدار يبدأ من بكره مع طلعة الشمس ، وتْرَيِّح بَالُه .
• العمده : صدقت يا شخ جابر.. عُمران ، إجري ونادي عمك أبو علي ، تراه ينتظرنا .. لأني قلت له اجلس في البيت عند عيالك ، حتى أرسل لك مرسال.
o يذهب عمران بسرعة إلى بيت أبو علي ، ولما وصل على داره أخذ يُنادي بأعلى صوته ، وهو يطرق الباب بشدة ليستعجل الإجابة .
• أبو علي .. أبو علي "...
• طَيِّبْ .. طيَِّبْ ، على مهلك لا تطرح الباب يكفي الجدار ...
o قال ذلك [أبو علي] وهو متجه للباب مسرعاً لعله يلحق به قبل أن يسقط من شدة الطرق .. يفتح الباب ، ويرى عمران وقد وقف بجانب الجدار ، من الجهة المخالفة لفتحة الباب ، حتى لا يرى من في الدار عندما يُفتَح الباب.
• يبادره عمران بالكلام .. يقولْ لَك العمده ، هوَّ ينتظرك.
• أبو علي .. خير إن شاء الله .. أيش عنده ؟.
• عمران : ما أدري .. اللِّي أفهمه إن أهل الحاره والكباريه مجتمعين عنده في الديوان والعمدة قللي روح نادي عمك أبو علي تراه ينتظرنا نرسلُّه.
o يُقبل أبوعلي على بيت العمدة ، فيرى العمده في انتظاره عند الباب.. يرحب به ، وقبل ما يُدخِله المجلس ، قال له :
• أبشر يا أبو علي ، فقد فرَّجها الله ، الرجال في الديوان ينتظرونك ليقولوا لك بمشيئة الله ، من بكره مع طلوع الشمس يبنوا الجدار ، وعلى حسابهم ، وما يرفعوا يَدَّهم مِنُّه إلا وقد إنبنى.
• الشيخ جابر : تفضل يا أبو علي .. اجلس بجنْبي ، قَالَ لَّك العمدة لَيْشْ جَمَع أهل الحارة عنده ؟.
o يجيبه أبو علي وقد اغرورقت عيناه بعد أن رأى الجَمْع :
• نعم .. قلِّي العمده جزاه الله خيراً باللي اتفقتوا عليه .. واللي تشوفوه من حالتي الآن ، تراه ما هُو حُزُن على سقوط جدار بيتي وانكشافه ، إنما هو فرحتي من اللي أشوفه أمامي في هذا المجلس من تآلف وتكاتف وتآزر رجال الحارة كأنهم أسرة واحدة ، والواقع إحنا أسرة واحدة .. وترى عملكم هذا يدل على ما في داخل أنفسكم جميعاً من غنىً لا يقدر بثمن ، وصَدق مَنْ قال : [أن الغِنَى غِنَى النفُوس ، ما هُوْ غِنَى الفُلوس ..] والفضل في هذا كله إلى الله العلي القدير، الذي ابتلى فدبَّر .. وأدعو الله عزَّ وجل أن يُعِينني لرد الجميل في أفراحكم جميعاً.
• العمده : هذا من توفيق الله .. وهو واجب على الجميع ، وما في لأحد لُهْ فضل فيه ، فمن قدم الجميل .. لا يَلْقَى إلا الجميل ، وأكثَر ..
قال النَّبي المُصطفَى ، صلى الله عليه وسلم :
{مَن فَرَّج عَنْ أخِيهِ المُسلِم كُربةً مِنْ كُرَبِ الدُّنيا ، فَرَّج اللهُ عَنهُ كُربةً مِنْ كُرَبِ الآخِرَة }

[/align]



انتهى