الوكالة
بقلم /مفوز مفيز الفواز

الحلقة الأخيرة
[align=justify]يضحك الأب الحنون .. ويساعد الأولاد في التخلص من العمامة ، فيجذبونها ويركضون بها في أرجاء البيت .. والأم تنظر إليهم ، ثم تقول لهم :
* مبسوط .. شوف خليهم يُمَزِّقوها لك ، وبعدين تصرِّخ فيهم.
* ما يهم .. أصرخ فيهم اليوم.. وأشتري غيرها بُكره.
تأخذ المرأة زوجها إلى داخل البيت حيث يستريح ، والأبناء لاهون في فك عقدة العمامة لاكتشاف ما " صُرَّ " فيها .
* أبو صالح .. هيا حُط رجولك في الطست خليها ترتاح شويه من التعب.. أنا مالياه لِيك بالمويه الدافيه وحطَّالك فيه شوَيَّةْ ملح قبل ساعة .. وأنا رايحه أجهز لك الحمَّام عشان تتغسل بالمرة ، فالمغرب ما يبقى عليه إلا قليل ويؤذن .
بعد أن انتهى أبو صالح من تدليك قدميه في الماء الفاتر ، ينادي على أم العيال :
* يا هوُ , يا أم صالح ، جهزت كُل شيء ؟ الوقت يِجري.
تجيبه من الداخل :
* يانَعَمين يابوصالح.. كل شيء جهَّزتُه ، والملابس النظيفة معلقة على باب الحمّام ــ الله يِكرِمك ــ تحت " الإحرام ".
كانت تقول ذلك وهي ملتهية في ترتيب الحاجيات التي أحضرها أبو صالح معه من السوق ، استعداداً لتحضير طعام العشاء ، فهي الوجبة الرئيسية الوحيدة في ذاك الزمان التي غالباً ما يجتمع حولها كامل الأسرة ، فوجبة الغداء إن تيسر لهم ذلك ممن حصل على قُوتِ يومه مُبكراً كفَتْ عن العشاء ، و إلا سَدُّوا حاجاتهم بفتات الخبز وما كان قابلاً للحفظ في البيت مما هو مُصبَّر بالملح أو السكر ، أما وجبة الإفطار إن توفرت فهي ليست ببعيدة عن لاحقتها ، إلا أن الموسرين لديهم ثلاث وجبات ، وجبة الإفطار وهي مكونة مما لذَّ وطاب ، يتنوع بين العسل والمُربيات والحلويات والأجبان وغيرها .. حتى أنه في بعض البيوت الأكثر ثراءً الفطور لديهم يتنوع في كُل يوم ، وكذلك وجبة الغداء فهي أساسية لديهم ، أما العشاء فهو أحياناً مما تبقى من الغداء.
انتهى الرجل من ارتداء ملابسه ، وتوضأ استعداداً لصلاة المغرب ، وتوجه للأولاد لاسترجاع عمامته منهم ، ولكنه وجدهم لا زالوا حائرين في فك عقدها ، وقد ملؤوها " لعاباً " وهم يحاولون ذلك بأفواههم ، فتناولها منهم ، ولم يقاوموه ، فقد أعياهم التعب وكأنهم شاركوا أباهم العمل من الفجر حتى المساء.
فك الوالد الصُرَّةَ ، ونثرها علي رؤوسهم ، وإذا هي قطع من الحلوى تناثرت في جميع أرجاء الغرفة ، وخرج ، وبدأوا يتصايحون فرحاً من جديد وهم يلتقطون حباتها.
صاحت الأم مداعبة ..
* أبو صالح .. ما تترك عنك الشقاوة إنت والأولاد ، وأنت في هذا السن . يَعني عاجبك كِدا؟دَحِّين يُوسخوا الفراش.
يضحك الأب .. ويقول لها :
* إنتِ شايفاني { كِبِرتْ } ..
ويخرج من الباب دون أن ينتظر الإجابة!!.وتنظر هي إليه دون أن تُجيب .. فهو لم يُعطها فُرصة الإجابة ، ولكنها تُسمِع نفسها .. وتقول :
* لا والله .. {إنت أصغر من كدا} فأنا أشوفك بقلبي مُو بعيوني.
تسرع في إعداد الطعام على النار ، وصغارها منشغلون في لهوهم بالحلوى ، حتى أنها عندما دخلت عندهم لتصلي المغرب ، أغلقت باب الغرفة من الداخل حرصاً منها أن يغلبهم الفضول ، فيتجهوا إلى القدر وهو على النار فينكفيء عليهم فيحرقهم.
بعد أن فرغت من صلاتها عاودت العمل مرة أخرى للإسراع في تحضير الطعام ، فزوجها على وشك العودة للمنزل ..وعندما أوشك على تجهيزُه على الانتهاء ، نادت على الأولاد ..
* يا أولاد .. هيا ، تعالوا عندي لا تناموا .. [ العشَا جِهِزْ ، أبوكم دحِّين جَايْ ] .
* صالح .. ناولني التبسي الملبس .
يناولها الولد التِّبسي بعد عدة أسئلة .
* أمي أيَّتْ تبسي ، الكبير.. والاَّ الصغير ، الأبيض .. والاَّ الأحمر ؟ ...
* يا ولد ، أما ما تِختِشي .. أيش الكلام دا اللي بِتقوله ، التبسي شوفه قدامك ، هو كم تبسي عندنا ؟ .
يُحضر الولد التبسي ويرميه عليها ، محدثاً صوتاً عالياً يضحك الأولاد ، وتغضب الأم .
* كدا .. قشطت التبسي ، وهو الحيلة اللي عندنا ، يلَّه قوم شيله مرة تانيه واشْطُفه.
يرد عليها صالح.
* يُوه ..
يسرع أخوه الأصغر ، ويأخذ التبسي ويجري به إلى " البالوعة " ، وتناديه أمه ..
* يا ولد دوبك على التبسي ، كمان إنت التاني ، لا تغَلِّقْ عليه . [ لا حول ولا قوة إلا بالله ] الواحد ما يرتاح منكم .. أَهُوْ ، " إن خلف ما ارتاح .. وإن ما خلف ما ارتاح " .
بقيت الأم على هذا المنوال ، وهي تكابد مع الأولاد .. المهم عندها أن لا يناموا إلا بعد أن يأتي أبو صالح من المسجد.
قفز الأولاد كعادتهم يتراكضون ..
* الأم . يا عيال .. كصرتوا الدنيا ، أيش دي الغلبة " الله يهديكم " .
يرد عليها الأولاد بصوت واحد ٍ .. "أبويا .. جا" ــ "أبويا .. جا".فقد كانوا أكثر إنصاتاً لمجيئه ، حيث سمعوا صوت مزلاج الباب عندما فتحه أبوهم ليدخل.
واجتمعوا على العشاء ..حول الطبلية بعد أن وضعت أم صالح تبسي العشاء عليها.
* يا ولد .. خذ هذي اللقمة وأنت بَسْ جالس تلعب ـــ الأب يحاكي أولاده ـــ وأنت كمان كُلْ زَيْ أخوك [ شوف أيش يسَوِّي ، وسوي زيُّه ] .
* أبو صالح .. سيب الأولاد و اتعشى ، وانت من الصبح على لحم بطنك ، دول الأولاد طول النهار ، وهم يِطْحَنوا . نسيت الحلاوة اللي دوبك جبتها ، ورميتها ليهم كلها يحوسوا فيها ويحوِّسوا البيت معاهم.
* يا شيخه .. صلي على النبي .. إحنا نشقى عشان مين ؟.. ما هو عشانهم .
* الله يحفظك لينا .. ويعطيك الصحة ، وتأَكِّلْ أولادهم.
* وانتِ .. كمَان يا أم صالح.
الأم ، تُكلم الولد الصغير ..
* تعال جنبي .. أأكلك لَتْحُوسْ في الأكل ، وتوسخ هدومك.
يرفض الولد ..
* [ أنا أبغَى اجلس جنب أبويه ] .
تسحبه بقوة وهو يصرخ .. تعالَ عندي .
* يا أم صالح .. سيبي الولد فْحَاله، هُوَّ مرتاح عندي.
* ما تشوفه حوَّس الأرض وِهْدُومُه كمَان ، ودَحّين ما فينا نغير لُهْ.
* لحظة صمت يلتهي فيها الوالدان في الأكل ، ويتبادلا بعض الأحاديث القصيرة في هموم المنزل ، أثناءها يتنبه الأب للولد الصغير فيُخاطب زوجته قائلاً :.
* أم صالح ..
* نَعَــمين ..
* أنعم الله عليك .. الولد رقد .. انتبهي لا يطيح على رأسه.
* يُوْه .. الولد ما أكل شيء .
* ما قُلتلِك ، خليه عندي ، أنتِ ما تسمعي الكلام ، هيا قومي شيليه وغسْلِيْ لُه ، ونومِيه على فراشه.
* خليه بعدين .. إيديني حاسيه كُلَّهاــ الله يخليك ــ إِسْدَحُه على جنبه عندك، لمَّا نِخْلَص من العشا ونرفِّع الطبلية.
نام الأولاد .. ونام الجميع ، وفي صباح اليوم التالي ،.. ينهض أبو صالح من فراشه مذعوراً وينبه زوجته من نومها ، فهذه المرة لم يصحُ من نومه إلا بعد الأذان الثاني للفجر، خرج من الغرفة مسرعاً وهو ينبه زوجته من النوم .فقد تأخر عن المسجد.
* أم صالح .. أم صالح .. قومي ، لقد أخذتنا نومه ، و إنت الله يصلحك ما صحيتيني زي العادة مع الأذان الأول.
* ليه .. هو الفجر أذن ؟.
* إيوه ياستي .. هذا الأذان الثاني .. دحين تفُوتْني الصلاة جماعة وأنا ما وصلت المسجد ، وكمان حاتأخر على فتح الوكالة.
* سامحني .. أنا أمس تعبت كثير، عشان كدا أنا نمت وُمَانِي داريه عن نفسي ، بس لا تخاف حتِلْحَق الصلاة جماعة إن شاء الله.. ما هو إنت أمس تقول إنك [شباب] يلَّه وريني شبابك .
* انتعش أبو صالح .. وقال :
* طيَِّب ، دحِّين أوَرِّيكي ..
خرج أبو صالح مسرعاً يحُثُّ الخُطَى.. وكأنه ابن الخامسة والعشرين ، بعد أن ودعته عند الباب بكلماتها المعتادة { روح الله يِفرجها في وجهك .. ويرزقك الرزق الحلال .. ويكفيك شر أولاد الحرام}وبقيت ترمُقُ مشيته بنظراتها حتى ابتعد.. وأغلقت الباب.
[/align]



{ انتهت }