بقلم: عبدالله الناصر
الحديث عن سيدنا عمر وقراءة سيرته وعدله.. حديث عن رجل عظيم وعن سيرة: قل الزمان أن يأتي بمثلها، وربما تدخل رغم واقعيتها وحقيقتها في نطاق الخيال المثالي.. ولكن ذلك عمر..
اليوم سأتحدث عن سيدنا عمر الأديب وهو حديث طويل جداً.. ولكني ساختصر نظراً لضرورة الزاوية..
فهو رضي الله عنه يتمتع بحس أدبي ونقدي بارع، ويتذوق الشعر تذوق الملم الخبير الملهم..
كان يقول علموا أبناءكم لامية العرب فإنها تعلمهم مكارم الأخلاق.. وكان يقول: احفظوا الشعر فإنه ديوان العرب. وقد نهى عن بائية غسان التي جاء فيها:
ما كل يوم ينال المرء ما طلبا
رأيت رأياً يجر الويل والحربا
لأنها تخشن النفوس وتحرض على الشر..
@ كان يسير مع ابن عباس أو مع أبي عبيدة فقال: من أشعر الناس..؟ فذكر له بعض الشعراء.. فقال: لا بل أشعرهم الذي يقول:
أتيتك عارياً خلقا ثيابي
على خوف تظن بي الظنون
يقصد النابغة الذبياني..
وقال مرة عن زهير: "أنه لا يعاظل في القول ولا يمدح الرجل إلا بما فيه".
وكان محباً لشعر متمم بن نويرة الذي قتل خالد بن الوليد أخاه مالكاً في حروب الردة.. وكان لعمر رضي الله عنه رأي في مقتل مالك وذات يوم دخل عليه متمم فقال: يا متمم هيه اسمعني ما قلت في رثاء أخيك فأنشده قصيدته التي يقول فيها:
فلما تفرقنا كأني ومالكاً
لطول اجتماع لم نبت ليلة معا
فتى كان أحيا من فتاة حيية
وأشجع من ليث إذا ما تمنعا
فقال عمر ذاك والله زيد يعني أخاه زيد بن الخطاب الذي قتل في موقعة اليمامة وكان فارساً شجاعاً وكان لشجاعته حسم في معركة اليمامة فحينما انهزم المسلمون ودخل قوم مسيلمة خيمة خالد بن الوليد وقف زيد وحفر حفرة ودفن رجليه بها وأخذ ينادي: يا أهل بدر إن لم تقاتلوا عن دينكم اليوم فلن تنتصروا أبداً.. فلما رآه المسلمون عادوا بحماسة إلى القتال.. حتى كتب لهم النصر.
ولكن زيداً قتل رضي الله عنه.. ولما عادت الجيوش خرج عمر رضي الله عنه يستقبلها خارج المدينة وراح يتلفت باحثاً عن زيد وكان زيد رجلاً طوالا فلما لم يره علم أنه استشهد وبكى.. وقال: "رحم الله زيداً فقد سبقني إلى الشهادة كما سبقني إلى الإسلام". وكان عمر يقول والله ما هبت ريح الصبا - وهي ريح تأتي من الشرق - إلا اشممت فيها رائحة زيد..
ثم إن عمر سأل متمم بن نويرة عن شدة جزعه على أخيه فقال: يا أمير المؤمنين ولدت أعور بعين جامدة يابسة لم تدمع قط!! فلما قتل مالك بكيت حتى دمعت!! فبكى عمر رضي الله عنه.. فقال متمم: وما يبكيك يا أمير المؤمنين والله لو مات أخي كما مات زيد شهيداً ما بكيته ولا رثيته..!! فقال: والله ما عزاني أحد مثلك يا متمم.
وقصته مع الزبرقان بن بدر والحطيئة مشهورة وهي لا تدل على حس عمر النقدي فقط بل تدل على رقته ومدى تأثير الشعر في نفسه. فعندما قال الحطيئة بيته المشهور من قصيدة يهجو بها الزبرقان:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها
واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
استعدى الزبرقان عمر على الحطيئة فقال عمر: لا أرى في ذلك هجاء وإنما عتاباً.. وهو رغم أنه أعلم الناس بالشعر فإنما أراد أن يقيم الحجة بينة على الحطيئة.. لذلك سأل حسان بن ثابت: فقال ما هجاه يا أمير المؤمنين.. بل سلح عليه!!
فأودع الحطيئة السجن حين قامت عليه الحجة من شاعر كبير.. ولم يفلح الحطيئة في الوساطة والاستعطاف إلى أن قال قصيدته المشهورة:
ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ
زغب الحواصل لا ماء ولا شجر
فبكى عمر ثم أطلقه بعد أن اشترى أعراض المسلمين بثلاثة آلاف درهم على ألا يهجو مسلماً وإلا قطع لسانه!!
أرأيتم في التاريخ حاكماً يشتري أعراض رعيته؟!!
@ وحج عمر من المدينة فلما كان بضجنان قرب مكة قال: لا إله إلا الله العلي العظيم، المعطي ما شاء، من شاء، كنت أرعى إبل الخطاب بهذا الوادي في مدرعة صوف. وكان فظاً يتعبني إذا عملت، ويضربني إذا قصرت، وقد أمسيت وليس بيني وبين الله أحد ثم تمثل:
لا شيء فيما ترى تبقى بشاشته
يبقى الإله ويودي المال والولد
لم تغن عن هرمز يوماً خزائنه
والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا
أين الملوك التي كانت نوافلها
من كل أوب إليها راكب يفد..
وعن ابن عباس قال خرجت مع عمر في بعض أسفاره.. فبينما كنا نسير ليلة وقد دنوت إذ ضرب مقدم رحله بسوطه وقال:
وما حملت من ناقة فوق رحلها
أبر وأوفي ذمة من محمد
واكسى لبرد الخال قبل ابتذاله
وأعطى لرأس السابق المتجرد
ثم قال استغفر الله:
وكان عمر ربما قال البيت أو البيتين من الشعر. فيروى أن كعب الأحبار أتى عمر وقال: اعهد يا أمير المؤمنين - أي أوصي بخليفة بعدك - فإنك ميت في ثلاثة أيام. قال وما يدريك..؟ قال أجده في كتابنا التوراة. قال عمر: آلله إنك لتجد عمر بن الخطاب في التوراة..؟! قال: لا ولكن صفتك، وحليتك.. ثم أتاه في اليوم الثاني وقال: بقي يومان، ثم جاءه من غد الغد وقال: بقي يوم وليلة.. وهي تلك الليلة التي طعن فيها عمر.. وكان كعب مكان ريبة.. فلما دخل الناس على عمر بعد طعنه ورأى كعباً أنشأ يقول:
فأوعدني كعب ثلاثا اعدها
ولا شك أن القول ما قال لي كعب
وما بي حذار الموت إني لميت
ولكن حذار الذنب يتبعه الذنب
واختتم هذا الحديث الموجز عن الحس الأدبي لدى هذا الخليفة العظيم بحكايته مع امية بن الأسكر:
فقد كان أمية هذا شاعراً وفارساً من فرسان العرب المعدودين وقد دخل في الإسلام على كبر وقد ضعف عن الغزو والجهاد وكان له ابن اسمه كلاب كان فارساً.. وكان الراعي لوالده أمية ولكنه حبذ القتال في سبيل الله.. وذهب غازياً في جيش المسلمين فشق ذلك على أمية.. وشكا الأمر إلى عمر طالباً رد ابنه إليه فقال عمر انني لا أرد مسلماً أراد الجهاد في سبيل الله.
فقال أمية مخاطباً ابنه كلاب من قصيدة طويلة:
تركت أباك مرعشة يداه
وأمك ما تسيغ لها شرابا
فإنك والتماس العذر بعدي
كباغي الماء يتبع السرابا
ولكن ابنه لم يعد فجزع أبوه جزعاً شديد وكان قد ضعف ورقت حاله وكان عمر يوماً في المسجد فدخل عليه أمية ووقف فوق رأسه وأنشده قصيدة يقول فيها:
سأستعدي على الفاروق ربا
له دفع الحجيج الى بساق
وأدعو الله مجتهداً عليه
ببطن الأخشبين إلى دفاق@
فبكى عمر بكاء شديداً وكتب برد كلاب إلى المدينة فلما قدم طلب عمر أن يراه قبل أن يذهب إلى والده.. ثم سأله عمر ما بلغ من برك بأبيك..؟ فذكر له شيئاً من بره ثم قال: يا أمير المؤمنين كان لوالدي ناقة يشتهي حليبها وكنت أحلبها له كل ليلة وذات يوم جئت إليه وهو نائم فوقفت على رأسه لا أريد أن أوقظه حتى نهض فناولته إياه..
فبعث عمر إلى أمية من جاء به فأقبل هو يتهادى وقد كف بصره وانحنى، فقال له كيف أنت يا أبا كلاب..؟ قال كما ترى يا أمير المؤمنين.. قال فهل لك من حاجة..؟ قال: نعم اشتهي أن أرى كلاباً فأضمه ضمة، وأشمه شمة قبل الموت.. فبكى عمر وقال ستبلغ ما تمنيت إن شاء الله.. ثم ان عمر أمر كلاباً أن يحلب ناقة كما كان يفعل، فذهب وحلبها وناول الاناء لعمر رضي الله عنه، وأبوه لا يعلم بذلك.. فأعطى عمر لأمية الحليب.. فلما قربه من فمه قال: والله يا أمير المؤمنين إني لأشم رائحة ابني كلاب في هذا الاناء.. فبكى عمر وقال هذا كلاب فوق رأسك.. فوثب إلى ابنه وجعل يضمه ويقبله وعمر يبكي ومن حضر معه.
المفضلات