التصديــر
بقـلم الدكتــور/ عـبدالله بن حامد المعيقل
أســتـــاذ الأدب الحـديث بجـامعة الملك سـعود
( بالرياض ) مــن مواليــد قرية سويقة بينبع النخل
تلقي جزءاً من تعليمه في مسقط راسه ثم انتقل مع الأسرة الى مدينة جدة واكمل دراسته الإبتدائية والمتوسطة والثانوية ، ثم تخرج من جامعة الملك سعود كلية الآداب وعُين معيداً بها ، حصل على الماجستير والدكتوراة من جامعة مشقن باالولايات المتحدة الأمريكية . له عدد من الدراسات في الأدب العربي الحديث والأدب الشعبي .
عندما تفضل الأخ / فيصل فران بدعوتي لكتابة تصدير لمؤلفه هذا عن الشاعر المعروف ذيبان بن مسعود الفايدي رحمه الله ، شعرت بالتشريف الذي خصني به دون العديد من أبناء الينبعين الذي شبوا على حُب شعر الكسرة مثلي ، ولديهم القدرة على الكتابة عنه ، وتقديمه للناس – ربما بأحسن مما سأصنع في هذه المقدمة . وهكذا بادرت بالموافقة للإسهام – وان كان بجهد المقل – مشاركة للأخ / فيصل فران عمله المهم هذا عن شاعر من جيل العمالقة الذين يمثل شعرهم مرحلة مهمة من مراحل شعر الكسرة في ينبـع .
إن ذيبان الفايدي رحمه الله شاعر مبرز يتميز شعره بعمق المعاني وابتداع الجديد منها فهو غير مقلد لغيره ممن سبقه أو عاصره من الشعراء ، وكان رحمه الله لا يتكلف نظم الكسرة بل تأتيه عفو الخاطر فهو شاعر مطبوع
واضح الفكرة سلس العبارة دقيق اللفظ ، كما يتميزبعلاقاته وصلاته مع الناس من حوله
سواءً أكانوا من أهل صنعة الشعر أو من عامة الناس ، وكان كذلك صاحب مدرسة شعرية على سنن الشعراء الأقدمين . حيث يذكر مؤلف هذا الكتاب بأنه كان للشاعر
( مركاز ) أى مجلس يختلف إليه عدد من محبي شعر الكسرة ، وناشئتها الذين ما كان الشاعر ليبخل عليهم بتوجيهاته ونصحه ، بالكثير من تواضعه وأسلوب الموجه والأستاذ ، الذي يتجلى فيه حبه لفن الكسرة ، ورغبتة في أن يتسلم الراية من بعده جيل من الشعراء يكون عاشقاً لهذا الفن وأميناً على صنعته .
وما فيصل فران إلا أحد أمثلة هذا الجيل الذي يجمع بين كتابة الكسرة وارتجالها ، وبين الأمانة والمسئولية التي يحملها تجاه هذا الفن الشعري الينبعي ، والا فما الذي يدفع شاباً في هذا العصر – الذي تحتشد فيه اوقاتنا بمغريات الترفيه الكثيرة – إلى تجشم عناء التأليف في هذا الفن في زمن يكاد الناس ينصرفون فيه عن شعر الكسرة بعد رحيل شعرائه الكبار ، وانطفاء الوهج الذي كان للعبة الرديح في السابق . انني احي الأخ / فيصل فران على صنيعه هذا وأشكره على وفائه لتراث المنطقة من خلال جمعه لشعر ذيبـان الفايدي رحمه الله ، وتسليط الضوء على حياة هذا الرجل ، ومكانته بين أقرانه من شعراء الأصالة في فن الكسرة .
لقد كان من أثر حبي وعشقي لهذا اللون من الشعر ان كتبت عنه أكثر من مقالة في الصحف ، والقيت دراسة عن الكسرة قبل عامين في احد المؤتمرات خارج المملكة ، ولا اراني في حاجة لتكرار ما سبق في مقدمة يفترض ان تكون موجزة وخفيفة على القارئ غير انه ما يزال في نفسي شي عن مسمى الكسرة ، والذي لم أصل الى قناعة تامة في معرفة المقصود به . وما أميل اليه هو ان التسمية مأخوذة من اللحن الذي تغنى به الكسرة ، ومن طريقة الصوت الذي تؤدى به ، لأن الأصل في الكسرة أن تغنى – مثلها مثل الشعر الشعبي عامة – أما تدوين الكسرة وكتابتها فهي مرحلة حديثة جدا . ولعل في عبارة ( كسر اللحن ) الذي يعنى الإنتقال من لحن الى آخرفي لعبة الرديح التي هي عماد شعر الكسرة ما يرجح هذا الميل .
وللكسرة مكانة عالية عند أهل ينبـع ، وقديماً قيل ان الشعر ديوان العرب وفنهم الذي ليس لهم فن غيره ، وهذا ينطبق على شعر الكسرة بالنسبة للينبعاويين فهو ديوانهم الذي يعبرعن ثقافتهم ، ويحمل همومهم ، ويصور تجاربهم المتنوعة في الحياة ، وهو متنفسهم في التعبير عن شتى الخوالج الإنسانية لذا نجد الكسرة تجري على كل لسان ويندر ان تجد واحداً من أهل ينبـع لا ينظم الكسرة أو يحفظ شيئاً منها ، وهكذا ظل شعر الكسرة ولأجيال طويلة ، الفن الشعري الوحيد في مجتمع لا ينافسه فيه أي فن شعري آخر.
ارتبطت الكسرة بلعبة الرديح التي تفوق في شعبيتها العاباً أخرى مثل ( زيـد و الحرابي و الرجيعي ) وذلك لما تذكيه من منافسة بين الشعراء الذين يرتجلون شعر الكسرة ارتجالاً أثناء أدائهم للرديح وينشئونه انشاءً في اللحظة نفسها ويتبارون في اظهار مهارتهم في سرعة النظم أمام حشد كبير من الناس .
وقد حفظ لنا التاريخ ليالي مشهورة للرديح بسبب جودة ما نظم فيها من كسرات ظلت عالقة بالذاكرة تتردد على السنة الناس الى هذا اليوم . وتدين الكسرة للرديح في المكانة التي وصلت اليها ، والطريقة التي شاعت وانتشرت فيها في ينبـع .
ورغم التركيبة السكانية المختلفة سـابقاً بين ينبـع البحر وينبـع النخل فإن الكسرة والرديح ظلا فناً مشتركاً بين البيئتين ، اضافة الى العلاقة الإجتماعية ، وعلاقة التكامل الإقتصادي بينهما تاريخياً حيث كانت ينبع البحر تمثل البعد التجاري ، وتمثل ينبع النخل البعد الزراعي كما انها كانت المصيف الأقرب الى ينبع البحر بسبب ما كان يوجـد بها مـن عيون ماء جـارية ومزارع نخيل كثيرة .
ان الإحتفاء بالرديح من قبل الينبعين هو الذي جعل هذه المسامرة الليلية تصل الى درجة متطورة في الأداء وفي تنويعه حيث تشتمل على الحان كثيرة كما أشار الى ذلك الأخ / فيصل فران وليس لحناً واحداً يودى على وثيرة واحدة فقط مثلما هو الحال في الألعاب الشعبية الأخرى . واظن ان الحان الرديح وتلك التي تودى فيما يعرف ( كسر اللحن ) لم يستفد منها موسيقياً مثلما حصل لفنون أخرى ( كاالمجرور والسامري ) ولم تدرس دراسة متخصصة تضع هذه الألحان في مكانها الحقيقي بين فنون الجزيرة ، ولعل شـاباً مثل فيصل فران يفعل ذلك في يوم من الأيام .
وينبغي أن نشير في الختام الى أن الكسرة ( كوزن شعري ) شائع في الجزيرة العربية ، وبمسميات متعددة ومنها ما يعرف بالهجيني ، وقد وقع بعض دارسي الشعر الشعبي في وهم عندما نسبوا هذا الوزن الى الشاعر النبطي المشهور ابن لعبون واطلقوا عليه مصطلح اللعبونيات ظناً منهم أنه من ابتداعه واكتشافه مع ان الكسرة معروفة في ( ينبـع ) قبل ابن لعبون أما الإختلاف بين الكسرة والأشعار التي تستعمل نفس الوزن فيتمثل فى ان الكسرة في الأصل تنظم من بيتين اثنين ، يسمى كل شطر منها غصناً . وهنا تتجلى مهارة الشاعر الموهوب ، حيث تتطلب الكسرة تكثيفاً وإيجازاً للفكرة وللمعنى المقصود ، في بيتين فقط دون زيادة ، وهذه مهارة لا يستطيعها الا الموهوبون حقاً .