«الشرق الأوسط»
القاهرة: جمال القصاص وأيمن حامد الدمام: عبيد السهيمي بيروت : سوسن الأبطح
غيب الموت في القاهرة مساء اول من أمس الأربعاء، الشاعرة العراقية نازك الملائكة رائدة الشعر العربي الحر، عن عمر يناهز 84 عاما، إثر هبوط حاد في الدورة الدموية وبعد معاناة طويلة مع أمراض الشيخوخة، وقد دفنت في مقبرة الأسرة في العاصمة المصرية الى جوار زوجها حسب وصيتها.
ولدت نازك الملائكة في بغداد في 28 أغسطس (آب) عام 1923 في أسرة محبة للثقافة والشعر، وتخرجت في دار المعلمين العالية ببغداد عام 1942، ثم التحقت بمعهد الفنون الجميلة وتخرجت في قسم الموسيقى عام 1948 وفي عام 1959 حصلت على شهادة الماجستير في الأدب المقارن من جامعة وسكونسن بالولايات المتحدة، وعينت أستاذة في جامعة بغداد وجامعة البصرة ثم جامعة الكويت. ومع تدهور الأوضاع السياسية في العراق غادرته الملائكة، وأقامت لبعض الوقت بعدة دول عربية، وفي عام 1989 اختارت الإقامة في القاهرة بشكل دائم، ورفضت العودة إلى العراق، وفي منزل بسيط بضاحية مصر الجديدة عاشت مع أسرتها الصغيرة برفقة زوجها عبد الهادي محبوبة، الذي توفي قبل عدة سنوات وابنها الوحيد البراق. وخلال تلك الفترة آثرت الملائكة العزلة والابتعاد عن الأضواء والمهرجانات الثقافية حتى أنها لم تحضر احتفالية التكريم، التي أقامتها لها دار الأوبرا المصرية في 26 مايو (أيار) عام 1999، بمناسبة مرور نصف قرن على انطلاقة مسيرة الشعر الحر في الوطن العربي.
وحاولت «الشرق الأوسط»، الاتصال بنجلها الوحيد البراق، لكنه اعتذر عن عدم الحديث عن أمه الرؤوم ـ على حد قوله ـ لانشغاله بمراسم نقل جثمانها إلى بغداد، لكنه أفاد بأنه سيقيم لها مساء اليوم سرادق عزاء في أحد مساجد لقاهرة. دشنت نازك الملائكة عام 1947 بقصيدتها «الكوليرا» ما عرف بالشعر الحر في الأدب العربي، وقد كتبتها تضامنا مع مشاعر المصريين، الذين حصد هذا الوباء أرواح الكثيرين منهم، خاصة في الريف المصري، لكنها في الطبعة الخامسة من كتابها الشهير «قضايا الشعر المعاصر» أقرت بأن قصيدتها لم تكن قصيدة الشعر الحر الأولى، بل سبقتها قصائد نشرت منذ عام 1932. تركت نازك الملائكة تراثا شعريا وأدبيا مهما، بدأته بديوانها الشعري الأول «عاشقة الليل» عام 1947 ببغداد، ثم توالت مجموعاتها الشعرية ومنها: «قرار الموجة» 1957، «شجرة القمر» 1968، «يغير ألوانه البحر» 1977، «للصلاة والثورة» 1978. كما صدرت لها بالقاهرة عام 1997 مجموعة قصصية لفتت أنظار النقاد بعنوان «الشمس التي وراء الغيمة». وإضافة إلى كتابها النقدي الرائد «قضايا الشعر المعاصر» تركت نازك الملائكة عددا من المؤلفات الأدبية المهمة، منها دراسة في علم الاجتماع بعنوان «الجزيئية في المجتمع العربي»، «الصومعة والشرفة الحمراء» و«سيكولوجية الشعر». حصلت نازك الملائكة في عام 1996 على جائزة البابطين الشعرية.
وأثناء ملتقى القاهرة الدولي للشعر العربي، الذي نظمه المجلس الأعلى للثقافة بمصر في شهر فبراير (شباط) الماضي، طرح اسم نازك الملائكة ضمن الأسماء المرشحة للفوز بالجائزة، لكن لجنة التحكيم اختارت الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش ليفوز بتلك الجائزة. وكان رئيس اتحادي الكتاب المصريين والعرب محمد سلماوي، قد طالب الشهر الماضي بعلاج نازك الملائكة، كما أصدرت مجموعة من المثقفين والسياسيين العراقيين المقيمين في مصر بيانا قبل نحو أسبوعين، طالبوا فيه الحكومة العراقية بتولي علاج نازك الملائكة، إلا أن أسرة الشاعرة الراحلة سارعت بإصدار بيان نفت فيه تدهور صحتها، وأكدت عدم حاجتها إلى تدخل أي جهة في حياة الشاعرة الكبيرة. شوشة: أهم شاعرة عربية معاصرة في مصر نعى الشعراء والكتاب رحيل الشاعرة العراقية الكبيرة نازك الملائكة. وقال الشاعر فاروق شوشة إن الشاعرة العراقية الراحلة كانت أهم شاعرة عربية في النصف الثاني من القرن العشرين، إذ ثبتت موقع الريادة للمرأة الشاعرة في حركة الحداثة الشعرية، عندما قاد زملاؤها في العراق السياب والبياتي والحيدري حركة التجديد الشعري. ويضيف شوشة أن الشاعرة الراحلة كان لها أيضا دورها النقدي المهم عندما كتبت عن هذه الحركة الجديدة في كتابها «قضايا الشعر المعاصر» شارحة أسباب هذه الحركة الجديدة ودواعيها ومستقبلها. كما كتبت مؤلفا نقديا مهما عن الشاعر علي محمود طه، كانت في الأساس مجموعة محاضرات ألقتها في مصر في مطلع الستينات. ويوضح شوشة أن الشاعرة الراحلة كان لها أيضا دور ثقافي باعتبارها من علامات التنوير في الحركة الثقافية المعاصرة، وقامت بترجمة نماذج عديدة من الشعر الإنجليزي لفتت فيه الأنظار إلى شعراء مهمين.
وعن خصائص نازك الملائكة الشعرية قال شوشة إنها كانت مولعة بالتأمل، نتيجة لطابع العزلة الذي كانت تعيش فيه، إذ كانت الشاعرة الراحلة انطوائية لا تميل للحياة الاجتماعية ولا للعلاقات الواسعة. وقال شوشة إن الشاعرة الكبيرة اختارت مصر لتكون وطنها في سنوات المرض الأخيرة، إذ كانت مرتبطة بالحياة الثقافية المصرية ارتباطا وثيقا وبقيت تعيش في شقتها بالقاهرة مع ابنها الوحيد البراق، تعبيرا عن حبها واعتزازها بمصر. أبو سنة: صوت مرهف وعقل نقدي بارز وقال الشاعر المصري محمد إبراهيم أبو سنة أن رحيل الشاعرة العراقية الكبيرة يعد خسارة كبيرة للشعر العربي المعاصر، إذ أنها واحدة من ثلاثة رواد بادروا إلى اقتحام ساحة الحداثة الشعرية، أما الآخران فهما بدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي، وبهذا رحل الثالوث الرائد الذي غير وجه القصيدة في القرن العشرين.
ويضيف أبو سنة، أن نازك الملائكة كانت صوتا مرهفا وعقلا نقديا بارزا، امتلكت ناصية الثقافة العربية العميقة، وكذلك استقت من مشارب الثقافة الغربية، خاصة الإنجليزية والأميركية. ويتابع أبو سنة أن اتصال الشاعرة الراحلة بحركة التجديد مع زملائها السياب والبياتي لم يمنع بروز صوتها الأنثوي الخاص، الذي اتسم بهذه الرقة الفياضة في اللغة والصورة الشعرية النضيرة، والعمق في الإحساس بالأشياء، وهي خصائص تميز المرأة وتميز نازك الملائكة على وجه التحديد.
وقال أبو سنة أن الشاعرة العراقية أبدعت تسعة دواوين، وكانت قصيدتها الأولى بعنوان «الكوليرا» كتبتها في عام 1947، وعبرت فيها عن اهتمامها بالقضايا الاجتماعية والقومية بعد انتشار وباء الكوليرا في مصر ذلك العام، حيث بوحي من ضميرها الوطني هذا الحادث الاجتماعي لتكتب هذه القصيدة الرائدة.
ويضيف أبو سنة أن البعض رأى في نازك الملائكة شاعرة تقف على الأعراف بين حدود الكلاسيكية والرومانتيكية والواقعية، فهي لم تبحر بعيدا في ميدان الحداثة، واستطاعت أن تكبح جماح ثورتها الحداثية نحو إطار متوازن ومعتدل لا يقطع الصلة بين التراث وحركة الحداثة. ويرى أبو سنة أن نازك الملائكة قد تعجلت في محاولة وضع قواعد لقصيدة التفعيلة قبل أن تنضج هذه القصيدة، غير أن نازك ـ بحسب أبو سنة ـ كانت حريصة على القصيدة العربية، وكانت تخشى من انزلاق حركة الحداثة إلى نوع من الفوضى فبادرت بوضع قوانين وتنبؤات، ويضيف أبو سنة أن تحذير نازك الملائكة للشعراء من التورط في حداثة تميل إلى التجريب والتغريب كان تحذيرا في محله، لأن القصيدة انتقلت بعد ذلك إلى مرحلة التفريط والإفراط، وتميزت بالفوضى وصارت أطلال أشباح لنماذج مترجمة من الشعر الأجنبي.
* إيمان بكري: تركناها في عزلتها من جانبها قالت الشاعرة المصرية إيمان بكري إن نازك الملائكة كانت واحدة من أبرز الأصوات النسائية الإبداعية التي فرضت نفسها ووجودها وكان لها الفضل في ترسيخ حركة التجديد في الشعر العربي، كما تميزت بالشجاعة في طرح مشروعها الأدبي وسط كوكبة من عمالقة الشعر العربي الحديث، وهذا في حد ذاته انتصار للصوت النسوي في حركة الشعر الجديدة. وقالت إيمان بكري إن موت نازك الملائكة مأساة حقيقية، واستطردت قائلة إن الموت أمر مقدر على كل إنسان، لكن موت شاعرة العراق على هذا النحو هو المأساة ذاتها، إذ أنها عاشت كل تلك السنوات بيننا، لكن لم يحاول واحد إجراء حوار معها يغوص في مكنونات امرأة مبدعة كنا نريد الاستدفاء بوجودها بجوارنا. وتضيف بكري أننا أهدرنا فرصة كبيرة للولوج إلى عوالم نازك الملائكة، حتى أن كثيرين من الشعراء العرب والمنسوبين إلى الثقافة كانوا يعتقدون أنها رحلت منذ زمن بعيد. مشيرة إلى أنه من الخطأ ترك أي مبدع يقع في حالة الكآبة والعزلة، ولا بد من الالتفاف حوله ومساعدته في استعادة حياته الأدبية. وتضيف بكري أن شعر الراحلة تميز باستحداث الكلمات والتغيير في القالب الشعري، والتحدي وكسر التقليد الذي كان قد بدأ يأكل في الشعر العربي. كما تميز بالرقة والعذوبة والصدق في التعبير وخلق أجواء جديدة، غامضة في بعض الأحيان لكنها تشعل الوجدان وتحفز العقل.
المفضلات