عبدالمحسن البدراني ـ جريدة المدينة
أنت صحفي تحب ينبع



جريدة المدينة امس الثلاثاء 12 / 5

المنطقة التاريخية.. هياكل متمسكة بالحياة رغم الإهمال والنسيان


المنطقة التاريخية.. هياكل متمسكة بالحياة رغم الإهمال والنسيان
المدينة 12/4/1428هـ
عبدالمحسن البدراني
ينبع مدينة التراث الأصيل والعراقة المتجذرة تتسابق إليك نسمات بحرها الرائع ويشدك هدوء شواطئها الحالمة. تأسرك كياسة أهلها وسرعة تعايشهم مع الآخر. ونشاطهم وحيويتهم المبهرة.
فهذه السواعد الأصيلة بنت تاريخا يحكي أروع ملاحم الاعتماد على الذات. فهم من صنع مراكب الصيد وشباكه وخاضوا بها أعماق البحر. وهم من تغنوا بأعذب الألحان البحرية التي جسدت معاناتهم ورصدت حقيقتهم ومشاعرهم وصبرهم على شظف العيش وصعوبات الرزق.
وهم من اختلطت قطرات عرقهم الندية مع ثرى مدينتهم فكونت (لبنا) يبنون به بيوتهم وزينوها بآكال وزخارف هندسية من وحي بيئتهم.
وهم من (جد النخيل) ووبر (عذوقه) وهم من صنع (أعجاز) النخل سقوفا يستظلون تحتها.
علمهم البحر كيف يستقبلون من يأتيهم (عبره) وعلمهم النخيل الصبر والكرم.
فالبحر والنخل كلاهما (ينبع) واحدة.. سكانها يربطهم الحاضر والتاريخ وعاشوا أحلك وأصعب ظروف الحياة (معا) وتقاسموا قساوة الأيام والتاريخ (معا)، ولم يبتعد البحر عن النخل، ولم يرضَ النخل للبحر بديلا.
فما رسمه البحر على قسمات الوجوه رسمه (النخل) وما حفره سعف النخيل على الكفوف حفره البحر. فينبع هي (النخل والبحر).
وينبع اليوم رغم التغيرات الكبيرة التي تشهدها. والتحولات الاجتماعية الواضحة على معالمها. لازالت تحكي التاريخ بشواهد قائمة وأخرى لم يعد لها مكان إلا في الذاكرة، فتاريخها (الإغريقي) كميناء لخدمة سفنهم الشراعية (محفوظ) وتاريخها العربي والإسلامي (موجود). ومنطقتها القديمة قائمة تحكي تاريخها المعاصر مع محاولات هنا وهناك للمحافظة علىه.
فالمنطقة (القديمة) أو البلدة القديمة التي ارتمت في أحضان الشاطئ. يمر بها بعض أبناء ينبع ليسترجعوا تاريخ آبائهم وأجدادهم. بينما سكن البعض الآخر إلى جوارها لا يستطيع الرحيل. والجميع يبحث عمن يسترجع هذه (الذاكرة) التاريخية القائمة شواهدها على أطراف الشاطئ. فهذا التاريخ المهمل لم يجد من يرعاه سوى بعض من الاجتهادات الفردية المحددة.
والعجيب أن ميناء ينبع الذي فتح (بواباته) على مصراعيها أمام المنطقة التاريخية في تناقض عجيب فمن (يتعطل) لسبب أو لآخر على بوابة الميناء يتوسد ظلال بيوت المنطقة التاريخية القديمة ويتسلل البعض ليقضوا حاجتهم في دهاليزها في امتهان واضح (للتاريخ).
وبوابات الميناء التي كان من الممكن أن تفتح من جهة أخرى. مصرة على استهداف المنطقة التاريخية رغم عمق الآثار المترتبة على ذلك والتي قد تتسبب في (هلاك) بقايا المنطقة القديمة كاملة وعلى بعد أمتار بسيطة من هذا الموقع يظهر تناقض آخر لا يقل خطورة، فالنقل الجماعي استباح هو الآخر واستقطع جزءا من الحي القديم والتاريخي وحوله لمحطة تنقل المسافرين.
وبدلا من تسوير هذه المنطقة ومحاولة المحافظة على بيوتها القديمة وتاريخها وسوقها القديم أقيم سور حول محطة النقل الجماعي لكي يحمي الحافلات، وكأنها أغلى من بقايا الأجداد المتشبثة بالوجود ولأن أبناء ينبع يعرفون ويعون قيمة هذه المنطقة التاريخية.. فمن الطبيعي جدا أن يعتصرهم الألم لما تعانيه من إهمال واضح، ومع تزايد الألم تتعالى المطالبة بأهمية وضع خطة متكاملة تشرف عليها الجهات المختصة تحمي المنطقة التي تستحق بذل الجهد للحفاظ عليها من امتهان العابرين الذين لا يقدرون تاريخها.
فهذا الموقع يحكي سيرة أحياء ينبع القديمة وبواباتها ومينائها القديم. من حي (السور) لباب (الحديد) ومن الباب (الكبير) لباب (السيارات) ومن حي (الحريق) إلى حي (القاد). إلى السوق القديم. إلى باب (الجمارك). إلى (مرابط الإبل).
ورغم هذا تشكو المنطقة التاريخية الآن من معاناة حقيقية وتصرخ طالبة (للترسيم) كي لا تتهالك. فهذا التاريخ يجب ألا تطأه أقدام لا تعي قيمته ولا أن يختلط هواؤه بأنفاس من لا يعرفون تاريخه ولا يليق أن يتحول إلى (مخبأ) يؤوي (الوافدة) تحت جنح الليل.
البيوت المهجورة
في ينبع تستوقفك المشاهد المتعددة من فرط الدهشة أو من سحر المكان.. وأحيانا يأخذك العجب وتكرر (لماذا ولماذا ولماذا؟). فعند جولتنا في حيها القديم. وفي الشوارع المحيطة به شاهدنا على أطراف (الميدان) القديم بيتا مهجورا وقد تهدم نصفه وبقي النصف الآخر. يخبر (المارة) بأنه (يعاني). وعلى امتداد الشارع الذي يحتويه جفت الأشجار القديمة وتهاوت أغصانها من (الإعياء) بعد أن امتنعت (البلدية) عن (سقياها) وتركتها مهملة. رغم أنها كانت شاهدا من شواهد الجمال والاخضرار والذي يتمازج مع البحر بألوان الطبيعة لكنها تحولت إلى (أخشاب).
أما الميدان الآخر في نهاية الطريق والذي قامت (البلدية) بوضع مجسم جمالي في وسطه عبارة عن (قفة صياد) وما تحتويه بعد عودته من رحلة (صيد). فالعجيب أن ما يقابل هذا (المجسم الحديث) الذي أراد له واضعوه أن يحكي (التاريخ) يقابله على الطرف الآخر معالم تاريخية مهدمة ومهملة وهنا تختلط في رأسك المفاهيم وعلامات التعجيب أيهما (أصح).. أن نحافظ على تاريخ موجود أهمل وتهدم؟ أم نبني صورة (بائسة) له تقابله؟
مع الفرق الشاسع بين (الحقيقي والمزيف). فهذا المهدم بنته السواعد (الندية). والآخر بنته (العمالة الأجنبية). ويبدو أن (البلدية) تناست أنه لا يمكن إخفاء معالم (الحقيقة).
والمباني المهجورة والمتهدمة والمتهالكة في ينبع تكاد تكون سمة واضحة في اغلب أحيائها، خصوصا في وسط ينبع حيث تنتشر على الشاطئ القديم. وإلى جوار الميناء، وعلى بعد أمتار قليلة عن الوسط التجاري وحتى في الشوارع الرئيسية، البعض منها انهارت أجزاء منه وسقطت أنقاضها على الأرصفة ولم تكلف (البلدية) نفسها (إماطتها) عنها، فهناك منها ما انهار وبقيت آثاره وهناك منها ما بقي متهدما بالكامل.. وهناك المباني المهجورة.. والمهجورة لم تكن فقط منازل لمواطنين رحلوا عنها.. فهناك بعض الإدارات الحكومية التي (هجرت) الأحياء وبقيت مبانيها خاوية مثل (جمعية الهلال الأحمر) التي تركت مبناها مهجورا ومقفلا تاركة حتى اللوحة الإرشادية.
أحمد القرافي (المواطن الينبعاوي) الذي يجاور سكنه العديد من هذه المباني المهجورة والمتهالكة لم يخفِ امتعاضه ويقول: هذه المنازل انهار البعض منها منذ سنوات ولم ترفع بقاياها.. وبعضها الآخر مهجورة تحولت لأوكار للعمالة دون رقيب أو حسيب.
وشكوانا المتكررة لا تجد من يسمعها وكل ما أخشاه أن أمر يوما تحت أحد هذه المنازل فأجده ينهار على رأسي. أما (أبو هيثم) فقال بسخرية: هل تعرف أن بعض العمالة الوافدة في ينبع لا تحتاج إلى سكن؟ فالمباني والمنازل الخاوية والمهجورة حولتها العمالة إلى مساكن بالمجان بل إن احد العمالة (البنغالية) استولى على أحد المنازل المهجورة ويقوم بتسكين أبناء جلدته بـ50 ريالا في الشهر.
جهات الاختصاص
وتفرض هذه المشاهد تساؤلات عن جهات الاختصاص المنوطة بهذه الإشكالية التي تعم ينبع، فهي ليست (مختفية) حتى لا تراها (المحافظة) وهي ليست متوارية حتى تغض (البلدية) الطرف عنها.. فمن العجيب في ينبع أن تسكن العمالة (المهجور) بعد أن رحل عنه المواطن ليبحث عن سكن آخر يؤويه، فأين حملات الجوازات والحملات الأمنية؟ وأين من يرفع أنقاض المنازل المتهدمة؟ وأين عيون المسؤولين عنها وآذانهم؟ فشكاوى المواطنين التي يتردد صداها في أروقة المحافظة ومطالباتهم بترميم (القديم) وتحويله إلى متحف طبيعي لا تنقطع.. لكنها لازالت (تُدرس) أما رفع أنقاض المتهدم فلا يوجد له (قرار).
والبلدية التي تبني إلى جوار المتهدم مجسما جماليا قبل أن ترفع أنقاضه تعيش في مفاهيم متناقضة.. إذ لا يفصل (التطوير) عن (التدمير) سوى شارع وشاطئ وبحر وميدان جميعها في موقع واحد.
إن ما تحتاجه (ينبع) من محافظتها وبلديتها هو خطة إستراتيجية تهدف إلى حماية آثار ينبع القديمة.. وتحمي بيوتها القديمة من الدخلاء.. وترفع أنقاض (المتهدم) من المباني وتعيد الحياة إلى(المهجور) وتعيد الحيوية إلى شارع الميناء القديم الذي امتلأ ببقايا الأشجار وهياكلها، وبقايا المباني المنهارة والمتهدمة، حتى تصبح ينبع بحق مدينة التراث والحضارة والشواطئ الهادئة والجميلة وحتى نسترجع عبق الماضي ونستطيع أن نقول حينذاك (ليه ينبع؟) بدلا من أن نقول (ينبع ليه؟).