( 1 )






قال لي وهو يتحدث بلسان مر ..
في الحي المتاخم لحينا .. كان منزل عمي ..
خالد ابن عمي وأنا صديقان منذ الفطام ..
ربما كانت سهرتنا في ملحق منزلنا وكثيرا ماكنا في الملحق لمنزل عمي ..
أشياء كثيرة كانت بيننا .. الصداقة حد الألفة .. والتحدي حد التنافس .. وتجمعنا جميعا روح المغامرة ..
كلانا في المرحلة الثانية من المتوسطة ..
كان خالد ذا وجه حنطي وجسم نحيل جدا .. قسمات وجهه لاتشي بالوسامة إلا بعد التأمل المستمر .. لكنه يحمل نفسا وسيمة .. وروحا دعابية جذابة ..
وأما أنا فقد كنت مكتنز اللحم شديد البياض ولكني لم أكن وسيما إلى حد لافت للنظر .. ربما أكون وسيما بالمقارنة فقط ..
هناك في التقاطع القريب من بيت عمي وسط الحي بقالة يشبهها عمي دائما بالنجفة ..
النجفة ؟!
عندما سأله والدي مرة عن سبب التسمية عدل عمي من جلسته ليبدأ مشوارا طويلا من الفلسفة على عادته وقال :
- النجفة تجمع الحشرات من كل صوب ثم يأتي الوزغ ليصطاد مايشاء ..
حينها لم أكمل سماع الحوار الهامشي للوصف النجفي لأن ابن عمي خالد كان قد التفت إلي وهو يضحك ويقول : أجل عامل البقالة هو البويبينة !!
الوزغ .. الذئب .. الثعلب .. هل يمكن معرفة متقمصيها من البشر ؟
أشك في ذلك كثيرا ..
لأن حلاوة اللسان مقدمة على الروغان ..
لا تسألوني !
اسألوا صالح عبدالقدوس حين قال :
يعطيك من طرف اللسان حلاوة ** ويروغ منك كما يروغ الثعلب
إذن المعرفة تكون بعد أن يروغ ..
نعم .. وذلك الذي وقع لي .. وأوقعني في الفخ ..
حمود ..
يدرس في متوسطة ابن عمي بل إنه يجلس في الكرسي الذي خلفه في الفصل ..
رأيته كثيرا عند البقالة .. وحدثني ابن عمي عنه كثيرا .. لم أكن مرتاحا له على أية حال ..
يفترض - بالنظر إلى عمره - أنه من طلاب الصف الثالث ثانوي .. حليق الذقن وله شارب محدد ونازل مثل علامة رتبة عسكري مبتديء .. غليظ الصوت .. طويل نسبيا .. عليه مسحة جمال لكنها قاتمة ! .. يضحك من كل شيء .. يعرف كل شيء .. سخي بكل شيء .. لاتظهر عليه رائحة الدخان ولكن المراتب الجلد في سيارته متشبعة به ..
كان يأتي من أقصى الحي على سيارته الماكسيما السوداء ورأسا إلى البقالة .. ويستمر في الحديث مع ابن عمي لساعات طويلة .. في داخل القمرة أو يفتح الباب فتنزل قدم وتبقى أخرى في الداخل ..
لا أدري كيف تعرف علي وأنا الحذر جدا ..
جرأته في المزاح كانت قوية ..
غمرني بمزحة كانت مثل موجة بحرية شهية ..
ضحكت ..
صار بعدها يوزع اهتمامه ومزاحه ونظراته بين ابن عمي وبيني ..
في اختبارات الفصل الأول رأيت الطلاب متجمهرين في الشارع الكبير المقابل للمدرسة ..
سيارة ماكسيما سوداء تستعرض بكل مهارة ..
حمود ؟
قلتها بلا شعور .. فالتفت إلي صديقي في الفصل وقال : تعرفه ؟ .. هذا أحسن مفحط بالحارة .. يسوي حركات مايسويها أحد .. تعرفه ؟
أخذتني نشوة .. نشوة المراهقة .. وقلت له :
إيه .. أعرفه من قديم ..
وقطع كلامنا صرير العجلات في حركة مهارية نادرة ..
صراخ وتصفيق .. وتشجيع .. ونشوة ..
في المساء ..
كنت أذهب إلى ابن عمي للمذاكرة .. فرأيته هناك ..
- حركات حلوة اليوم ..
قلتها وأنا أرفع حاجبي الاثنين ..
ضحك مسرورا .. وحرك عينيه كانه خجل وقال : أنت احلى !!
شوط من رعشة كهربائية ناعمة سرت في كل عرق ..
وقال ابن عمي وهو ينظر إليه : خير؟ .. أي حركات ؟ .. علمونا ..
انفجر هو بالضحك وقال : أنا ماقلت حركات ولا شي !
والتفت إلي ابن عمي : أي حركات ؟ .. علمنا ..
تحدثت بكل طلاقة .. وصفت المشهد كأدق مايكون الوصف ..
كان مسرورا مما أقول .. وهو يضحك .. ويضحك ..
قال ابن عمي : لا .. لالالالا .. مايصير .. بكرى لازم أكون معك ياحمود ..
- أبشر بسعدك ياخالد ..
وأنا ؟
قلتها وأنا محلق في ذلك الجو الخمري الغريب
- أبشر .. أبشر .. بس حاولوا تطلعون بدري من الاختبار ..
إجازة الربيع ..
والفصل الثاني كله ..
توطدت بيننا العلاقة كثيرا نحن الثلاثة .. يعتذر حمود في بعض الأحيان لارتباطه بأصحاب له آخرين .. يحملنا لأي مكان نريد .. سوق الجوالات .. تجمعات التطعيس .. التفحيط .. المطاعم .. كل شيء ..
بساط من الريح يحملنا لأي مكان ..
أو ربما مصباح علاء الدين ..
أهداني مرة جوالا فاخرا .. لكنه مستعمل ..
كان يفزع بكل ما أوتي من جهد لما يعوزنا
لم يكن يشعر أحد من أهلنا بذلك ..
ومن الذي ينتبه لحشرات حول نجفة ؟!!
حتى جاءت تلك الساعة الحاسمة في حياتي كلها
لم يكن كعادته ..
هذه المرة ذهب لإنزال ابن عمي خالد قبل إن ينزلني !
سلك طريقا بعيدا عن الحي ..
التفت إلي وعلى رأسه قبعته الحمراء المعتادة وغمز بعينه ورفع إبهامه وهو يقول : اليوم نبي نسوي حركات ؟!!
فهمت بسذاجة منقطعة النظير أننا مقبلون على مغامرة فريدة ..
ضحكت .. وهززت رأسي ..
صوت الغناء يصدح وهو يدق بأصابعه على مقوده بنغماتها .. ويهز جسمه ..
انعطف خارج المدينة ..
كلما سألته .. ضحك وقال : لا تستعجل ..
روح المغامرة لدي طافحة على كل شيء ..
ابتعدنا كثيرا ..
قطعنا مسافة غير معتادة أبدا ..
حرف سيارته جهة الصحراء ..
التفت إليه ..
رفع إبهامه وهو يخفض رأسه ويغمز بعينيه ويعض شفته السفلى ..
الآن ..
ساورني شيئ لا أدري ماهو ..




ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــ

رويدكم ..
لاتستعجلوا ..
سأقص لكم كل الذي حصل .. إن شاء الله ..