قد أمر اللَّـه سبحانه بعمارة المساجد، وحث عليها. وعمارة المساجد تكون ببنائها، وترميمها، وتكون بذكر اللَّـه فيها، وإحيائها بطاعته؛ قال اللَّـه -سبحانه-: {إِنَّمَـا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّـهِ مَنْ ءَامَنَ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَءَاتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّـهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْـمُهْتَدِينَ} .( 1)
وفي حديث عثمان -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من بنى لله مسجدا بنى اللَّـه له بيتا في الجنة» . ( 2) وقال اللَّـه -سبحانه-: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّـهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّـهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} ( 3) . فعمارة المساجد من أوجب الواجبات، وأفضل القربات، كما أن السعي في خرابها، والاستهانة بها من أعظم المحرمات، فيجب احترام المساجد وتعظيمها كما عظمها اللَّـه، ولا تجوز الاستهانة بها، وتقذيرها، والاستخفاف بحقها، والاستهانة بحرمتها؛ لأنها بيوت اللَّـه، وموضع عبادته، ومشاعر دينه، فالاستخفاف والاستهانة بحرمتها من أعظم أنواع الجرأة على اللَّـه، والاستخفاف بدينه.
وقد تكاثرت الأدلة في الحث على احترامها، وتنظيفها، وتطييبها، وإماطة الأذى والأوساخ والقمامة عنها، كما جاءت النصوص بالنهي والتحذير عن السعي في خرابها، وعمل كل ما ينفر عنها، أو يقلق راحة المصلين فيها. وقد ثبت في الحديث: «البزاق في المسجد خطيئة، وكفارتها دفنها» ( 4) . وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما رأى نخامة في المسجد غضب، وأمر بحكها ( 5) . ونهى آكِلَ الثوم والبصل عن قربان المسجد ( 6) .
فإذا كان الأمر ما ذكر من وجوب احترام المساجد، وتعظيمها، والتحذير من كل ما ينفر عنها، علم تحريم الإقدام على هدمها، ونقلها لمسوغ تصوره متصور، من غير حصول على إفتاء شرعي مدعم بالدليل. ولا تكون الفتوى في مسجد بعينه فتوى في عموم المساجد، بل كل مسجد يحتاج إلى فتوى فيه بعينه؛ لأن الأصل المنع، ويحتاج كل مسجد إلى نظر جديد، وتأمل في جنس المسوغات، حتى يتحقق المسوغ. فهدم المساجد، ونقلها بدون تحقق مسوغ شرعي، لم يقل بجوازه أحد من علماء المسلمين. أما نقلها لمصلحة، أو لتعطل منفعة فهذا فيه خلاف بين العلماء. منهم من منعه، وهم الجمهور من العلماء، واستدلوا بحديث: «لا يباع أصلها، ولا توهب، ولا تورث» ( 7) .
ومنهم من أجازه إذا تعطلت منافعه، ولم يجزه لرجحان المصلحة فقط.
ومنهم من أجازه لمجرد رجحان المصلحة، وهو الشيخ تقي الدين بن تيمية وأتباعه. فقال في «الإنصاف» ( 8) : نَقَلَ صالِح: يجوز نقل المسجد لمصلحة الناس، وهو من مفردات المذهب، واختاره صاحب «الفائق» ، وحكم به اهـ. وقال أيضا ( 9) : وجوز الشيخ تقي الدين ذلك -أي: بيع الرقعة والمناقلة فيه- لمصلحة. وقال: هو قياس الهدي، وذكره وجها في المناقلة. وقال في «الإنصاف» ( 10) أيضا: وأما إذا تعطلت منافعه -أي: الوقف- فالصحيح من المذهب: أنه يباع والحالة هذه. وعليه جماهير الأصحاب، وقطع به كثير منهم، وهو من مفردات المذهب. وعنه: لا تباع المساجد، لكن تنقل آلتها إلى مسجد آخر. اختاره أبو محمد الجوزي، والحارثي، وقال: هو ظاهر كلام ابن أبي موسى. وعنه: لا تباع المساجد، ولا غيرها، لكن تنقل آلتها. وقال في «الإنصاف» ( 11) : فعلى المذهب: المراد من تعطيل منافعه: المنافعُ المقصودة، بخراب أو غيره، ولو بضيق المسجد عن أهله -نص عليه- أو بخراب محلته. نقله عبداللَّـه، وهذا هو المذهب، وعليه أكثر الأصحاب، وقدمه في «الفروع» .اهـ.
وقال في: «المغني» ( 12): وجملة ذلك: أن الوقف إذا خرب، وتعطلت منافعه: كدار انهدمت، أو أرض خربت، وعادت مواتا، ولم تمكن عمارتها، أو مسجد انتقل أهل القرية عنه، وصار في موضع لا يصلى فيه، أو ضاق بأهله، ولم يمكن توسيعه في موضعه، أو تشققت سقوفه، ولم تمكن عمارته ولا عمارة بعضه إلا ببيع بعضه، جاز بيع بعضه؛ لتعمر به بقيته، وإن لم يمكن الانتفاع بشيء منه بيع جميعه. اهـ.
فظهر مما تقدم أن نقل المسجد لحاجة الشارع إليه، لا يجوز على المذهب. وهذا على قول الجمهور أظهر. وعلى أصل الشيخ تقي الدين ( 13) لا يعد هذا بمجرده مسوغا، لكن على أصله فقط أنه لو نُقل في هذه الصورة إلى موضع آخر لكونه أصلح وأسهل لجماعة المسجد، وكان بمقدار المسجد الأول سعة وصفة وأتم -ساغ الإفتاء بذلك، وهذا هو المفتى به عندنا. وقد استدل أصحابنا الحنابلة على جواز نقل المسجد عند تعطل منافعه بما يروى أن عمر كتب إلى سعد لما بلغه أنه قد نقب بيت المال الذي في الكوفة: أنِ انقل المسجد الذي بالتمّـارين، واجعل بيت المال في قبلة المسجد، فإنه لن يزال في المسجد مصل. قالوا: وكان هذا بمشهد من الصحابة، ولم يظهر خلافه، فكان إجماعا.
وأجابوا عما استدل به الجمهور بأن البيع المنهي عنه في الحديث أن المراد بيعه كبيع الأملاك، أو لأكل ثمنه وإبطال وقفيته، وهذا مما لا نزاع فيه. والنقل عند تعطل المنفعة، أو لرجحان المصلحة ليس من هذا في شيء، وإنما هو من تكميل الوقف، والسعي في حصول مقصود الواقف، أو ما هو أكمل من مقصوده، وهذا من الإحسان، والتعاون على البر والتقوى، الذي أمر اللَّـه به. واللَّـه أعلم.
التعديل الأخير تم بواسطة حامد الأحمدي ; 13-11-2006 الساعة 11:42 PM
ما تعودت السهر حسبي الله عليك
كل ماغفت عيني صحاني غلاك
المفضلات