ثانياً: المنهج الإسلامي لنبذ الخلاف


أمثلة تطبيقية:



مرت نماذج خيرة في حياته عليه الصلاة والسلام، سطرها أصحابه ـ رضوان الله عليهم ـ ومن هذه النماذج:

1-الخلاف بين بلال وأبي ذر:



فهذا أبو ذر ـ رضي الله عنه ـ عير بلاباً بأمه، فشكاه بلال إلي النبي صلي الله عليه وسلم ثم ندم أبو ذر علي ما بدر منه من قول، فوضع خده علي التراب، وقال لبلال: والله لا أرفع حدي حتى تطأه بقدمك! فتعانقا وتصافحا.



2-الخلاف بين المهاجرين والأنصار:



كاد المهاجرون والأنصار أن يقتلوا وذلك بعد الإسلام! وسلوا السيوف ، وتهيئوا للقتال! فخرج عليهم الرسول صلي الله عليه وسلم وقال: (( ما بال دعوى جاهلية)) ثم قال : (( دعوها فإنها منتنه)).

فبكوا ، واسقطوا السيوف من أيديهم ، وتعانقوا فهذه الأخوة المعتصمة بالله نعمة يمتن الله بها علي المسلمين، وهي نعمة يهيئها الله لمن يحيهم من عبادة، وما كان إلا الإسلام وحده يجمع هذه القلوب المتنافرة ، وما كان إلا خبل الله الذي يعتصم به الجميع، فيصبحون بنعمة الله إخواناً، وما يمكن أن يجمع القلوب إلا أخوة في الله تصغر إلي جانبها الأحقاد التاريخية، والثأرات القبلية، والأطماع الشخصية، والرايات العنصرية!

)وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا )(آل عمران: الآية103)

ذكر أهل التاريخ بسند صحيح أن الصحابة خرجوا في غزوة بني المصطلق ، وكان لعمر مولى اسمه جهجاه، فقام فاختصم مع رجل من الأنصار اسمه سنان بن وبرة، فغضب الأخير غضباً شديداً حتى تصايحا، فقال مولى عمر: يا للمهاجرين! وقال الأنصاري: يا للأنصار!فبلغت في النفوس حزازات، وأخبروا بها رأس النفاق عبد الله بن أبي بن سلول فقال: صدق المثل القائل: جوع كلبك يتبعك، وسمن كلبك يأكلك! لو أنا صرفناهم عن دارنا ما فعلوا هذا، لئن رجعنا إلي المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل.فقال عمر: ائذن لي أن أقتله يا رسول الله، فقال صلي الله عليه وسلم : (( يا عمر، لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه)).

هذا هو المنهج الصحيح في التعامل مع الخصوم في هذه المرحلة من مراحل الدعوة المباركة، فالنبي صلي الله عليه وسلم عنده منهج دعوى يسير عليه، يريد مصلحة هذه الدعوة، وما عليه من دمه ولا من نفسه، ولا من ماله، ولا من زوجه، ولا من أهله، لأنه يريد للدعوة أن تستمر ، وأن يستفيد الناس، وأن يسمع الناس، وأن يتعظ الناس، وأن يهتدي علي يديه بشر كثير، أما قضية الانتقام الشخصي أو أن يقوم الإنسان ويغضب لنفسه، فليست من صفاته صلي الله عليه وسلم .

ومنع عليه الصلاة والسلام عمرن فأتي عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول فقال: يا رسول الله، سمعت أنك تريد قتل أبي، فإنك أن أرسلت رجلاً لقتل أبي، والله لا تطمئن نفسي أن أري قاتل أبي يمشي علي وجه الأرض حتى أقتله، لكن يا رسول الله ائذن لي أن أهذب الآن وآتيك برأس أبي! والله يا رسول الله لئن شئت لأقتلنه، فإنك الأعز وهو الأذل!!

انظر إلي الإسلام! وإلي عظمة الانتساب إليه؛ فصل بين الولد وأبيه، وهو من صلبه، ومن دمه، من عروقه!

ثم انظر إلي الإيمان الذي تغلغل في أحشاء هذا الصحابي الجليل، وتسرب إلي عروقه ومشاعره، وجري منه مجرى الروح والدم ‍‍!

حقاً، بـ (( لا إله إلا الله محمد رسول الله)) يظهر من روائع الإيمان واليقين والشجاعة، وخوارق الأفعال والأخلاق ، ما يخير العقول والألباب ، ويعجز عن تفسيره أهل البصائر والعقلاء.

ويموت هذا الشقي، فيجيء ابنه عبد الله بن عبد الله إلي رسول الله صلي الله عليه وسلم فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه، فأعطاه، ثم سأله أن يصلي عليه ، فقام رسول الله صلي الله عليه وسلم ليصلي عليه، فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله صلي الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أتصلي عليه وقد نهاك ربك أن تصلي عليه؟! فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم : ((إنما خيرني الله فقال: )اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُ)(التوبة: الآية80) وسأزيده علي السبعين)).

قال عمر: إنه منافق!! فصلي عليه رسول الله صلي الله عليه وسلم وصلي معه المسلمون. فأنزل الله عليه قوله: )وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ)(التوبة: الآية84)

ويأتي إلي الرسول صلي الله عليه وسلم متخلفون من المنافقين الذين أساءوا وتركوا الغزو، وخالفوا أمرهن وعصوا الله، فيقول أحدهم : يا رسول الله، إني مريض!فيقول له: صدقت. وهو ليس مريضاً في جسمه، لكنه مريض القلب. ويأتيه الثاني فيقول له: امرأتي مرضت في الغزوة! فيقول له: صدقت. ويأتيه الثالث يقول له: فقير ما استطعت أن أشتري جملاً! فيقول له الرسول صلي الله عليه وسلم : صدقت ، فيقول تعالي: )عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ) (التوبة:43) .

فماذا أحدث عليه الصلاة والسلام بهذا الخلق؟

جمع القلوب بدعوته، وألف بين الأرواح بحكمته، أتاه أحدهم فقال له: والذي لا إله إلا هو إنك أحب إلي من نفسي!!

وقال الثاني: والله ما ملأت عيني منه إجلالاً له، والله لو سألتموني أن أصفه لكم، ما استطعت أن أصفه من حبي وإجلالي له.

ولقد كانوا رضي الله عنهم يتمنون أن تسيل دماؤهم، وتندق أعناقهم، ولا يشاك رسول الله صلي الله عليه وسلم بشوكة.. هذا هو الحب!



3- الخلاف بين معاوية وابن الزبير:



كان لمعاوية مزرعة في المدينة، وله عمال، وكان لابن الزبير مزرعة بجانبها، ومعاوية آنذاك يحكم ما يقارب العشرين دولة، وابن الزبير راع من رعيته، وكان بينهما حزازات قديمة، فأتي عمال معاوية ودخلوا في مزرعة ابن الزبير ، فكتب ابن الزبير لمعاوية كتاباً ، وكان رضي الله عنه غضوباً، فقال له:

بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله بن الزبير ابن حواري الرسول، وابن ذات النطاقين، إلي معاوية بن هند بن آكلة الأكباد! أما بعد : فقد دخل عمالك مزرعتي، فو الذي لا إله إلا هو إن لم تمنعهم ليكون، لي معك شأن!!

فقرأ معاوية الرسالة ـ وكان حليماً ـ فاستدعي ابنه يزيد، وكان يزيد متهوراً ، فعرض عليه معاوية الرسالة، وقال : ماذا تري أن نجيبه؟

قال: أرى أن ترسل له جيشاً أوله في المدينة، وآخره عندك في دمشق يأتونك برأسه!!

فقال معاوية: لا ، خير من ذلك وأقرب رحماً، فكتب معاوية: بسم الله الرحمن الرحيم، من معاوية بن أبي سفيان، إلي عبد الله بن الزبير بن حواري الرسول، وابن ذات النطاقين، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فلو كانت الدنيا بيني وبينك، ثم سألتها لسلمتها لك، فإذا أتاك كتابي هذا، فضم مزرعتي إلي مزرعتك، وعمالي إلي عمالك فهي لك، والسلام!!

وصلت الرسالة إلي ابن الزبير ، فقرأها وبلها بدموعه، وذهب غلي معاوية في دمشق، وقبل رأسه، وقال له : لا أعدمك الله عقلاً أنزلك هذا المنزل من قريش.

***



ثالثاً: الاجتماع تحت راية الإسلام



إننا نختلف عن سائر الأمم.. فلم نجتمع علي حب الوطن! فالوطنية ليست هي التي جمعتنا، فإن أوطاننا هي كل بلاد المسلمين، وأينما ذكر اسم الله في بلد كان هذا البلد وطناً لكل المسلمين.

ولم نجتمع كذلك علي دم، فإن الدم دعوة أرضية لم ينزلها الله في كتابه، ولم نجتمع علي لغة، فإن اللغات شتي.

ولكن اجتمعنا علي عقيدة، وعلي مبدأ أتي به محمد صلي الله عليه وسلم وهو (( لا إله إلا الله محمد رسول الله)).

هذا المبدأ ، جعلنا نتآخى ونجتمع بعد فرقة وشتات.

إن كيد مطرف الإخاء فإننا

نغدوا ونسري في إخاء تالــد

أو يختلف ماء الغمام فماؤنا

عذب تحدر من غمام واحد

أو يختلف نسب يؤلف بيننا

دين أقمناه مقام الوالـــد

فكلما حدثت جفوة، أو حصل هجر، عدنا غلي الدين، وتذكرنا أننا نصلي الصلوات الخمس، وأننا نتجه إلي قبلة واحدة، ونتبع رسولاً واحداً ونعبد رباً واحداً، ومعنا كتاب واحد، وسنة واحدة، فلله الحمد.

إن ما يجري بين الأحبة من خلاف ـ أحياناً ـ لا يفسد للود قضية، ولا يغير ما في النفوس، فإن الله يقول: ) وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ )(الأنعام: الآية112). فإنه ـ بمشيئة الله ـ يحدث مثل هذا، وفي ذلك من المصالح العظيمة ما الله به عليم.



يقول المتنبي:



لعــــل عتبك محمود عـواقبه

وربما صحت الأجساد بالعلل

ولعلنا نكره شيئاً فيه خير كثير، ونحب شيئاً فيه شر كثير.ولله الحكمة البالغة.

لا تـــدبر لــك أمــراً

فأولو التدبيــــر هلكي

وارض بــالله حكيمــــاً

نحن أولى بك منكــــا

فلا تكره من أمر الله شيئاً ، (( ورب ضارة نافعة)). فأحياناً تحدث أمور يكون فيها من المصالح العظيمة التي لا يدركها البشر بعقولهم، ولا بتخطيطهم، ولا بتصرفهم!

ومن هذه الأمور ما يكون قوة للإنسان ورفعة، ومنزلة وحماية، وكفارة النبي صلي الله عليه وسلم ودرجة، وكان يحسب هو أنها نقمة، وأنها ضربة له، وأنها كارثة ، فله الحكمة البالغة، ولابد للعبد أن يقول كلما اصبح وأمسي : (( رضيت بالله رباً،وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلي الله عليه وسلم نبياً)).

وفي سنن أبى داود بسند صحيح: (( من قال رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً، وجبت له الجنة)).

فإنه ليس بيننا وبين أحد من الناس شجار لأسباب دنيوية، ولا لذواتنا، ولا لأنفسنا، فإن العبد عليه أن يسعى لمصلحة هذا الدين، ولمصلحة الأمة والبلاد والعباد، وأن يسعى لجمع الصف، ونبذ الفرقة، ودرء الفتن عن الأمة حتى تكون الأمة تحت مظلة: (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (لأنفال:63) .

اللهم أعصمنا من الزلل، وأنقذنا من الخطل، وأخرجنا من الحادث الجلل.

اللهم ثبت منا الأقدام ، وسدد منا السهام، وارفع منا الأعلام ، وانصرنا بالإسلام.

اللهم انزع من قلوبنا الغل علي الأخوان،والضغينة علي الجيران،والحسد للأقران.

اللهم اغسل قلوبنا بماء اليقين،واسق أرواحنا من كوثر الدين، وأثلج صدورنا بسكينة المؤمنين. سبحان ربك العزة عما يصفون، وسلام علي المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

وصلي الله وسلم وبارك علي نبينا محمد، وعلي آله وصحبه أجمعين