فـن تأليف الأرواح



أولاً: مثل عليا تربي عليها الصحابة


أما فن تأليف القلوب فنستمده بسند صحيح من سيرة النبي محمد صلي الله عليه وسلم ، من ميراثه، من دعوته ، نتذاكره ونتعلمه، ونتربى عليه، كما تربي عليه السابقون الأولون من سلفنا ـ رضوان الله تعالي عليهم . وسوف نذكر بعضاً من العناصر التي يقوم عليها بناء هذا الفن الجليل .



كظم الغيظ:



ذكر الله ـ عز وجل ـ في محكم كتابه أصول هذا الفن، وذكرها رسولنا عليه الصلاة والسلام بكلامه وبعلمه وبأخلاقه الشريفة العالية صلي الله عليه وسلم ، فقال المولى جلت قدرته: ) وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)(آل عمران: الآية134).

قال أهل العلم: ثلاث منازل للمبتدئين والمقصدين والسابقين بالخيرات:

المنزلة الأولي: من أسيء إليه فليكظم ، وهذه درجة المقصرين من أمثالنا من المسلمين أن يكظم غيظه، ولا يتشفى لنفسه في المجالس ولا يتعرض للأعراض.

المنزلة الثانية: فإن زاد وأحسن ( وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ) يذهب إلي من أساء إليه ويقول له: عفا الله عنك.

المنزلة الثالثة: فإن زاد وأحسن ( وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) يذهب بهدية أو بزيارة إلي من أساء إليه، ويصافحه ويقبله.

قال أهل السيرة: قام خادم علي هارون الرشيد بماء حار يسكب عليه، فسقط الإبريق بالماء الحار علي رأس الخليفة أمير المؤمنين.. حاكم الدنيا!! فغضب الخليفة، والتفت إلي الخادم.

فقال الخادم ـ وكان ذكياً ـ والكاظمين الغيظ!

قال الخليفة: كظمت غيظي..

قال: والعافين عن الناس!

قالت : عفوت عنك..

قال : والله يحب المحسنين.

قال : اذهب فقد أعتقتك لوجه الله!!



2- نزع الغل والبغضاء:



في معركة الجمل خرجت عائشة وطلحة والزبير وغيرهم ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ وخرج الصحابة معهم بالسيوف وخرج علي ـ رضي الله عنه ـ ومعه بعض الصحابة من أهل بدر ومعهم السيوف يلتقون! قيل لعامر الشعبي: الله أكبر! يلتقي الصحابة بالسيوف ولا يفر بعضهم من بعض قال: أهل الجنة التقوا فاستحيا بعضهم من بعض! فلما قتل طلحة في المعركة وكان في الصف المضاد لعلي ـ نزل علي من علي فرسه وترك السف، وترجل نحو طلحة، ونظر إليه وهو مقتولـ وطلحة أحد العشرة المبشرين بالجنةـ فنفض التراب عن لحية طلحة وقال: يعز علي يا أبا محمد أن أراك علي هذه الحال، ولكن أسال الله أن يجعلني وإياك ممن قال فيهم سبحانه وتعالي: )وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ) (الحجر:47).

فانظر إلي الصفاء ، والنقاء، وانظر إلي العمق، وانظر غلي الروعة! وهم يقتتلون، والدماء تسيل وعلي يحتضن طلحة ويسلم عليه ، ويذكره أنه سوف يجلس معه في جنات ونهر، في مقعد صدق عند مليك مقتدر، حقاً إنه مشهد رائع، وأنموذج باهر.

هذا الأنموذج الحي يدلنا دلالة واضحة علي أن هؤلاء البشر لم يخرجوا عن بشرتهم، ولم يكونوا يوماً من الأيام ملائكة، ولكنهم كانوا في أروع صورة بشرية عرفتها الدنيا.

مر علي ابن السماك صاحب له عتب عليه، فقال لبن السماك: غداَ نتحاسب ـ يعني غداً ألتقي معك أحاسبك وتحاسبني، وألومك وتلومني، ونعرف من هو المخطئ منا ـ فقال ابن السماك: لا والله، غداً نتغافر!

فالمؤمنون لا يتحاسبون ، ولا يقول أحدهم للآخر : أنت كتبت في كذا.. وقلت كذا، وسمعت أنك تغتابني.. و.. .. إلخ، لا .. هذا أسلوب خاطئ ، والصحيح أن يقول له: (( غفر الله لك)).



3-بذل الأعراض والأموال في سبيل الله:



لقد وصل الجيل المبارك إلي حد أن يقوم أحدهم وهو أبو ضمضم يصلي في الليل ثم يتوجه إلي الله ـ تعالي ـ بالدعاء قائلاً: اللهم إنه ليس لي مال أتصدق به في سبيلك، ولا جسم أجاهد به في ذاتك ، ولكني أتصدق بعرضي علي المسلمين.. اللهم من شتمني، أو سبني، أو ظلمني، أو اغتابني، فاجعلها له كفارة!!

ويروي أن النبي صلي الله عليه وسلم حث علي الصدقة ذات يوم ، فقام علبة ابن زيد فقال : يا رسول الله! حثثت علي الصدقة، وما عندي إلا عرضي، فقد تصدقت به علي من ظلمني، قال: فأعرض عنه رسول صلي الله عليه وسلم . ولما كان في اليوم الثاني قال: ((أين علية ابن زيد ، أو أين المتصدق بعرضه، فإن الله ـ تبارك وتعالي ـ قد قبل ذلك منه)).

فهذا هو المتصدق بالأعراض ، ولابد أن يبذل الدعاة وطلبة العلم أعراضهم كما بذلها محمد صلي الله عليه وسلم ، فإن بذل عرضه وماله ودمه لهذه الدعوة الخالدة، فعسي الله أن يجعل دماءنا وأنفسنا وأعراضنا وأموالنا وأبناءنا وأهلنا فداء ل ((لا إله إلا الله محمد رسول الله)).



4- تحمل زلات الغير:



ذكر الغزالي ـ صاحب الإحياء ـ أن الحسن البصري ـ رحمه الله ـ جاءه رجل فقال: يا أبا سعيد ، أغتابك فلان!، قال: تعال، فلما أتي إليه أعطاه طبقاً من رطب، وقال له اذهب إليه وقل له : أعطيتنا حسناتك، وأعطيناك رطباًً ! فذهب بالرطب إليه!

فالمقصود من هذا أن الدنيا أمرها سهل وهين، وأن بعض الناس يتصدق بحسناته ، فلا عليك مهما نالك حاسد، أو ناقم ، أو مخالف، أو منحرف! فاعتبر ذلك في ميزان حسناتك، واعلم أن ذلك رفعة لك.

ويروي في مسيرة موسى عليه السلام أنه قال : يا رب، أريد منك أمراً! قال: ما هو يا موسى ؟ ـ والله أعلم به ـ قال: اسالك أن تكف ألسنة الناس عني! قال الله ـ عز وجل ـ : يا موسى ، وعزتي وجلالي، ما اتخذت ذلك لنفسي، إني اخلقهم، وأرزقهم وإنهم يسبونني ويشتمونني!!سبحان الله ! الله! الرحمن، الأحد، الفرد، الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، يسب من الناس!! هذا المخلوق الضعيف، الذليل الحقير، الحشرة، يخرج نطفة، ثم يسب الله ويشتمه ـ جلا وعلا؟!.

وفي البخاري عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم (( قال الله ـ تعالي ـ شتمني ابن آدم ، وما ينبغي له أن يشتمني، ويكذبني وما ينبغي له ! أما شتمه فقوله: إن لي ولداً، وأما تكذيبه فقوله: ليس يعيدني كما بدأني)).

وعند احمد في كتاب الزهد أن الله ـ عز وجل ـ يقول: (( عجباً لك يا ابن آدم، خلقتك وتعبد غيري! ورزقتك وتشكر سواي! أتحبب إليك بالنعم، وأنا غني عنك، وتتبغض إلي بالمعاصي، وأنت فقير إلي! خيري إليك نازل، وشرك إلي صاعد))

فما دام أن الواحد الأحد ـ سبحانه وتعالي ، يسبه ويشتمه بعض الأشرار من خلقه ـ فكيف بنا نحن ، ونحن أهل التقصير؟!

إذا علم هذا فإنه خير دليل علي المثل العليا التي حملها أصحابه عليه الصلاة والسلام ـ ورضي الله عنهم ـ فتراضوا واختلفوا كما يختلف البشر، وأتت بينهم نفرة في أيام من حياتهم! ولكنهم عادوا في صفاء، وفي عناق ، وفي صبور، وفي محبة؛ لأن المبدأ الذي يحملونه مبدأ واحد، وليس مبادئ متعددة، فمبدؤهم: (( لا إله إلا الله محمد رسول الله)). وما حصل بينهم دليل علي أنهم لم يخرجوا عن بشرتهم، ولم يصبحوا ملائكة، ولم يخرجوا من عموم قوله صلي الله عليه وسلم : (( كل بني آدم خطاء)).

ولم يصبحوا كذلك صفحات بيضاء لا أثر فيها ولا نقيضة، كلا ما كانوا كذلك!

كانوا بشراً تعتمل في نفوسهم دوافع الشر، ويتحركون في الأرض بدوافع البشر، ولكنها دوافع البشر في اصفي حالاتها وأعلاها، دوافع البشر حين يتخففون إلي أقصي حد من ثلة الأرض ، فيصعدون أقصي ما يتاح للبشر من الصعود.

كانوا يعلمون.. فإذا هبطت بهم ثقلة عن المستوى السامق لم يستكينوا للهبوط، وإنما عادوا يعلمون للصعود من جديد.. فيصعدون ويصعدون.

وفي سيرة أبي بكر ـ رضي الله عنه ت أن رجلاً قال لأبي بكر: والله يا أبا بكر لأسبنك سباً يدخل معك في قبرك ، قال أبو بكر: بل يدخل معك قبرك أنت لا معي!!

صدق ـ رضي الله عنه وأرضاه ـ فإن المسبوب لا يدخل معه السب، ولكن يدخل السب مع الساب الذي سلط لسانه علي عباد الله. أفيظن هذا الجاهل أنه إذا سب أو شتم أو نال من أبي بكر أن شتمه هذا سوف يدخل مع أبي يكر القبر؟ فهذا جهل، وأي جهل !!

ثم انظر وتأمل جواب أبي بكر عليه (( بل يدخل معك قبرك ولا يدخل معي)) فقط كان هذا جوابه؟! ولم يقل له: بل سأسبك سباً يدخلك قبرك! وسأفعل بك كذا!! وسأريك كذا!! الخ، لا بل (( يدخل معك قبرك))!

وقول أبي بكر وتصرفه هو الصحيح ، فإن الكلمة العوراء والكلمة الآثمة، والكلمة الجارحة، تكون وبالاً وحسرة وندامة علي من تجرأ وجرح ونال بها من أخيه.



5- إنهاء الخصام والسعي إلي الصلح:



قال رجل لعمرو بن العاص: والله لا تفرغن لك!

قال عمرو: إذن تقع في الشغل!

وهذا هو الحق ، فإن الذي يتفرغ لينال من الناس، ويشتم الناس، ويكيد للناس، هذا لا يكون فارغاً أبداً! وإنما يشغله الله بالناس!وهذا يضيع عمره في الترهات والتفاهات وما لا ينفع!

وقول عمرو بن العاص ـ رضي الله عنه وأرضاه ـ هو الصواب، وهو الحكمة ) وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً )(البقرة: الآية269) ويروي أهل الحديث أن عامر الشعبي ت وهو من علماء التابعين المشهورينـ قام أمامه رجل وقال له ك كذبت يا عامر!

فقال عامر: إن كنت صادقاً فغفر الله لي ، وإن كنت كاذباً فغفر الله لك!!

فماذا قال الرجل بعدها يا تري؟!

سكت !! لأن من استطاع أن ينهي الخصام، وأن يجعل للصلح موضعاً، وألا يستعدي الناس خاصة أهل الفضل وأهل المنزلة وأهل الصدارة والمكانة، كان محسناً علي نفسهن وعلي الإسلام ، وعلي المسلمين.



6- محاسبة النفس:



في مسيرة سالم بن عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ أن رجلاً زاحمه في مني، فالتفت الرجل إلي سالم ـ وسالم علامة التابعين ـ فقال له : إني لظنك رجل سوء. فقال سالم: ما عرفني إلا أنت! لأن سالماً ت رضي الله عنه ـ يشعر في نفسه انه رجل سوء، وهذا صواب لأن المؤمن يرمي نفسه بالتقصير كلما رآها تعالت أو تطاولت أو نسيت، كما أنه يلوم نفسه ويحاسبها. لكن الفاجر والمنافق يزكي أما الناس!

وكان سعيد بن المسيب يقوم وسط الليل ويقول لنفسه: قومي يا مأوي كل شر!

سعيد بن المسيب يقول لنفسه هذا الكلام!! ونحن ماذا نقول لأنفسنا؟ اللهم استرنا بسترك.

وفي قصة ثابتة بأسانيد صحيحة، قام رجل في الحرم أمام ابن عباس ـ حبر الأمة وترجمان القرآن ت فسبه أمام الناس، وابن عباس ينكس رأسه!! أعرابي جلف يسب علامة الدنيا ولا يرد عليه.. وواصل الأعرابي الشتم، فرفع ابن عباس رأسه وقال: أتسبني وفي ثلاث خصال؟!

قال: ما هي يا ابن عباس؟

قال: والله ما نزل المطر بأرض إلا سررت بذلك، وحمدت الله علي ذلك، وليس لي بها ناقة ولا شاة!!

قال: والثانية؟

قال: ولا سمعت بقاض عادل إلا دعوت الله له بظهر الغيب وليس لي عنده قضية!!

قال: والثالثة؟

قال: ولا فهمت آية من كتاب الله إلا تمنيت أن المسلمين يفهمون كما أفهم منها!!

هذه هي المثل العليا التي حملها أصحابه عليه الصلاة والسلام، وهو الذي رباهم أصلاً علي أسس العقيدة وأخلاق الإيمان، وإلا فهم أمة أمية خرجت من الصحراء، لكنه صلي الله عليه وسلم بناهم شيئاً فشيئاً ، ورصع مجدهم، واعتني بهم، حتى أصبحوا قادة الأمم النبي صلي الله عليه وسلم وقدوة حسنة للناس!

وقالوا في المثل: (( من لك بأخيك كله)) تريد أخاً مهذباً كله، لا ، هذا لا يكون.. خذ بعضه، خذ نصفه ، خذ ثلثه، خذ ثلثيه.

فهل وجدت في المجتمع المسلم شخصاً ـ مهما بلغ من الرقي وحسن الخلق ـ أن يكون كاملاً، لا حيف فيه ولا نقص؟! كلا، هذا لا يكون ) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ )(النور: الآية21).

تجد هذا كريماً لكنه غضوب! وتجد هذا حليماً لكنه بخيل! وتجد هذا طيباً لكنه عجول! لأن الله وزع المناقب والمثالب علي الناس.

من ذا الذي ترضـــي سجاياه كلها

كفي المرء نبلاً أن تعد معايبه

فإذا عدت معايب الإنسان فاعلم أنه صالحن ولكن بعض الناس لا تستطيع أن تعد معايبه أبداً مهما حاولت!!

وبعضهم لخيره وصلاحه، تقول: ليس فيه إلا كذا، وهذا هو الخير ، ومن غلبت محاسنه مساوئه فهو العدل في الإسلام. ومن غلبت مساوئه محاسنه ، فهو المنحرف عن منهج الله ـ عز وجل ـ لن الله يزن الناس يوم القيامة بميزان آية الأحقاق النبي صلي الله عليه وسلم يقول تعالي: )أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ) (الاحقاف:16)

فبين الله في الآية أن لهم مساوئ ، وأنه يتجاوز عنهم ـ سبحانه وتعالي ـ وأن لهم خطايا النبي صلي الله عليه وسلم وأن لهم ذنوباً، ولكنهم كما يقول الحديث: (( إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث)).فبعض الناس ماؤه قليل.. أي شيء يؤثر فيه، قطرة تؤثر فيه! ولكن بعضهم لمحاسنه ومناقبه بلغ قلتين، فمهما وضعت فيه لا يتغير أبداً لكرمه، وبذله، وعطائه، وعلمهن وسخائه، وفضله، ودعوتهن وخيره، وصلاحه، وصدق نيته غلي غير ذلك من الصفات. وهذا تأتيه أحياناً نزغات من نزغات الشيطان، لكنها لا تؤثر فيه.

ولذلك يقول ابن تيمه ونقلها ابن القيم عنه في مدارج السالكين: أما موسى عليه السلام فإنه أتى بالألواح فيها كلام الله ـ عز وجل ـ فألقاها في الأرض، وأخذ برأس أخيه يجره إليه. يقول ابن تيمية: أخوة كان نبياً مثله، ومع ذلك جره بلحيته أمام الناس، ولكن عفا الله عنه!



قال ابن القيم:



وإذا الحبيب أتي بذنب واحد

جاءت محاسنه بألف شفيع

وفي حديث رواه البهقي بسند حسن، قال: (( أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم)).

قال ابن القيم: إلا الحدود ، وهذه عبارة تثبت في بعض الروايات من لفظه صلي الله عليه وسلم فإن الناس متساوون في الحدود، لكن في المسائل التي ليس فيها حدود، فعلينا أن نقيل صاحب العثرة ـ من أهل الهيئات ـ عثرته، وأهل الهيئات هم الذين لهم قدم صدق في الإسلام، وفي الدعوة، وفي الخير، وفي الكرم، وفي الصدارة، وفي التوجيه، وفي التأثير، وهم وجهاء الناس، وأهل الخير، وأهل الفضل، فهؤلاء إذا بدرت منهم بادرة فعلينا أن نتحملها جميعاً، وعلينا أن ننظر إلي سجل حسناتهم، وإلي دواوين كرمهم، ومنازلهم عند الله وعند خلقه.

يقول بشار بن برد:

إذا كنت في كل الأمور معاتباً

صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه

ويقول في بيت آخر:

إذا أنت لم تشرب مراراً علي القذى

ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه

فصاحب أخاك، وتحمل منه الزلة، واغفر له العثرة، وتجاوز عن خطئه.

وكان ابن المبارك إذا ذكر له أصحابه قال: من مثل فلان، فيه كذا وكذا من المحاسن، ويسكت عن المساوئ.

وليتنا نتذكر حسنات الناس ، فما أعلم أحداً من المسلمين مهما قصر إلا وله حسناته، ولو لم يكن من حسناته إلا انه يحب الله ورسوله المصطفي صلي الله عليه وسلم لكفي.

يؤتي برجل يشرب الخمر إلي الرسول صلي الله عليه وسلم فأمر به فجلد، وكان قد أتي به كثيراً. فقال رجل من القوم: اللهم العنه ما أكثر ما يؤتي به. فقال المعلم العظيم صلي الله عليه وسلم : (( لا تلعنوه فوالله ما علمت أن يحب الله ورسوله)).

وفي لفظ : قال رجل: ما له أخزاه الله. فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم ك (( لا تكونوا عوناً للشيطان علي أخيكم)).

فاثبت له صلي الله عليه وسلم أصل الحب، وهي حسنة، واثبت له بقاءه في دائرة الأخوة الإسلامية، وهذه من أعظم الحسنات، فلماذا لا نتذكر للناس محاسنهم وبلاءهم في الإسلام؟!

إنك لا تجد شريراً خالصاً إلا رجلاً كفر بالله، أو تعدي علي حدوده، أو أعلن الفجور، أو خلع ثوب الحياء، أو عادي الأولياء والأخيار الصالحين، ونبذ الإسلام وراءه ظهرياً.