[align=center]نعم ..

ها هم هؤلاء الساخرونَ الشانئونَ ينطحون صخرةَ النبيّ صلى الله عليه وسلم بكل ما أوتوا من قرونٍ إعلاميّةٍ .. ولكن النهاية التي نعرفُها سلفاً .. هي نهايةُ الأعشى : ( فلم يضرها وأوهى قرنه الوعلُ ) .

لم يكونوا أول الشانئينَ .. ولسنا أوّل الذابين ..

لهم سلفٌ في كفارِ قريشٍ ومن جاء بعدهم ..

ولنا سلفٌ في حسانَ رضي الله عنه وأرضاهُ يوم انتفضَ في وجهِ هجاءِ أبي سفيانَ فقال أبياتَه الروائع :

ألا أبلغْ أبا سفيــان عني

فأنت مجوّف نخبٌ هواءُ

هجوت محمداً فأجبتُ عنه

وعند الله في ذاك الجزاءُ

أتهجوهُ ولست لـه بكفءٍ

فشرّكما لخيركما الفداءُ

فمن يهجو رسول الله منكم

ويمدحه وينصره سـواءُ

فإن أبي ووالـده وعرضي

لعرض محمد منكم فداءُ

قلت : إنّ تلك القرون الإعلامية النطّاحةَ لا تضرّ إلا نفسها يقيناً .. وحربها تلك ليست مع بشرٍ .. بل مع ربّ البشر سبحانه وتعالى .

ذلك أنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم محميٌّ بحمايةِ اللهِ ، معصومٌ بعصمتِهِ ، مكفولٌ برعايتِهِ ، مردود عنه أذى من آذاه ، وسخريةُ من سخر به ، واستهزاء من استهزأ به ، وها أنا ذا أضعُ بين أيديكم هذه الوثائق الربانية :

( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ (94) إنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئِينَ ) [ الحجر : 94 ، 95 ] .

( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وإن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ واللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي القَوْمَ الكَافِرِينَ ) [ المائدة : 67 ]

( فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ ) [ البقرة : 137 ]

( أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ويُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ ومَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ) [ الزمر : 36 ]

( إنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ ) [ الكوثر : 3 ]

( إنَّ الَذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ وأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً ) [ الأحزاب : 57 ]

( والَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) [ التوبة : 61 ]

هذه هي الوثائق الربانية التي تشهدُ بأنّ الله حافظٌ رسوله ، ناصرٌ له ، منتقمٌ له ممن ظلمه ، آخذ له بحقه ممن سخر منه ، كافٍ إياه ممن استهزأ به .

قال ابن تيمية رحمه الله : ومن سنة الله أن من لم يتمكن المؤمنون أن يعذبوه من الذين يؤذون الله ورسوله فإن الله سبحانه ينتقم منه لرسوله ويكفيه إياه ... وكل من شنأه وأبغضه وعاداه فإن الله يقطع دابره ، ويمحق عينه وأثره [ الصارم المسلول : 144 ] . وقال رحمه الله : وقد ذكرنا ما جرّبه المسلمون من تعجيل الانتقام من الكفار إذا تعرّضوا لسب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبلغنا مثل ذلك في وقائع متعددة ، وهذا باب واسعٌ لا يُحاطُ بِهِ . [ نفسه ] .

وقال السعديُّ : ما تظاهر أحد بالاستهزاء برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبما جاء به إلا أهلكه الله وقتله شر قتلة .

فتعالوا أيها الأحبةُ نستشهد التاريخَ كيف كفى الله رسوله المستهزئين به صلى الله عليه وسلم ، وكيف آذى من آذاهُ .

تعالوا نعش في ظلالِ الآيةِ الكريمةِ ( إنّا كفيناك المستهزئين ) ..

وأول ما أذكرُهُ في هذا الاستقراء التاريخيّ ما ذكره أهل التفسيرِ في سبب نزولِ هذه الآية .. أعني قوله تعالى : ( إنّا كفيناك المستهزئين ) ..

فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : المستهزئون هم الوليد بن المغيرة ، والأسودُ بن عبد يغوث ، والأسود بن المطلب ، والحارث بن غَيْطَل السّهميّ ، والعاص بن وائل ، فأتاه جبريل عليه السلام فشكاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأراه الوليد ابن المغيرة ، فأومأ جبريل إلى أكَحلِهِ – وهو عرقٌ في اليدِ - ، فقال صلى الله عليه وسلم : ما صنعت شيئاً ! ، فقال جبريلُ : كَفَيْتُكَهُ ، ثم أراه الحارث بن غيطل السهميّ ، فأومأ إلى بطنه ، فقال : ما صنعت شيئاً ! قال : كفيتكه ، ثم أراه العاص بن وائل السهمي ، فأومأ إلى أخمَصِهِ- أي : باطن رجله – فقال : ما صنعت شيئاً ! فقال : كفيتُكه .

فأما الوليد بن المغيرة فمرَّ برجلٍ من خزاعة وهو يريش نبلاً له فأصاب أكحَله فقطعها !

وأما الأسود بن المطلب فعمي ، وذلك أنه نزل تحت شجرة فقال : يابنيّ ألا تدفعون ؟ إني قد قتلت ! فجعلوا يقولون : ما نرى شيئاً ، فجعل يقول : يا بنيّ ألا تدفعون عني ؟ هلكت بالشوك في عيني ! فجعلوا يقولون : ما نرى شيئاً فلم يزل كذلك حتى عميت عيناه .

وأما الأسود بن عبد يغوث فخرج في رأسه قروح فمات منها .

وأما الحارث بن غيطل فأخذه الماء الأصفر في بطنه حتى خرج روثُهُ من فيه فمات منه .

وأما العاص بن وائل فبينما هو يمشي إذ دخلت في رجله شِبْرِقة – نبتةٌ ذات شوك - حتى امتلأت منها فمات .

[ دلائل النبوة للأصبهاني 1/63 ، وانظر : الدر المنثور 5/101] .

فهؤلاء خمسةُ نفرٍ من أعيانِ قومهم استهزؤوا برسول الله صلى الله عليه وسلم فكفاه الله إيّاهم بقدرتِهِ وعزّتِهِ سبحانَهُ .

وقد أخرج البزار والطبراني في الأوسط عن أنسٍ قال : مرَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم على أناس بمكة فجعلوا يغمزون في قفاه ويقولون : هذا الذي يزعم أنه نبيّ ؟! ومعه جبريل ، فغمز جبريل بأصبعه ، فوقع مثلُ الظفر في أجسادهم ، فصارت قروحاً نتنةً فلم يستطع أحد أن يدنوا منهم [ الدر المنثور 5/100 ] . وفي الصحيحين خبرٌ آخرُ عجيبٌ عن رجلٍ من بني النجار كان نصرانياً فأسلمَ ، وكان يكتبُ الوحي للنبي صلى الله عليه وسلم ، ثم إنّه نكص على عقبيه فتنصّرَ ، ولحق بأهل الكتابِ ، فكان يهزأ بالنبيّ صلى الله عليه وسلم ، ويدّعي أنه أدخل في الوحي ما ليس منه ، ويقولُ : والله ما يدري محمدُ إلا ما كتبتُ له !! فَمَا لَبِثَ أَنْ قَصَمَ اللهُ عُنُقَهُ فِيهِمْ ، فدفنوه ، فأصبح وقد لفظتْه الأرضُ !! فَقَالُوا : هَذَا فِعْلُ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ ، نَبَشُوا عَنْ صَاحِبِنَا فَأَلْقَوْهُ ، فَحَفَرُوا لَهُ فَأَعْمَقُوا ، فَأَصْبَحَ وَقَدْ لَفَظَتْهُ الْأَرْضُ فَقَالُوا : هَذَا فِعْلُ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ نَبَشُوا عَنْ صَاحِبِنَا لَمَّا هَرَبَ مِنْهُمْ فَأَلْقَوْهُ ، فَحَفَرُوا لَهُ الثالثةَ وَأَعْمَقُوا لَهُ فِي الْأَرْضِ مَا اسْتَطَاعُوا فَأَصْبَحَ وَقَدْ لَفَظَتْهُ الْأَرْضُ فَعَلِمُوا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ النَّاسِ ، فَتَرَكُوهُ مَنْبُوذاً . [ البخاري (3617) ، ومسلمٌ (2781) ] .

فسبحان الذي كفى نبيّه من استهزأ به وسخر به !

ومن هذا البابِ قصةُ كسرى وقيصر المشهورةِ ، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان قد كتب إليهما ، فامتنع كلاهما من الإسلام ، لكن قيصر أكرم كتاب النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وأكرم رسوله ، فثبّت الله ملكه ، وكسرى مزّق كتابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واستهزأ برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقتله الله بعد قليل ، ومزّق ملكه كل ممزّق ، ولم يبق للأكاسرة ملكٌ . [ الصارم المسلول : 144 ]

وكان من أثر ذلك ما ذكره السهيليُ أنّه بلغه أنّ هرقل وضع الكتاب في قصبة من ذهب تعظيماً له ، وأنهم لم يزالوا يتوارثونه حتى كان عند ملك الفرنج الذي تغلب على طليطلة ، ثم كان عند سِبطه ، فحدثني بعضُ أصحابنا أن عبد الملك بن سعد أحد قواد المسلمين اجتمع بذلك الملك فأخرج له الكتاب ، فلما رآه استعبر ، وسأل أن يمكِّنه من تقبيله فامتنع . ثم ذكر ابن حجر عن سيف الدين فليح المنصوري أن ملك الفرنج أطلعه على صندوق مُصفَّح بذهب ، فأخرج منه مقلمة ذهب ، فأخرج منها كتاباً قد زالت أكثر حروفه ، وقد التصقت عليه خِرقَة حرير ، فقال : هذا كتاب نبيكم إلى جدي قيصر ، ما زلنا نتوارثه إلى الآن ، وأوصانا آباؤُنا أنه ما دام هذا الكتاب عندنا لا يزال الملك فينا ، فنحن نحفظه غاية الحفظ ، ونعظمه ونكتمه عن النصارى ليدوم الملك فينا .

وإليكم هذا الخبر العجيبَ !

كان أبو لهب وابنه عتبة قد تجهزا إلى الشام ، فقال ابنه عتبة : والله لأنطلقنّ إلى محمد ولأوذينّه في ربه سبحانه وتعالى ، فانطلق حتى أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد هو يكفر بالذي دنى فتدلى ، فكان قاب قوسين أو أدنى ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : ( اللهم سلط عليه كلباً من كلابك ) . ثم انصرف عنه ، فرجع إلى أبيه فقال : يا بني ما قلت له ؟ فذكر له ما قاله ، فقال : فما قال لك ؟ قال : قال : ( اللهم سلط عليه كلباً من كلابك ) . قال : يا بني والله ما آمن عليك دعاءه !

فساروا حتى نزلوا بالشراةِ وهي أرضٌ كثيرةُ الأسدِ ، فقال : أبو لهب إنكم قد عرفتم كبر سني وحقي ، وإنّ هذا الرجل قد دعا على ابني دعوة والله ما آمنها عليه ، فاجمعوا متاعكم إلى هذه الصومعة وافرشوا لابني عليها ثم افرشوا حولها ، ففعلنا ، فجاء الأسد فشمَّ وجوهنا فلما لم يجد ما يريد تقبض فوثب وثبة ، فإذا هو فوق المتاع فشمَّ وجهه ثم هزمه هزمة ففسخ رأسه !! فقال أبو لهب : قد عرفت أنه لا يتفلت عن دعوة محمد !! [ تفسير ابن كثير ] .

وذكر الكتانيّ في ذيل مولد العلماء [1/139] أنّه ظهر في زمن الحاكم رجلٌ سمّى نفسه هادي المستجيبين ، وكانوا يدعو إلى عبادة الحاكمِ ، وحُكيَ عنه أنّه سبّ النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وبصق على المصحفِ ، فلما ورد مكةَ شكاهُ أهلها إلى أميرها ، فدافع عنه ، واعتذر بتوبتِهِ ، فقالوا : مثل هذا لا توبة له ! فأبى ، فاجتمع الناس عند الكعبةِ وضجّوا إلى الله ، فأرسل الله ريحاً سوداء حتى أظلمت الدنيا ، ثم تجلت الظلمةُ وصار على الكعبة فوق أستارها كهيئة الترس الأبيض له نور كنور الشمسِ ، فلم يزل كذلك ترى ليلاً ونهاراً ، فلما رأى أميرُ مكةَ ذلك أمر بهادي المستجيبينَ فضربَ عنقَهُ وصلبَهُ .

وذكر القاضي عياض في الشفا [2/218] قصةً عجيبةً لساخرٍ بالنبي صلى اللهُ عليه وسلم ! وذلك أن فقهاءَ القيروانِ وأصحابَ سُحنُون أفتوا بقتلِ إبراهيم الفزاري ، وكان شاعراً متفنناً في كثير من العلومِ ، وكان يستهزىء باللهِ وأنبيائهِ ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، فأمر القاضي يحيى بن عمرَ بقتله وصلبه ، فطُعن بالسكينِ وصُلب مُنكساً ، وحكى بعضُ المؤرخين أنه لما رُفعت خشبته ، وزالت عنها الأيدي استدارت وحوَّلته عن القبلةِ فكان آيةً للجميعِ ، وكبر الناسُ ، وجاءَ كلبٌ فولغ في دمهِ !!

وحكى الشيخ العلامةُ أحمد شاكر أنّ خطيباً فصيحاً مفوهاً أرادَ أن يثنيَ على أحد كبار المسؤولين لأنه احتفى بطه حسين فلم يجد إلا التعريضَ برسول الله صلى الله عليه وسلم .. فقال في خطبتِهِ : جاءه الأعمى فما عبس وما تولى !! قال الشيخ أحمدُ : ولكن الله لم يدعْ لهذا المجرم جرمه في الدنيا ، قبل أن يجزيه جزاءه في الأخرى ، فأقسمُ بالله لقد رأيته بعيني رأسي - بعد بضع سنين ، وبعد أن كان عالياً منتفخاً ، مستعزّاً بمَن لاذ بهم من العظماء والكبراء - رأيته مهيناً ذليلاً ، خادماً على باب مسجد من مساجد القاهرة ، يتلقى نعال المصلين يحفظها في ذلة وصغار !!

وذكروا أن رجلاً ذهب لنيل الشهادة العليا من جامعة غربيةٍ ، وكانت رسالتُهُ متعلقةً بالنبيّ صلى الله عليه وسلم ، وكان مشرفُهُ شانئاً حانقاً ، فأبى أن يمنحه الدرجةَ حتى يضمّن رسالتَه انتقاصاً للمصطفى صلى الله عليه وسلم ، فضعفت نفسه ، وآثر الأولى على الآخرة . فلما حاز شهادته ورجع إلى دياره فوجئ بهلاك جميع أولاده وأهله في حادث مفاجئ .

نعم ..

ها هم هؤلاء الساخرونَ الشانئونَ ينطحون صخرةَ النبيّ صلى الله عليه وسلم بكل ما أوتوا من قرونٍ إعلاميّةٍ .. ولكن النهاية التي نعرفُها سلفاً .. هي نهايةُ الأعشى : ( فلم يضرها وأوهى قرنه الوعلُ ) .

لم يكونوا أول الشانئينَ .. ولسنا أوّل الذابين ..

لهم سلفٌ في كفارِ قريشٍ ومن جاء بعدهم ..

[/align]