بصائر في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر


توطئــة :

اقتضت حكمة الله تبارك وتعالى أن يتصارع أولياء الرحمن وأولياء الشيطان وأن تكون الغلبة أحياناً لأولياء الشيطان، ولكن أولياء الرحمن لا يغفلون لحظة واحدة عن مهمتهم في التغيير وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، قال تعالى (( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر )) وهذه الآية تشعر بأهمية المرأة المؤمنة في التغيير كما أن الآية التي سبقتها في نفس السورة تحدثت عن دور المرأة الفاسدة في الإفساد ، قال تعالى (( المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف )) .

أولاً : التعريف

- المعروف : ما حسنه الشرع من خير وطاعة ، مفروضاً كان أم مندوباً .

- المنكر : ما قبحه الشرع من شر ومعصية ، حراماً كان أم مكروهاً .

ومن المعلوم أن الحسن والقبح من حيث ترتب المثوبة والعقوبة والعتاب ، هما شرعيان ، ولا يخرج هذا عن مقتضى إحساس الفطرة التي لم تدنسها الشوائب ، وإدراك العقل المبرأ من ضغط الهوى والشهوة ، وتبعاً لهذا الإحساس والإدراك سمي المعروف معروفاً لمعرفتهما له ، وسمي المنكر منكراً لإنكارهما له .


ثانيا: حكمــه

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة شرعية عينية ، وكل من رأى منكراً مطلوب منه أن يعمل على تغييره باليد ثم باللسان ثم بالقلب ، ففي الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان )

وصيغة ( مَنْ ) في الحديث تفيد العموم فهي تشمل كل مكلف سواء كان ذكراً أو أنثى .. وصيغة (فليغيره) فعل مضارع مقترن بلام الأمر ، وهي من صيغ الأمر ، وهي تفيد الوجوب مطلقاً ما لم ترد قرينة تصرفها إلى غير ذلك ، بل النصوص الأخرى تؤكد هذا الوجوب ، كقوله تعالى (( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر )) .

ثالثا: العقوبات المترتبة على ترك هذه الفريضة

إن مما لا شك فيه أن الفريضة أو الواجب ما طلب الشارع فعله طلباً جازماً ، والفرض والواجب يثاب فاعله ويعاقب تاركه ويذم ، فتارك الواجب مذموم ومعاقب .

والعقوبة على ترك هذه الفريضة في الآخرة وكذلك في الدنيا ، فما من قوم أو مجتمع تخلى عن هذه الفريضة إلا أصابته عقوبات دنيوية وأخروية ، نذكر منها :

1. العذاب العام: إذا تقاعس الناس عن هذه الوظيفة عاقب الله الناس صالحهم وطالحهم ، قال تعالى : ((واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب))، لأنه ما كان لينتشر المنكر والفساد إلا نتيجة سكوت الصالحين على المنكر وعدم إنكاره ، روى مسلم في صحيحه بإسناده عن زينب بنت جحش قالت : ( قلت يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال نعم إذا كثر الخبث ) .. تأمل فإن كثرة الخبث نتيجة طبيعية لتقاعس الناس الصالحين عن إنكار المنكر ومقاومته.

2. عدم إجابة دعاء الصالحين: روى الترمذي في سننه عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم ) .

3. تسليط أشرار الأمة على خيارها: ففي الحديث لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لكم ، وواقع المسلمين المؤلم في بلاد المسلمين يدل على ذلك .

4. يجعل الله بأس المسلمين بينهم: روى ابن ماجة في سننه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما (قال : أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا معشر المهاجرين ، خمس إذا ابتليتم بهنّ وأعوذ بالله أن تدركوهن ، وذكر منها : وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ، ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم ).. ومما ينبغي التنبيه إلى أن عدم الحكم بما أنزل الله ليس منكراً فحسب ، بل هو المنكر الأكبر إذا ساد في الناس ورضوا به من الحكام كانت الحالقة ، وكان التناحر والاقتتال والفوضى والاضطراب .

5. استحقاق اللعنة: وعندما يتقاعس الناس عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويجبنون عن قول كلمة الحق يستحقون اللعنة كما استحقها بنو اسرائيل حين تخاذلوا وجبنوا عن قول كلمة الحق . روى أبو داود في سننه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن أول ما دخل النقض على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقل : يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك ، يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده ، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ، ثم قال : (( لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم …… )) إلى قوله تعالى ((فاسقون)) ثم قال كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهونَّ عن المنكر ولتأخذن على يدي الظالم ولتأطرنه على الحق أطراً ولتقصرنه على الحق قصراً أو ليضربن الله قلوب بعضكم على بعض ثم ليلعننكم كما لعنهم ) .

6. عذاب الاستئصال المعنوي: إن عذاب الاستئصال العام الذي كان الله يعاقب به المكذبين والمنحرفين رفع عن أمة محمد ولكن عذاب الاستئصال المعنوي لم يرفع ، بهذا جاءت الأحاديث ، ومعنى عذاب الاستئصال المعنوي أن يكون المسلمون كثيرين في عددهم يعدون بمئات الملايين بل يزيدون ولكن لا وزن لهم عند الله ولا عند الناس .

ولقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بانعدام الوزن هذا وانعدام الأثر في حياة الناس بقوله صلى الله عليه وسلم (إذا رأيت أمتي تهاب أن تقول للظالم يا ظالم فقد تودع منها) [ رواه أحمد وغيره ] ولفظ أحمد إذا رأيت أمتي تهاب الظالم أن تقول له إنك ظالم فقد تودع منهم .

وحال المسلمين اليوم يدل على انعدام الوزن هذا فهم يزيدون على مليار ونصف مسلم وغير قادرين على تحرير مسرى رسولهم صلى الله عليه وسلم ، إنهم ولا شك أموات في ثياب أحياء ينطبق عليهم قول حذيفة بن اليمان رضي الله عنه ( ميت الأحياء الذي لا ينكر المنكر بيده ولا بلسانه ولا بقلبه ) .

رابعا : شروط صحته شرعاً :

الإخلاص: لأن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً لوجهه الكريم .

العلم: لأن العلم شرط العمل .

الاتفاق على حكمه: أن يكون المنكر المنهي عنه متفقاً على حكمه بين العلماء ، لأن ما جاز فيه الخلاف فلكل منهم وجهة هو موليها .

أن يكون ترك المعروف أو فعل المنكر ظاهراً بحيث لا يصل إلى معرفته عن طريق التجسس .

ألا يترتب على الأمر بالمعروف تفويت معروف أعظم ، أو على النهي عن المنكر تحصيل منكر أشد.

أن يكون مقدوراً بلا إكراه حقيقي يعرض نفسه أو ماله أو عرضه أو أهله للتلف المعتبر ، حيث أن هذا الإكراه يشكل عذراً يجعل صاحبه مخيراً بين الرخصة والعزيمة ، وإن كان الأخذ بالعزيمة أفضل .

مراعاة التدرج : ولا يبدأ بالوسيلة الأشد إلا إذا ثبت عدم جدوى الأخف .

خامسا : آدابــه

وهي شروط كمال لتحقيق الغاية وأهمها :

1- الورع : ليردع صاحبه عن مخالفة فعله قوله .

2- الرفق واللين : لأن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا يُنزع من شيء إلا شانه .

3- التواضع : لأن الناس لا تستجيب للمتكبر مهما كان عالماً .

4- الصبر والحلم : وذلك نظراً لنفرة الطبع من تقييد السلوك بضابط الشريعة ، ولذلك غلبت المعاداة للدعاة .

5- العدالة : ليمثل حسن القدوة ، امتثالاً لقوله تعالى (( أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون )) .

6- تقليل علائق الدنيا وقطع الطمع بالخلائق حتى لا يكثر خوف الآمر والناهي على ما قد يفوته من الدنيا ، وتزول عنه مداهنة الخلق .

سادسا: مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مراتب يجب مراعاتها وهي من الأخف إلى الأشد كما يلي :

1. التعريف : فقد يقصر الإنسان في طاعة ولا يعلم أنه مأمور بها ويفعل معصية ولا يعلم أنه منهي عنها .

2. الوعظ بالكلام اللين (( فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى )) .

3. الوعظ بالكلام الشديد من غير فحش كقوله : يا عدو نفسه ألا تخشى الله عز وجل ونحوه .

4. المنع بالقهر بطريقة المباشرة وذلك بإراقة الخمر ، واختطاف الثوب المغصوب منه ورده إلى صاحبه .

5. التخويف والتهديد بالضرب ، وهذه المرتبة مشروعة بشرط أن لا يخاف فتنته أو وقوع منكرٍ أشد .

سابعا : أنواع التغييـر

لما كان التكليف على قدر الاستطاعة ، وكان الناس يختلفون بهذه الاستطاعة ، لذلك كان التغيير ثلاثة أنواع:

1. التغيير باليد وهو أخص بصاحب السلطة لأن الله تعالى جعل في يده سلطات التأديب ووسائل الزجر بما شرع من عقوبات وبما فوّض إليه من تعزيرات ، ويلحق به رب الأسرة والمربون وسائر الرؤساء .

2. التغيير باللسان : وهو أخص بالعلماء ووسائل الإعلام المتنوعة وكذلك دائرة المطبوعات والنشر ، وعلى هؤلاء مراعاة مراتب القيام بالواجب السابق ذكرها .

3. التغيير بالقلب ، وهو لمن عجز عن التغيير الفعلي باليد أو التغيير باللسان ، فموقفه قطع الصلات مع تارك المعروف وفاعل المنكر ، مما يجعل المخالف يشعر بالغربة فتضيق عليه نفسه وتضيق عليه الأرض بما رحبت .

ويلاحظ أن القادر على الأعلى مكلف بالأدنى ، فمن كان قادراً على التغيير باليد فهو مكلف أيضاً بالنوعين الآخرين ، وأن القادر على التغيير باللسان مكلف بالتغيير القلبي .

ثامنا : جهـات التنفيـذ للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

يلاحظ من خلال التأمل في النصوص والوقائع أن جهات التنفيذ ثلاث هي :

1. الأفراد بصفتهم الفردية فيما هو داخل في استطاعتهم وفي هذا قوله تعالى على لسان لقمان وهو يعظ ابنه ((يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك)) .

2. الجماعة سواء كانت صغيرة كالأسرة أو كبيرة وفي هذا قوله تعالى ((ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون )) ولذلك فقيام جماعات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة ولا تبرأ الذمة إلا بإيجادها .

3. الدولة : وذلك ما دل عليه قوله تعالى (( الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور )) .. ومعلوم أن الأدنى يدخل في الأعلى بمعنى أن مهمة الفرد متضمنة في الجماعة ومهمة الفرد والجماعة متضمنة في الدولة .

تاسعا: أقوال مأثــورة

1. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ( أولو الأمر الذين تجب طاعتهم هم : أصحاب الأمر وذووه ، وهم الذين يأمرون الناس وينهونهم وذلك يشترك فيه أهل اليد والقدرة ، وأهل العلم والكلام ، ويدخل فيهم الملوك والمشايخ وأهل الديوان وكل من كان متبوعاً ) .

2. سئل حذيفة بن اليمان رضي الله عنه عن ميت الأحياء فقال : ( الذي لا ينكر المنكر بيده ولا بلسانه ولا بقلبه).

العاشر : مواقف مشهـودة

اخترنا موقفين لعالمين مع الحجاج لاشتهاره بالظلم وقتل المخالف :

1. بين الحسن البصري والحجاج : بعث الحجاج إلى الحسن ، فلما دخل عليه قال : أنت الذي تقول : قاتلهم الله قتلوا عباد الله على الدينار والدرهم ؟ قال : نعم ، قال : ما حملك على هذا ؟ قال : ما أخذ الله على العلماء من المواثيق (( ليبيننه للناس ولا يكتمونه )) ، قال : يا حسن أمسك عليك لسانك ، وإياك أن يبلغني عنك ما أكره فأفرق بين رأسك وجسدك .

2. بين حُطيط والحجاج : جيء بحطيط الزيات إلى الحجاج فلما دخل عليه قال : أنت حطيط ؟ قال : نعم سل عما بدا لك فإني عاهدت الله عند المقام على ثلاث خصال : لئن سألت لأصدقن ، وإن ابتليتُ لأصبرن ، وإن عوفيت لأشكرن ، قال : فما تقول فيّ ؟ قال أقول : إنك من أعداء الله في الأرض تنتهك المحارم وتقتل بالظِّـنَّة ، قال : فما تقول في أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان ، قال أقول : إنه أعظم جرماً منك وإنما أنت خطيئة من خطاياه ، قال الحجاج : صبوا عليه العذاب … حتى مات