لم يستغرق الأمر سوى لحظات بعد بدء جلسة الاستماع التي دعت إليها اللجنة القانونية في مجلس الشيوخ الأمريكي حتى تبين طبيعة القوى التي تتجاذب هذه القضية الهامة, أي قضية العلاقات السعودية الأمريكية. فمع أن الجلسة عقدت تحت عنوان "المملكة العربية السعودية: صديق أم عدو في الحرب ضد الإرهاب". فإن المداخلات سرعان ما تحولت إلى مسارات متشعبة, أنصار إسرائيل ينتقدون المملكة بسبب موقفها الرافض للصهيونية, المسيحيون المتطرفون ينتقدونها لأنها تدعم مراكز الدعوة الإسلامية في الولايات المتحدة, الديمقراطيون ينتقدون الإدارة الجمهورية ورئيسها جورج بوش "لأنه يدافع عن السعودية" حسب قول السيناتور باتريك ليهي, والجمهوريون ينتقدون الإدارة أيضاً لأنها "لم تنجح في تغيير سياسات السعودية" حسب قول السيناتور جون كيل.
وفي كل الأحوال فإن الجلسة التي طالت إلى حد كان من الصعب تحمله - حتى على بعض الأعضاء - شهدت واحدة من أكثر محاولات التشهير بالسعودية جرأة وتنسيقاً, ولكنها شهدت أيضاً إحباطاً منظماً لهذه الهجمة متعددة الجبهات على نحو أوضح حجم الجهد الذي بذل لإبطال مفعول السهام التي حاول خصوم المملكة توجيهها إليها وإلى مواقفها, وأيضاً حجم الجهد الذي بذله هؤلاء الخصوم في إعداد أسهمهم, إذ إن تقرير لجنة حرية الأديان استغرق إعداده عامين, وتطلب ترجمة 30 ألف صفحة من العربية إلى الإنجليزية.
وفي بداية الجلسة, وبعد أن هاجم السيناتور الديمقراطي باتريك ليهي الرئيس بوش في أداء لغرض سياسي إلزامي, عاد السيناتور الذي عرف عنه الرصانة والاتزان في أغلب الأحوال إلى المنطق. فقد قال ليهي "يمكن أن أوضح هنا أن الأفكار المتطرفة التي سترد في الترجمات التي سنفحصها ونناقشها لا تعكس تعاليم الإسلام أو ما يؤمن به أغلب المسلمين. وينبغي أن نلاحظ أن التطرف والمغالاة ليسا حكراً على الإسلام. فلدينا هنا مسيحيون إنجليكيون متطرفون أدلوا بتصريحات مدانة ضد الإسلام". وأعطى السيناتور أمثلة بما قاله القس فرانكلين جراهام من هجوم مباشر ضد الإسلام كدين, والشتائم التي وجهها القس جيري فالويل للإسلام وللرسول عليه الصلاة والسلام والقس بات روبرتسون الذي قال إن المسلمين - بما في ذلك المسلمون الأمريكيون - أصبحوا الآن أعداء الولايات المتحدة.
وكان هذا الاتزان الذي بدا من عبارات السيناتور ليهي محاولة "لضبط إيقاع" النقاش بعد ذلك. فقد أراد أن يقول إن التطرف ليس سعودياً أو إسلامياً وإنه ظاهرة عامة تحدث في كل الأديان والعقائد ولكنه لا يمثل جوهر الأديان السماوية.
بعد ذلك بدأ نائب مساعد وزير الخزانة داينيل جلاسر شهادة مطولة "مزجت السم بالعسل" كما يقولون فقد أثنى على جهود المملكة في مكافحة قنوات تمويل الإرهاب إلا أنه فسر هذه الجهود بأنها "نتيجة فقط للهجمات الإرهابية التي تعرضت لها الرياض في مايو 2003" وقال جلاسر إنه من سوء الطالع أن المملكة لم تتحرك ضد الإرهاب إلا بعد "صدمة" مايو 2003 وبعد أن رأت أن الإرهاب ليس مشكلة خارجية وإنما "تهديد لأمن مواطنيها ولنسيج حياتهم اليومية" حسب قوله.
وأخذ جلاسر يتحدث عن استراتيجيات مكافحة الإرهاب والتنسيق الدولي، ويشيد تارة بجهود المملكة ثم يقول تارة أخرى: إنها "لم تكن كافية". والتقط السيناتور جون كيل الخيط في محاولة لدفع جلاسر إلى ترجيح كفة انتقاد المملكة والإشارة إلى جهودها إلى أن طلب السيناتور ألان سبكتر عرض شريط مصور سجلته مؤسسة قريبة من الدوائر الإسرائيلية بواشنطن وتدعى "معهد أبحاث الإعلام في الشرق الأوسط" وورد فيه وقائع ندوات وتصريحات أدلى بها علماء دين سعوديون وبثها التلفزيون السعودي.
وأشار السيناتور ليهي إلى رقم مصرفي سعودي يسمى "الحساب 98" وتذهب ودائعه إلى ما وصفه السيناتور بـ"المنظمات الإرهابية الفلسطينية". ورد جلاسر بأن السلطات السعودية أفادت بأن الحساب أغلق. فسأل ليهي: "وهل تأكدتم من ذلك". فقال مسؤول وزارة الخزانة "لقد رصدنا إعلانات تلفزيونية سعودية أشارت مؤخرا إلى التبرع للفلسطينيين وذكرت رقم الحساب 98. وقد أقلقنا ذلك كثيرا. فقد جاء ذلك بعد أن قالوا لنا إنهم أغلقوه".
وبعد مداخلة أخرى من السيناتور كيل اقتصرت تقريبا على مهاجمة السعودية عرض الشريط الذي تضمن مقتطفات سريعة قد تكون أخرجت عن سياقها عمدا من تصريحات لعلماء سعوديين، ليواصل جلاسر بعد ذلك تنقله بين أسئلة استهدفت إرغامه إرغاما على إدانة السعودية، وتمكن هو بقدر من المراوغة أن يفلت من أغلبها باستخدام سياسة إمساك العصا من منتصفها. إلا أن وقائع الجلسة اكتسبت بعد ذلك سخونة غير متوقعة.
فقد لعبت شهادة البرفيسور أنتوني كوردسمان أحد أبرز خبراء مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية دوراً محورياً في إحباط الهدف من جلسة الاستماع التي عقدتها اللجنة القانونية بمجلس الشيوخ بعنوان "المملكة العربية السعودية: صديق أم عدو في الحرب ضد الإرهاب"؟. فعلى الرغم من أن دعوة كوردسمان الذي عرف برصانته كانت تهدف إلى الظهور بمظهر "التوازن"، خاصة وأن هناك شاهدين عرف أحدهما بتعصبه الشديد ضد العرب، وهو "خبير الإرهاب" ستيف إيمرسون والثانية هي نينا شيا مديرة مركز الحرية الدينية التي جمعت آلاف الأوراق لإثبات أن السعوديين معادون للسامية ويدعون إلى التطرف. فقد بدأ من البداية أن كوردسمان يريد القول إنه يفهم أن "المسرح" أعد لحساب إسرائيل حين بدأ شهادته بقوله "إن هناك منظمات تقضي كل وقتها في البحث عن أسوأ ما يقال داخل السعودية ومصر والدول العربية والإسلامية كما أن هناك منظمات تبحث بنفس الحماس عن أسوأ ما يقال في دول مثل إسرائيل".
وبدأ أن ذكر إسرائيل هنا لم يكن مصادفة، إذ رغب كوردسمان في القول إن بالإمكان أيضاً التقاط ما يقال في إسرائيل عن المسلمين والعرب ووضعه في مقابل ما أسفر عنه بحث مزعوم عن أسوا ما يقال في السعودية. وما لبث كوردسمان أن وضع الأمر بصراحة أكبر أمام أعضاء مجلس الشيوخ في اللجنة، إذ قال إن "ما يضايقني في تناولكم للأمر هو المدخل الذي تتبنونه لأنني لا أعتقد أن تركيزكم على السعودية وعلى المذهب الوهابي هو رؤية للمشكلة الحقيقية".
ووضع كوردسمان دائرة الضوء عند ما يراه سببا للمشكلة فقال إنه "الغضب الشديد ضدنا في العالمين الإسلامي والعربي وأسباب هذا الغضب، إذ إنها ارتباطنا بإسرائيل واحتلالنا للعراق". وأضاف الخبير الأمريكي أن ظاهرة التطرف بالتالي لا تقتصر على السعودية، كما أنها ليست نابعة من الوهابية "إذ إنها توجد في الأردن والمغرب وتركيا ومصر".
وقال كوردسمان الذي لا يمكن أن يتهم بانحيازه للسعودية بسبب رصانته وموضوعيته وتاريخه الأكاديمي إنه يرى تقدما في السعودية في مجال مكافحة أفكار التطرف والإرهاب.
وقال كوردسمان إن التغيير في السعودية لا يحدث على نحو لحظي وفوري ولكنه يحدث بصورة تدريجية، وأضاف أنه لا يمكن إنكار تعاون المملكة في مجال مكافحة الإرهاب وذلك "على الرغم من أنهم يؤيدون الحرب في العراق" حسب قوله.
وحول الآراء التي أدلى بها دانييل جلاسر قال كوردسمان "إن بعض الآراء التي سمعتها (من السيد جلاسر) كانت بصراحة سخيفة. إنني أفضل أن أرى شخصا يتحدث بدون تعميمات وأن يقول لي بدقة ما هو تسلسل عمليات تمويل المنظمات الإرهابية.
إنني لا أعتقد أن المملكة العربية السعودية هي السبب، كما أنني أعتقد أن أغلب تلك المنظمات لديها مصادر تمويل عديدة أخرى.. وبالنظر إلى أن هناك نحو مليار دولار موجودة الآن في حسابات خاصة بمؤسسات مالية في أوروبا فإن فرصتكم في التحكم بذلك تعادل في ضآلتها فرصكم في تحقيق انتصار في الحرب ضد الإرهاب".
بعد ذلك وجه كوردسمان انتقادات "غير دبلوماسية" إلى تقرير مركز الدفاع عن الحرية الدينية بقوله "إن ذكر مقاطع من برنامج بثته محطة فضائية لا توجد في السعودية لا يعطيكم فكرة صحيحة عما يقال في التلفزيون السعودي". وكان كوردسمان يشير بذلك إلى فقرات وردت في التقرير وأشارت إلى تصريحات بعض المتطرفين السعوديين في برنامج بثته قناة فضائية عربية. ثم وجه كوردسمان ضربة غير دبلوماسية ثانية بقوله "إن التقاط عبارات هامشية من أسوأ ما يقال في السعودية أو في أي بلد آخر لن يخدم الحقيقة".