[align=center]


دار التوحيد : المدرسة الأم


للتو معالي الوزير ذكرتم مدرسة دار التوحيد بالطائف. أبناء منطقة نجد المتفوقون كانوا يحرصون جداً على التعلم بها، وقد كتب الشيخ حمد الجاسر في سوانحه الشهيرة بالزميلة المتألقة (المجلة العربية ) حديثاً ماتعاً عن ذلك العهد، ما السبب في ذلك الحرص برأيك ؟
- سبب ذلك أنه لم يكن لدينا إلا تعليم ابتدائي. ودار التوحيد فيها المرحلتان المتوسطة والثانوية، وقد تخرج فيها الشيخ عبد العزيز بن مسند، وعبد اللّه بن خميس، والشيخ محمد بن جبير أول رئيس لمجلس الشورى.. وغيرهم كثير، كان لدينا تعليم في نجد لكنه كان تعليماً ابتدائياً .


أعود إليك معالي الوزير وأسألك إن كانت دراستك الأولى في الكتاتيب أم في مدرسة نظامية؟ وفي أي عام ؟
- أنا دخلت المدرسة الحكومية، وأنهيت تعليمي في سن مبكـرة جــداً. لو كنت في هذا العصر لما قبلت في التعليم، أما سبب ذلك فهو أن بعض أقاربي ممن يكبرونني سناً دخلوا الابتدائي، فأراد والدي أن ألتحق بهم، وفي تلك الأيام لم يكن هناك تدقيق في العمر. وأنهيت الابتدائية عام 1374هـ في المدرسة الابتدائية الأولى، التي أنشئت في المجمعة، وكانت تسمى المدرسة السعودية، ثم التحقت بالمعهد العلمي.

* فيما يتعلق بالمرحلة الابتدائية، بودي معالي الوزير أن تذكر لنا أسماء بعض أقرانك الذين كانوا معك في صفوف الدراسة.. فلربما قرأوا معنا هذه (المكاشفات)، واستعادوا معك ماضياً وذكريات عذبة؟

- هم كثيرون ممن كانوا فــي سني، لكن ما يحزنني يا عبد العزيز - وهذه سنة الحياة - أن عدداً ممن درسوا معي الابتدائية انتقلوا إلى رحمة اللّه. كلهم بالنسبة إليّ - كما يقـــال -كالحَلقْة لا يدرى أولها من آخرها.. فكلهم أحبابي، على أي حال، من الأصدقاء الذين لا زلت على صلة قوية بهم من زملاء المرحلة الابتدائية الإخوة الأعزاء عثمان بن إبرهيم الأحمد، وعثمان بن سليمان الأحمد، وبدر بن حمد الحقيل، وعثمان بن عبد العزيز الربيعة.. (وانتبه فثلاثة منهم أسماؤهم عثمان!!).


أما وقد ذكرت بعض لِداتك في تلك السن، فمن هم الأساتذة الذين انجذب إليهم الطفل محمد الرشيد في تلك المرحلة، أو ذلك الأستاذ الذي ارتسم أمامك نموذجاً لمعلم ناجح، واستطاع فعلاً أن يأسرك ويجعلك تحب المدرسة؟
- عبد العزيز أنت من جيل يختلف عن جيلي. المدرسة في جيلي كانت هي المصدر الوحيد للمعرفة، ولا توجد مصادر أخرى. لا يوجد إنترنت، ولا تلفزيون، ولا حتى راديو. ومن أراد المعرفة فالمدرسة هي المصدر الوحيد أمامه، لذلك كنا تلقائياً ننجذب إليها، وهذا الانجذاب ليس بالضرورة سببه كفاية المعلمين الذين هم في بعض الأحيان معلمو ضرورة أتت بهم ظروفهم، ولكن كنا نذهب وننجذب للمدرسة لسببين: أولاً لأنها المصدر الوحيد للمعرفة كما ذكرت، وثانياً لأن المدرسة في تلك الأزمنة كانت تُستأجر لها أفضل المباني، وإذا بنيت مدرسة حكومية على الطراز الحديث فهي - مقارنة ببيوتنا الطينية - الأفضل على الإطلاق. أما الآن فإن منازل كثير من الطلاب أفضل بمراحل من مدارسهم. هذا هو جيلنا الذي يختلف عن جيلكم. أنا أتذكر في جيلنا كيف كانت مدرستي الابتدائية في المجمعة هي الأبهى والأجمل والأنظف على مستوى المدينة ولا مثيل لها، هل تتصور أنني كنت أشعر بأنني ذاهب لنزهة حينما أذهب للمدرسة ؟ هل تتصور بأنني لم أكن أعرف الجلوس على الكرسي والماصة إلا حينما جئت إلى المدرسة!! إذ لم تكن لدينا في بيوتنا كراسٍ طبعاً. يبقى أن أذكر لك بأننا في الصفوف الأولى كنا نجلس على الحصر وأحياناً الرمل، وطلب منا المعلمون أن نشتري صناديق الشاي الخشبية الفارغة كي نقعد عليها، ولا أنسى أنني اشتريت صندوقـاً بريال واحد من السوق، وكل واحد يأتي بمقعده للمدرسة، ومع ذلك تبقى المدرسة أفضل بكثير من منازلنا.

* وأنت تستفيض بهذا الحديث العفوي الشائق، بودي سؤالك معالي الوزير عن مدير هذه المدرسة التي درست؟

- المدرسة السعودية الابتدائية مرّ عليها أكثر من مدير من أكثرهم بقاء شخص من فلسطين - رحمه اللّه - اسمه حسين حسونة، وأظن أن الشيخ الفاضل عثمان بن حمد الحقيل كان أحد المديرين.
عقوبة الضرب : إشكالية التربويين


هنا أودّ أن أعرّج معك على الأجواء التربوية السائدة آنذاك، وضروب وآليات العقوبات التي كان يستخدمها معلمو ذاك الزمن. نسمع عن جيلكم أنه كان قاسياً ويستخدم الضرب بسرف وصلف.. هل هذا صحيح؟
- كان آباؤنا يعتقدون أن الضرب وسيلــة جيدة للتعليم والتخلّق بالأخلاق الحسنة، فكانوا يطبقون ذلك علينا. ومعلمونا وقتذاك كانت ثقافة معظمهم ضحلة، بل بعضهم لا يعرف إلا القراءة والكتابة فقط. وأذكر أنهم كانوا يضربون لأتفه الأمور.. لا أنسى معلماً كان إذا أراد أن يتأكد من أننا نتابع أثناء قراءة أحدنا.. كان يأتي الطالب منا على غفلة ويقول أين هو الآن؟ ويطلب منك أن تضع أصبعك على المكان، فإن أخطأت فيبادر إلى أذنيك ويفركهما فركاً موجعاً ، وكان من العيب ونحن أطفال- في ذاك الزمن- أن نصيح أو نقول آه؛ لأننا حينئذٍ نصبح (مسخرة) بين أقراننا طيلة يومنا.


معالي الوزير أما وقد فتحنا موضوع الضرب، فهذا محور لا أود أن يفلت مني، وبودي الوقوف معك عنده. تاريخ التربية يشهد بوقفتك الحازمة ضد استخدام المعلمين للضرب.. ابتداءً هذا الموقف هل انبجس من موقف ما تعرضت له في طفولتك مثلاً، واعذرني على هذا السؤال؟
- أنا لا أريــد يا عبــد العزيــز أن أزكـّـــي نفسي بالقــــول إنني لــــم أضرب أبـــداً ، وليس موقفي هذا ردة فعل لأمر وقع عليّ ،لكنه موقف علمي انحزت إليـــه. وصلت إلى اقتناع أكيد أن الضرب يؤدي - في كثير من الحالات - إلى نتائج سلبية فادحة، بل أعرف أناساً كثيرين حينما أنظر إلى تعاستهم وإخفاقهم في الحياة، وأبحث عن أسبابها.. أجد أن أحدها هو سوء تعامل معلميهم أو آبائهم بالقسوة والضرب، وهناك مثل يقول: بإمكانك جلب الحصان إلى النهـر، لكنك لا تستطيع إجباره على الشرب. أنا اكتشفت من دراساتي التربوية، وتبين لي يقيناً بأن أول شرط لأن تتأثر بمعلمك وأن تستفيد منه، هو أن تحب معلمك وتحترمه، جوابي على سؤالك لم يكن موقفي من الضرب ردة فعل بقدر ما هو يقين مني صادق .

يحتج عليّ البعض بقول الرسول صلى اللّه عليه وسلم: (مروا أبناءكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر)، وما عرفوا أن ثلاث سنوات من الصبر على الأمر بالحسنى، وفي السنة 365 يوماً، وفي كل يوم 5 صلوات، يعني أكثر من خمسة آلاف مرة تأمره بالصلاة وتصبر عليه ثم بعدها تضربه إذا لم يستجب!! ثم ما هــو الضرب المقصــود ؟ هو أن تمسك سواكاً أو نحوه تضربه به ضرباً خفيفاً، والضرب هذا من الوالد وليس من أحد غيره، لا كما رأينا من حالات الضرب المبرح الذي يقوم به بعض المعلمين. وبالمناسبة اكتشفنا حالات كثيرة - ولا زلنا نكتشف- بأنه لا يلجأ للضرب إلا المعلم غير الناجح، أما المعلم الناجح فيؤثر في الطلاب بقوة شخصيته. وأنت تسألني اليوم من الذي أثر عليّ ؟ تربوياً ونفسياً لا يمكن أن يؤثر عليك تأثيراً إيجابياً معلم ضربك، المعلم الناجح لا يحتاج أن يضرب الطالب الذي لديه شـــوق وتـــوق إلى سماعه، وأنا في الحقيقة لا أُقَدِّر أي معلم يخافه طلابــــه، أريد أن يحترموه، وفرق بين أن تخافه وأن تحترمــه، وان كُنْتَ تريد مزيداً من القول بهذا الشأن فارجع إلى مقالتي التي نُشرت في مجلة (المعرفة) بعنوان ( لن يضرب خياركم ).


جميل ومثالي ما قلته، ولكنك معالي الوزير أبنت لنا الجانب الإيجابي من المسألة. أنا أنقل إليك هنا رؤية كثير من الرعيل الأول من أولئك التربويين الذين ينحازون إلى أسلوب الضرب بالعصا. هم يقولون إن الدكتور محمد الرشيد يتحمل وزر ما آل إليه حال المعلم مع الطلاب، ويتحمل جرأة الطلاب على معلميهم إلى درجة ضربه، و تهشيم زجاج سيارته، وما شابهها من الحالات التي أعادت للمجتمع صورة معلم (مسرحية مدرسة المشاغبين). وهذه تهمة شائعة وأريد سماع رأيك فيها ؟
- أؤكد لك الحقيقة العلمية عبر التجارب العديـدة والمشاهــدات. كل معلم ناجح في مهمته لا يمكن أن يؤذى أحداً من طلابه، وكل من هو مخفق وضعيف القدرات يلجأ - من حنقه ومن ردة فعلـه - إلى الضرب، هذا أولاً . وثانياً تبين لنا بما لا يدع مجالاً للشك أن الذين يضربون هم بعض معلمي المرحلة الابتدائية، وإلى حدّ ما في المرحلة المتوسطة، أما المرحلة الثانوية فالضرب فيها معدوم، الأمر الثالث إن ظن المعلم أو أي شخص أن أسلوب الضرب سوف يجعل من الطالب إنساناً سوياً، ويجعله محباً له ومقبلاً على مادته، فهو مخطىء لأبعد درجة، بل الذي يحدث هو مزيد من التمرد، ومزيد من التذمر، ومزيــــد من الانقطاع. أدعو هؤلاء المعترضين على منع الضرب في المدرسة إلى دراسة هؤلاء الذين تسربوا وانقطعوا عن التعليم حالة حالة، ليجدوا أن أحد الأسباب الرئيسة هو سوء معاملة المعلم لهذا الطالب. إذا لم نجعل أبناءنا في يوم من الأيام، وهذه نظريتي التي سعيت إلى تطبيقها، يعشقون الذهاب إلى المدرسة فلن نفلح، والحقيقة أنك لا يمكن أن تتعلم - حتى في كبرك - من شخص لا تحترمه.



طفولة بددتها المسؤولية المبكرة

* في حواركم مع المجلة العربية عام 2002م أوحيت لنا بأنك لم تعش طفولتك، وأنك نشأت رجلاً من صغرك. أود أن تحدثنا عن ذلك ، لأنه غ كما يبدو لي غ انعكس ما قلته على شبابك وكهولتك؟

- سامحك الله يا عبد العزيز ، ستجعلني أفشــي بعض أسـرار العائلة. والدي حينما تزوج والدتي كان فوق الخمسين، بينما كان عمر والدتي خمسة عشر عاماً، وكنت أول أولاده الذكور، لأنه في زيجاته الأولى رزق ببنات فقط، ووالدي كان مشهوراً بالبيع والشراء لدى البادية، وعندما بدأت أشبّ كان والدي قد تقدم في السن، فأراد أن يعوّدني على البيع والشراء، فكنت مسروراً إذ سمح لي بقضاء أول نهاري في المدرسة وبعد العصر أتولى البيع، وكان يراقبني من خارج الدكان، وكان لدى أبي جلسة للشاي والقهوة مع أصحابــه بعد صلاة الظهر مباشرة وبعد المغرب مباشرة، وكنت أقوم على خدمتهم، وكنا ننام بعد صلاة العشاء مباشرة، ولا يمكن لأحد أن يخرج من الدار، وبالفعل كان أبي يعتمد عليّ؛ ولذلك قلت بأنني تحمَّلت المسؤولية من مرحلة مبكرة، ولم أكن كباقي الأطفال الذين تمتعوا بطفولتهم.

دعني أقص عليك قصة لم أَرْوِها من قبل ولم تنشر. عند تخرجي في المعهد العلمي جاء أحد أصدقائنا لأبي وقال له : أبشرك ابنك محمد نجح في المعهد. فأجابه أبي : لا بشرك اللّه بالخير، أنا أريده أن يظل في المجمعة. وعندما انتهى الصيف كان لابد للمتخرجين الذين يودون أن يتابعوا دراستهم من أن يلتحقوا بالكليات في الرياض، فقال أبي لا يمكن أن تذهب، لقد حصلت من التعليم على ما يكفيــك، ونحن مهتمـون بالبيع والشراء. حاولت معه عبـثاً، حتى أخبرني أحد أصدقائه الأعزاء بعزم والدي على تزويجي ابنة أحد شيوخ القبائل، وذلك في محاولة منه لإغرائي بالبقاء. ذهبت إلى صديق والدي - وهو في منزلة عمي- وقلت له: قل لوالدي حتى الـزواج لا أريده. ولكن كانت محاولاتي بلا طائل. فتوسطت لوالدي بأقرب أصدقائه إليه، وفي أحد الأيام - بينما كنا متجهين للمسجد - إذا بذاك الصديق يهمس في أذني بأن والدي وافـق على دراستي، وأخذ عني أخي عبد اللـه مسؤولية البيع والشراء، فانزاحت عن نفسي غمة كبيرة.


على ذكر عدم تمتعك بمرحلة الطفولة معالي الوزير، بودي سؤالك عما يقوله لنا علماء النفس والتربية حيال الطفل الذي لم يعش طفولته؟
- صعبة، لكن اللّه سبحانه وتعالى يهيىء لك من الأسباب ما يجعلك مطمئناً . لم أتمتع باللعب مع أقراني، لكن أحمد اللّه الذي وفقني لمساعدة والدي وهو في تلك السن.


وماذا عن المسؤولية المبكرة؟ هل أثرت لاحقاً عليك في مراحل عمرك التالية؟
- لا لم تؤثر عليّ. واستعضت عما فاتني بروح النكتة، فأنا أستمتع بالنكتة سماعاً ورواية، وأضحك لها.

. [/align]