السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الإهداء :
أهدي هذا العمل المتواضع إلى : مثال الزاهدين , وقدوة السائرين , إلى ابن الينبعين , إلى الأستاذ والمعلم والأديب والمؤرخ والفيلسوف العابد الزاهد عبد الله سلامة المرواني الجهني - رحمة الله تعالى - , بل وأهدي له جميع رسالتنا - تعطير الصفحتين بشي من تاريخ الينبعين - وأسال الله أن يكتب لنا وله الأجر في ذلك .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله مكور الليل والنهار , الذي تسبح له الأشجار والبحار , وتسجد له الشمس والأقمار , الذي لا تدركه الأبصار , وتعي عن وصفه الأفكار , الذي يجير ولا يجار , الخالق كل شي بمقدار , نحمده على فضله المدرار , ونشهد أنه لا إله إلا هو وحده لا شريك له شهادة عن تصديق وإقرار , ونتبعها عمل بالجوارح بلا تعطيل وإنكار , ونصلي على نبيه المصطفى المختار , خير خلقة بلا خلاف وخيار ,
وعلى آله أهل البيت والدار , الطيبين الأطهار , المنزهين الأحرار , وعلى صحابته من المهاجرين والأنصار , وخاصة على المحرمة وجوههم على النار , ومنهم الخلفاء الأربعة الكبار , أبو بكر الصحاب في الغار , وعمر وعثمان وعلي الكرار , الذين تنزلت بينهم آيات الوحي والأذكار , فأحيتهم بعد طول تبار , فوصفوا بالجود والإيثار , مع ضيق ذات اليد والإقتار , ...
صلى اللهم عليهم صلاة دائمة ما أظلم ليل وأضاء نهار , وتعاقبت السنين والأدهار , وما لاح في السماء شهاب سيار , وما هطلت سحائب المزن بالأمطار , فتفتحت بها الأزهار , وأينعت على أثرها الأثمار , فأكلت منها الأطيار , فغردة فرحا بالاستبشار , فوق غصون الأشجار , بعد شروق الأنوار , وظهور عروس النهار , التي أسدلت الأستار , عن ليل الأسرار , فظهرت الروضة المعطار , وهي مكسوة باخضرار , فنفحت نسمات الأسحار , وفاحت روائح الريحان والنوار , صلاة دائمة لا تمل من الاستزادة والتكرار , ورض اللهم على من جاء بعدهم واتبع أثرهم إلى يوم القرار .
وبعد : فهذه رسالة في المفاخرة , مما سنحت به الخاطرة , قد وضعتها في المفاضلة بين الينبعين , والمناضلة بين القريتين , ينبع النخل وينبع البحر , ...
وذلك لتعددهما في الفضائل , واقتران ذكرهما في المحافل , وتقاربهما في المنازل , واشتراكهما بنفس القبائل , وقد زينتها ونثرتها , بلطائف المحاورة , وطرائف المحاضرة , وروائع المناظرة , فإذا بي في موقف خطير , ومسلك صعب عسير , ومقام لست له بجدير , كأني بينهما خفير , فتارة أفرد ينبع النخل بمزيد من الفخر , وأخرى أرفع ينبع البحر فوق البدر ...
فإذا هو مرتقا صعبا , ليس عنه مهربا , وقد عانيت فيه كربا , ولم أستطع عليه صبرا , ولم أحط به علما , وقد توخيت فيها الإيجاز والاختصار , ومنعتها من الإطناب والإكثار , خشية الملل , أو حدوث الخلل ...
فعسى أن تكون للوحيد جليسا , وللغريب أنيسا , ... فإذا بها كالعروس , أو كهامة الطاووس , تربعت في مقام من الأدب رفيع , وعلى صناعة البديع , ليس بها تكلف ولا صنيع , فهي كالسهل المنيع , أو كنسمات الصبا في الربيع , فلله درها , ما أحسن درها , وأزكى زهرها , وسبك نثرها , وتبسم ثغرها , وكتمان سرها , وتملك سحرها ,
وإني بحمد الله قد نويت فيها الإخلاص , وأرجوا من الله أن تشتهر بين العام والخاص , وإنها لفريدة في بابها , حري أن يسعى إليها طلابها , ... وقد نشرت فيها من فضائل الينبعين , ما تقر لأجله العينين , وتطرب لسماعة الأذنين , فإذا بهما كجوهرتين , تعلوا على مطلع البدرين ...
وقد ملأتها بعرائس الأفكار , وغرائس الأبكار , ومحاسن الأشعار , وفضائل الآثار , وغرائب الأخبار , حتى غدت كأزكى الأزهار , وأثمن من الدينار , تستوقف الأبصار , ولا تمل من التكرار , ...
وفجرت عليها من عيون البلاغة كالأنهار , وأهطلت عليها من البديع أمطار , ومن الأسجاع كنسيم الأسحار , وغرست على رياضها من النثر أزهار , وأحطت أسوارها بجزيل الأشعار , فطفقت الحروف تغرد كالأطيار , فلما رأيتها قد أنتظم عقدها , وأينع زهرها , وحلا طعم شهدها , وحان قطف ثمرها , سميتها : ( قرة العينين في المفاخرة بين الينبعين ) ,
وهي مفاخرة ومناظرة بين القريتين , والمدينتين الجميلتين المتجاورتين , فقمت بينهما شاهدا وأحد الحكمين , وتجردت من الميل مع أحدى الجهتين , فقد أخذت لسانهما بالإستعاره , وبينت فضلهما بالمناظرة والمحاورة , وترجمت قولهما بقلمي وحسن الكتابة , وترك من القول ما يحسن اجتنابه , واخترت منه عذبه وصوابه , فكنت في النقل عنهما أمينا , وللسان حالهما مترجما مبينا , وبالله ربي مستعينا , وبالحق مستعبدا ورهينا , ...
فإذا أشتد بينهما الخصام , وكثرة الملاحاة والملام , وأرادا أن يحل عقد النظام , وأن يحصل بينهما الانفصام , قمت بينهما حكما وإمام , فمرة أبسط لهذا في الكلام , وأخرى ألاطف هذا بالسلام , وأبدي لهما ثغر الابتسام , حتى أصل بهما إلى حسن الختام ,...
وما جعلني أقوم بتأليفها , وأعكف على تصفيفها , أنني قد وقفت على أنقاض تلك الديار , فالمني ما حل بتلك القفار , فحاك شي في الضمير , مما آل إليه ذلك المصير , ...
وبينما أسرح نظري على الأطلال , وأروض فكري وأحل قيوده من الأغلال , أسرتني الخواطر بمنظر تلك الآثار القديمة , وعرضت لي امتطاء صهوة الأفكار بقوة العزيمة , فلما قد راضت لي الأفكار , وأحطت بها كإحاطة المعصم بالسوار , أسرجت للخواطر صهوة الأفكار , علها تأتينا بخبر عن تلك الديار , فأعددت لهما الحبر زادا , فطفقا يجوبان ما أرادا , فمرا على العقل فنزلا فيه , فأنكر فعلهما وما هما فيه , وقال أنتما كفرسي جياد , قد انطلقا في المهاد , يبحثا عن سراب , وظنهما أنه شراب ,...
[poem=font="Simplified Arabic,6,blue,normal,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,blue" type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
قد رأيت منظرا هيظني نظاره=ولم يكن على قلبي احتماله
واذرف دمع عيني على حاله=أين نخيلك الوافرات ضلاله
وأين عذوبة مائك وزلاله=وجريان مياه أنهارك بحصبائه
أم أين خيوفك الوافرات مياهه=ونسمات أرضك المعطرة أزهاره[/poem]
..... الخ
فلم أجد صديقا غير الطرس , فأسررت له بعض ما بالنفس , فقال لي ما لي أراك عبوس ؟ , وتنظر إلي برأس منكوس ؟ , ...
فقد نثرنا دررها , ونظمنا حللها , وليعلم الناظر في تحريرها , والسامع لتقريرها , والطائف حول غديرها , والقاطف أزهار عبيرها , أن ( ابن غنيم ) الكاتب أميرها ...
قال ينبع النخل :
الحمد لله الذي لم يزل من قديم الأزل , الذي شرفني بأحسن الأسماء وهو النخل , وفضلني على كثير من المواطن , بأن جعل نسل آل محمد لي ساكن , وأحمده الذي منحني هذا الشرف , وأحل بمقامي خير السلف والخلف , وأشكره على نعمه التي تترى , وشرف نزولهم بأرضي للسكنى , ...
هذا وقد زاحمتني من الديار أصغرها , التي لها من الفضائل أحقرها , فدعتني للمحاورة والمبارزة , وأجبرتني على المناظرة , فأحكمت حولي الدائرة , ورمتني بالجبن وأن صفقتها لرابحة , وأن إحجامي عنها دليل أن صفقتي لخاسره , فألقت التهم وولت , وأكثرت الكذب وما ملت , ولأعراضنا قد استحلت , فرمتني بدائها وانسلت , فهي كفتنة عمياء قد تجلت , وزعمت فضلها علي فضلت , فزلت عن الصواب واستزلت ...
هذا وقد غضضت عنها كثير من الطرف , فقلت لعلها تتوقف عن القذف , وقد عددتها من عبث الأولاد , فعندما علمت أنها من الحساد , وأن الأمر كله عناد , قمت لها منتصبا كالأساد , ووقفت لها بالمرصاد .
فلما سمع بذلك ينبع البحر قال :
أنا ينبع البحر بلا فخر , والحمد لله الذي شرفني بالبحر , ما هذا الفخر والتعالي , أتطلب فخرك بالأيام الخوالي ! , أم نسيت أن مجدك قد ولى , وأن أثرك قد دلى فتدلى , أم أنك بذكراك الماضية تتسلى ؟ , أترك عنك لومك , أنت ابن يومك ...
أما قولك أني من حسادك , فهذا من وهمك وأحقادك , فعلى ماذا نحسدك ؟ , ولأي شي نبغضك ؟ , على أنقاض أطلالك ! , أم على آثار أنهارك ! , أم على حطام نخلك وأشجارك !, أم على النزوح عنك وهجرانك ! ...
أستيقظ من رقدتك , وأنتبه من غفلتك , قد آن لك أن ترسل للطبيب مما فيك من الداء , فعسى أن تشفى ببعض الدواء , وأما قولك أنني من أصغر الديار وأحقرها , فهذه من أقوى الأدلة وأظهرها , على عظم كبرك , وتغليب جهلك , على صبرك وحلمك ...
فلما سمع ذلك ينبع النخل قال :
ليس لك علي فضل , ولو وصفتني بعظم الجهل , ... قد رأيت جوابك , وقرأت كتابك , وعرفت مرادك , فلله العجب , على الكذب , وقلة الأدب , تزعم أنك صادق , وتريد قلب الحقائق , فلست مذنبا , وتجعل الرأس ذنبا ! , أصبحت أفاخر الذباب , وأمسيت أناظر الأذناب , فأعرف قدرك , وقف عند حدك , رحم الله أمرا عرف قدر نفسه , ووقف عند منتهى حده , أتعرف أن من الأدب , ومن عادات العرب , احترام الأكبر منك سنا , وقد أحاط بما لم تحط به علما ...
بأي شيء تفاخرني , وعلى أي شي تناظرني , وأنا والله أكبر منك سنا , وأقدم منك سكنا , وأفصح منك لسنا , وأجمل منك حسنا , قصر الأكابر , فتقدم الأصاغر , لن تنال مرادك , إلا على تقطع أوصالك , كفانا الله شرك , وحمانا من غدرك ...
فعند ذلك قال ينبع البحر :
يا لخيبة الأكابر , من جهل الأصاغر , يا شبيه الأباعر , قد ركبت المخاطر , مالك أسكرت بغير خمر ؟ , أم هو هذر من طول الدهر ؟ , ... ألا تعلم أن أيامك السابقة قد تولت ؟ , وأن كبريائك قد ذلت , وإن غيوم سمائك قد استقلت , هذا الزمن زماني , ألا ترى عظم مكاني وشاني , وجمال بحري وشطأنى , وكنوز دري ومرجاني , وتوافد السياح إلي من جميع الأوطاني , من كل قاصي وداني , ...
قد أتاني السياح , من كل الأراضي والبطاح , للاستمتاع بمنظر بحري الضحضاح , واللهو بشواطئ السهلة الفساح , ... فعند انسلاخ الليل كالوشاح , وبزوغ الشمس كمشكاة مصباح , وهبوب رقراق نسيم الصباح , بعد إجابة حي على الفلاح , وما فيه من توفيق وصلاح , ياله من غدو ورواح , إلى البحر مع الصباح , مع أنغام أمواج الرياح , وإطلاق عنان الفكر لسراح , مع منظر شق عباب البحر بالسفن الملاح , والغوص في أسرار البحر بإنفساح , فتلك لحظة نشوة وارتياح , ...
ألم تعلم أن النظر في البحر عبادة ؟ , وأنها توفيق وسعادة ؟ , مع إخلاص الإنابة , فأقرأ إن تشاء , عمن خلق الأرض والسماء , ( ألم تر أن الفلك تجري في البحر بنعمة الله ليريكم من آياته إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور ) , ... فالحمد لله أن فضائلي متعددة مشهورة , لا تسلم من ذكرها الآيات بكل سورة .
فقال ينبع النخل :
قد جد الجد فكفى , وقد بلغت أقوالك الزبى , يا عجبا كل العجب , لمثل هذا العطب , قد سمعنا ردك , وعرفنا قدرك , فيا من تدعي الأصالة والافتخار , أصغ معي بأذنيك لهذه الأخبار , ...
أما ما به فاخرت , وإليه توجهت واعتمدت , فلله العجب لمثل هذا الفخر , أتفخر بمن هو موصوف بالغدر ؟ , أي فخر بمن إذا لازمته كثر بك البلاء , بتصبب عرقك وأصابك الصداء ؟ , أي فخر بمن إذا جلست لدية أصابك اللجاج , من هوج الرياح وتكسر الأمواج ؟ , ... هيهات هيهات , وما فات ما مات , أي نسيم عليل , ووصف جميل ؟ , ومن جلس بقربك لا يسلم من الغسيل !, ...
يا حاطب ليل , وجارف سيل , لقد أطلت الجدال والمراء , وتخبطت خبط العشواء , ... وأما افتخارك بجمال بحرك , فأنت لم تنفرد به لوحدك , على أنه بمثل هذا لا يفتخر , وقد عكر صفوه من الكدر , ...
أما وقد طرحت ما بيديك من فضائل , فسأنبيك بأخبار ما أنت به جاهل , أما وقد وصفت لنا بحارك , فسأتيك بما لم يخطر ببالك ! , أين أنت من محاسن أرضي الفيحاء , وعذوبة وزلال مياه عيوني الوطفاء ؟ , ألا تعلم أيه المتحضر الشاني , أنني عشيقة للبدو كالغواني ؟ , ... فإن فاخرتنا بمن يتسكعون على شطأنك , نازلناك بكرام لم تغرهم زخرفة بنيانك , سكاني في سعادة وهناء , لم يتنافسوا بزخارف وطلاء ,
قلوبهم صافية كبريق الشمعة , ونفوسهم طاهرة كرقراق الدمعة , أولم تقرا أيه الغلام , قسم الخالق رب الأنام ؟ , ( والنخل ذات الأكمام ) , أسمعت بهذه أيه اللئيم ؟ , ( تالله إنك لفي ضلالك القديم ) , ...
فسمع يا ينبع البحر , بعض أوصافي بسطر , أنا ظلي ممدود , وفضلي مشهود , وسكاني أهل جود , وموطني محسود , هذا ولي من الفضائل , مالا تسعه الطروس بالأنامل , كانت ولا تزال على مدى السنين , عندما كنت منجدل بالماء والطين ,
... أنا قطب ينبع وبدرها , وحولي يدور فضلها , قد وصفت لنا جمال أرضك , وإليك ما نقص دون عرضك , سأصف لك حال أحد سكاني , وهو يخلد إلى النوم في إحدى الليالي ,
ففي عسعسة الليل البهوم , يراعي بفكره النجوم , وهي في الفلك تحوم , كأنها لؤلؤ منظوم , قد تقطعت عنه الهموم , وقد فارقته الغموم , ...
وإذا بالليل قد عسعس , وإذا بالظلام قد أغلس , في ليل أغمس , وإذا بالسكون قد طرمس , فلا همس ولا حسحس , في ليلة نهسهس , ليس فيها مأنس , عدا صوت الهجرس , وهو له كعبس , وعواء العملس , وهو له حصحص , وهمسات المنفس , وإذا بالنسيم قد نسنس , بين فسائل المغرس , كسكون المكنس , وإذا بالفكر هسهس , وإذا بقبس النار يطمس , بعد أن كان يقبس , وإذا بالجو قد أقرس , ...
وصفت لك الحال , بمقام مختصر المقال , فنظر لهذا الفضل , وتأمل هذا الفصل .
المفضلات