[align=center]أين تذهب الأحلام ؟
---------------
أمام ذلك الطابور الطويل وقف أحمد ينتظر دوره المتأخر متلهفاً
فاليوم الاثنين غرة الشهر موعد قبض الراتب الشهري
- كان ينظر إلى الثلاثة عشر الذين اصطفوا أمامه واحداً تلو الآخر وهو
يتفرس في وجوههم التي أنهكها العمل في هذه الظهيرة الحارة فاليوم
سوف يتلاشى التعب ويجف كل العرق الذي يتصبب من أجسادهم
وعندما تلامس أصابعهم الراتب ريالاً ريالاً يتحول العرق عطراً والتعب
بقدرة قادر إلى راحة فالعمل شرف وكرامة للإنسان
٭ أحمد ينتظر كأي رجل واقف في هذا الطابور وهو يتجرع السعادة رويداً
رويداً إلى أن يأتي دوره فيتذوقها! هو يوم منتظر له طعم يستحق كل
ذلك الجهد المبذول مهما كان صعباً
- وفي اثناء الانتظار كان يحادث نفسه المتعبة: راتبي ثلاثة آلاف ريال
وفي رأسي أشياء وعليّ التزامات يجب أن تسد وتوفى فأجرة الشقة التي
أسكنها ثمانمائة ريال، ومائتان سوف أدفعهما لفاتورة الكهرباء وهكذا
انتهت الألف الأولى
وأربعمائة ريال سوف أسددها لفاتورة الهاتف هي كبيرة ولكن يجب أن
نرشد استهلاكنا فكل ريال ينفع في هذا الوقت الصعب، وستمائة ريال سوف
أرسلها بخجل لوالدتي في القرية وبهذا انتهت الألف الثانية
بقيت الآن الألف الثالثة وهي التي سوف أموِّن بها المنزل واحتياجاته
رفع رأسه متأملاً السقف والجدران قائلاً: هناك إصلاحات مؤجلة طالما
تهربت وعجزت عن إصلاحها ولكن لا يمكن تأجيلها لشهر آخر
وضع أصبعه على رأسه وبدأ يتحدث بصوت مسموع وبفزع: العام الدراسي
سوف يبدأ في العاشر من هذا الشهر والأولاد بحاجة ماسة وملحة إلى
ملابس.. حقائب ومصاريف أخرى
- التفت الرجل الذي أمامه مندهشاً!! أحس أحمد بالحرج وأخذ يكح لكي
يبعد عن نفسه صفة الجنون أو الوسوسة
- أطل برأسه لينظر كم تبقى من الموظفين ليأتي دوره نظر جيداً فوجدهم
خمسة فقط !!
تبسم وهو يردد: على الادارة أن تعين للصرافة اثنين أو حتى ثلاثة فقد
تعبتُ من الانتظار حينئذ شعر أحمد في قرارة نفسه بالاعتراض على تلك
الجملة قائلاً: من أنا حتى أتعب فأنا موظف عادي وبالضبط كاتب على
درجة متدنية
- ولكي يبعد عن نفسه ذلك الشعور المر نظر إلى الطابور مرة أخرى وفي
عيناه شيء من الألم القديم لتقف عيناه على زميله سليم ليشعربإحساس
مؤلم يؤكد له سوء حظه وقلة حيلته في هذه الحياة
٭ سليم زامل أحمد مرتين هنا في العمل وقبل ذلك على المقاعد
الدراسية ولكن سليم يقبض راتباً قدره ثمانية آلاف وخمسمائة ريال
ويمتلك بيتاً فخماً وسيارة فارهة والسبب أنه تخرج مهندساً بينما هو
لم يستطع أن يدخل الجامعة لظروف عائلية أجبرته أن يعمل بالثانوية
كاتباً ويُعيل عائلته بعد إصابة والده في العمل
٭ نظر أحمد إلى الأرض بكل تركيز وكأن سنينه وقفت هنا وأحلامه التي
كاد أن يقترب من تحقيقها تبخرت خلف تلك السنين وهو يحدث نفسه: كنت
أحمل في عقلي وصدري أحلاماً كثيرة وعلى رأسها أن أكون مهندساً نابغة
وأن أصبح رجلاً معروفاً يقف لي الجميع احتراماً ثم أتقدم للدراسات
العليا وأصبح دكتوراً في الهندسة فأنا متفوق دائماً رغم كوني كاتباً
وأن امتلك منزلاً كبيراً وسيارة ورصيداً كبيراً في المصرف وكنت أود أن
أرد لأمي فضلها وأعوضها عما عانت من تعب وعوز وأعطيها ستة آلاف
وأبني لها منزلاً كبيراً يطل على الجبل وأزيدها إن زاد راتبي وكنت
أريد أن أعمر مسجداً لأبي - رحمه الله - ليكون صدقة جارية له ولكني
سأكتفي بالدعاء لأني لا أملك ما أعمر به لي بيتاً وبسرعة نطقها أريد
وأريد وأريد ولا أستطيع تنهد بصوت عال، آه كم هي سهلة وجميلة تلك
الأحلام!!
ازداد اعتراض أحمد على نفسه ليرد على نفسه مرة أخرى: أنا لا اعترض
على نصيبي فهذا نصيبي وإرادة الله وأنا أرضى بها ولست ممن يحسد زملاءه
واخوانه زادهم الله من فضله ورزقني وفجأة! وجد أحمد نفسه منفرداً
وجهاً لوجه أمام الصراف يناديه: استاذ احمد.. يرد عليه وكأنه أيقظه
من حلم.. يمسك القلم بهدوء.. يوقع.. يستلم الراتب نقداً ويمضي
بخطوات وئيدة بعد أن كان متعجلاً
وفي أثناء عبوره في الممر الخارجي للشركة كان أحمد يمسك الراتب
وينظر إليه بعجز وقلة حيلة وحسرة متمتماً بالحزن: لن يكفي هذا
الراتب لمتطلبات هذا الشهر ولابد لي أن أقترض مالاً حتى أؤدي متطلبات
الأولاد على أتم وجه فهم الآن مستقبلي وأحلامي الجديدة وليست تلك التي
تسربت من بين يدي ولم أحقق منها شيئاً
وأمام البوابة الكبيرة للشركة ابتسم أحمد وهو ينظر من بعيد إلى
زميله المهندس سليم بعين الغبطة
ويردد بصوته كلمات طالما حملتها الرياح متسائلاً: أين تذهب الأحلام ؟؟؟[/align]
المفضلات