أطالب بزيادة في راتبي الشهري! هكذا فاجأتني سعادة الطباخة. نظرت إليها مندهشاً. فكررت طلبها مرة أخرى بلهجة أمر: ارفع راتبي أو كل سندوتشات.
- لماذا يا سعادة الطباخة المحترمة؟ فأجابت:
- أولاً: جميع الأسعار ارتفعت في جدة. ثانيا.. انخفضت قيمة الريال أمام عملة بلدي فأصبح المبلغ الذي أحوله إلى عائلتي أقل بكثير مما كان.
فقلت لها باستظراف: أولا يا سعادة الطباخة، الأسعار ارتفعت فعلاً ولكن ليس عليك فقط. ثانياً.. لم تنخفض قيمة الريال أمام عملة بلادك، بل إن عملة بلادك هي التي ارتفعت، فقولي لحكومة بلادك أن تخفض عملتها قليلاً لكي يعود التناسب إلى الوضع السابق. ثالثاً.. (قلت في نفسي) السندوتشات أحسن من طبيخك.
ذكرتني هذه الحادثة بتحقيق قرأته في جريدة الرياض يوم الاثنين 19ذو القعدة 1429هـ الموافق 17/ نوفمبر 2008م. عنوان التحقيق هو “معاناة المتقاعدين” ويوضح حالة المتقاعدين من الرجال السعوديين وعائلاتهم، وما يواجهونه من صعوبات للوفاء بمستلزمات معيشتهم اليومية.
نظام التقاعد المطبق حالياً هو أحد أقدم الأنظمة في المملكة مضى عليه أكثر من ستين عاماً، لذا حان الوقت لأن يحال هذا النظام نفسه إلى التقاعد. والمتوقع أن يصدر قريباً نظام جديد لكل من التقاعد المدني والعسكري يأخذ في الاعتبار المستجدات الأخيرة، وينصف المتقاعدين القدامى. ويشير التحقيق الذي نشر في صحيفة الرياض إلى أن نظام التقاعد المأخوذ به حتى الآن وضع المتقاعدين القدامى أمام موقف مؤلم لا يستطيعون تدبير أمورهم المعيشية من خلاله، وحوّل المنتسبين إليه من أسر من الطبقة المتوسطة إلى أسر فقيرة لا تستطيع مواجهة التزاماتها المعيشية اليومية، ناهيك عن الرعاية الصحية والسكن.
نحن نعيش في مجتمع مسلم، نشأ وتربى على احترام الكبير وعلى مناداة الرجل المتقدم في السن بكلمة شيخ أو عم. هؤلاء الكبار في السن قدموا أجّل الخدمات لبلادهم ومجتمعهم عندما كانوا في زهرة شبابهم، وأفنوا أعمارهم في بناء الوطن. وعندما يتقدم الإنسان في العمر تداهمه الأمراض والضعف الصحي العام ويصبح في أمس الحاجة إلى الرعاية الصحية لما تبقى له من العمر. ولكن المؤسسة العامة للتقاعد لا تعترف بهذه الحقيقة على ما يبدو. فبعد أن اغتنت وازدهرت هذه المؤسسة من استثمار أموال المتقاعد في صباه وشبابه، تخلت عنه في عجزه وتقدمه في السن، فلا هي تهتم بصحته أو حالته، ولا تعاونه في شراء الدواء الذي يحتاجه، بل ربما تتمنى موته سريعاً- والعياذ بالله- حتى توفر معاشه التقاعدي، إذ تحول هذا المتقاعد في نظر المؤسسة إلى عالة عليها بعد أن كان “مموّلاً” لها.
هل تعلم مؤسسة التقاعد كم عدد المتقاعدين الذين يعيشون الآن في منازل لايمتلكونها؟، وهم الذين موّلوها في شبابهم والذين من خلال أموالهم كبرت وتربربت؟ يعيشون الآن في منازل لايمتلكونها؟ هل اهتمت المؤسسة بهم ودرست طرق مساعدة هؤلاء المتقاعدين لمواجهة أزمة السكن في ظل ارتفاع أسعار العقار والإيجارات، وفي ظل معاشات التقاعد المتدنية التي لم يطرأ عليها أية زيادة منذ أعوام سوى ما أمر به قبل فترة ولي أمر البلاد أطال الله عمره؟ هل كان من الصعب على مؤسسة مالية عملاقة مثلها أن تنظر في إنشاء وحدات سكنية مناسبة لمن يرغب من منسوبيها بضمان استحقاقاتهم، تؤجر عليهم بأسعار مناسبة بنظام التأجير المنتهي بالتمليك الذي أثبت فعاليته؟ أليس في مثل هذا الحل مكسب للطرفين؟ كيف تستطيع مؤسسة التقاعد أن تبرر موقفها من المتقاعد الذي كان يسدد لها، ولمدة ثلاثين عاماً في المتوسط، مبلغ اثني عشر أو ثلاثة عشر ألف ريال سنوياً، بإجمالي قد يصل إلى قرابة أربعمائة ألف ريال طوال سنين خدمته، وتستثمره المؤسسة عاماً بعد عام ليصل إلى قرابة مليون ريال، ثم لايحصل المتقاعد إلا على جزء يسير من هذا المبلغ إما من خلال تصفية حقوقه أو راتب ضئيل لا يكفي حاجته الشهرية من غذاء ومأوى، ولا يحفظ له كرامته وماء وجهه؟
ولماذا لم تدرس المؤسسة وضع العسكري المتقاعد الذي قد يفقد قرابة ثلاثة أرباع راتبه الشهري عند إحالته إلى التقاعد بعد خصم البدلات التي كان يحصل عليها أثناء الخدمة؟ كيف يستطيع مثل هذا المواطن الذي كان يملأ قلبه الفخر والاعتزاز بالزي العسكري الذي يرتديه وبخدمة بلده في أشرف ميدان أن يحيا هو وعائلته بعد أن يتدهور دخله الشهري إلى هذا المستوى المتدني؟ يتحول إلى قائد سيارة أجره أو معقب أو ماشابه ذلك؟
لا أحد يطالب مؤسسة التقاعد بالتحول إلى جمعية خيرية، أو إهدار أموال المنتسبين لها دون تبصر. نطالبها فقط بأن لا تخطط لتقاعد المنتسبين الذين لايزالون يموّلونها الآن وهم على رأس العمل، وتنسى الممول السابق، وهو الأساس، الذي اضطر إلى التقاعد عن العمل.
هؤلاء يامؤسستنا العزيزة ليسوا عالة عليكِ، بل هم من صنعوكِ في الأساس وهم من جعلوا منك ما أنت عليه اليوم، ولايطلبون سوى بعض حقوقهم المشروعة.
المفضلات