بقلم فضيلة الشيخ/ عبدالله زقيل
الحمدُ للهِ وبعدُ ؛
اطلعتُ على مقالٍ للدكتور طارق سويدان - عفا اللهُ عنه - في جريدةِ المدينةِ في عمودهِ الأسبوعي : " قوالب فكرية " وعنون له : " تلبس الجان بالإنسان .. حقيقة أم وهم ؟ " ، وأتى في مقالهِ على مسألةِ تلبسِ الجنّ بالإنسِ ، وقرر فيه أن تلبسَ الجنِ بالإنسِ انتشر عن طريقِ الخرافةِ والوهمِ ، وهذا لا يعني أن ما قالهُ وقررهُ هو الصوابُ ، وإنما المرجعُ في ذلك أدلةُ الكتابِ والسنةِ ، والرجوعُ إليهما حال التنازعِ قال تعالى : " فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً " [ النساء : 59 ] ، ولو لم يوجد في المسألةِ إلا نصٌ واحدٌ لكفى ، فكيف إذا تكاثرتِ النصوصُ بذلك ؟ وقررهُ علماءُ أهلِ السنةِ والجماعةِ في كتبهم .
افتتح الدكتور طارق – غفر اللهُ له – مقالهُ بمقدمةٍ جيدةٍ فقال : " كثير من المسائل تأخذ انتشارها من قصة مروية أو إشاعة مكذوبة أو وهم متخيل ، فإذا تراخى الناس في الرد عليها وتكذيبها أخذت شكل الحقيقة ، وأصبحت معتقدا ثابتا في عقول الكثير لا يجوز الجدال فيه ، مع أن أصلها ما ذكرناه من خرافة ووهم " .
وهذا كلامٌ جيدٌ ، ولكنه أتى بمثالٍ على ذلك تلبس الجنّ بالإنسِ فقال : " وقد أثبت الله سبحانه وتعالى في مواضيع عدة من كتابه أن الشيطان ليس له سبيل على بني آدم فقال تعالى : " إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون " وقال سبحانه يحكي على لسان إبليس حين تبرأ من الكافرين : " وما كان لي عليكم من سلطان " .
فكيف نأتي بعد هذا البيان الإلهي ونقول بأن الجن يتلبس بالإنسان ، ثم يتكلم عوضا عنه ، ويوحي له بالتصرفات التي يريدها ، والله سبحانه يثبت أن الشيطان لا سلطان له على البشر ؟!! كما أن العقل البشري لا يصدق مثل هذه الأوهام. وعلاوة على كل ذلك فأنا أرى أن أصول التشريع ترفض ذلك من وجه آخر وهو أن الجن إذا تلبس بالإنسان وتصرف عوضا عنه فمن المفترض أن يسقط التكليف عن الإنسان في تلك الحالة، وليس في الشرع ما يشير إلى أن من أسباب سقوط التكليف تلبس الجن " .
سبحانَ اللهِ ! هكذا بكلِّ بساطةٍ يا دكتور طارق – عفا اللهُ عنك - ، لأن العقلَ لا يقبلُ مثل هذا الكلامِ تُردُّ نصوصُ الكتابِ والسنةِ الواضحةِ البينةِ في المسألةِ ، وقد عدها أهلِ العلمِ من أصولِ أهل السنةِ والجماعةِ فهذا شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ يقولُ في " الفتاوى " (24/276) : " ليس في أئمةِ المسلمين من ينكرُ دخولَ الجني في بدنِ المصروعِ وغيرهِ ، ومن أنكر ذلك ، وأدعى أن الشرعَ يكذبُ ذلك ، فقد كذب على الشرعِ ، وليس في الأدلةِ الشرعية ما ينفي ذلك " ، ثم قال : " دخولُ الجني ثابتٌ باتفاقِ أئمةِ أهلِ السنةِ والجماعةِ " .ا.هـ.
وأما تقديمك للعقلِ على النصوصِ الواضحةِ فهذا مظهرٌ خطيرٌ من مظاهرِ الانحرافِ أنزهك عنه ، وقد قيل : " اجعلِ الشرعَ في يمينك والعقلَ في يسارك " تنبيهاً على تقديمِ النقلِ على العقلِ ، ولهذا قال الشاطبي في " الاعتصام " : إن اللهَ جعل للعقولِ في إدراكها حداً تنتهي إليه لا تتعداهُ ، ولم يجعل لها سبيلاً إلى الإدراكِ في كلِّ مطلوبٍ ، ولو كانت كذلك لاستوت مع الباري في إدراكِ جميعِ ما كان وما يكونُ وما لا يكونُ " .ا.هـ.
ولعلي أكتفي بذكر دليلين مما لم تشر إليها في مقالك ، وأنقلُ كلامَ العلماءِ عليهما .
الدليلُ الأولُ :
مِنْ أظهرِ الأدلةِ على تلبسِ الجنِ بالإنس قولهُ تعالى : " الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ " [ البقرة : 275 ] ، وتعجبتُ من الدكتور طارق – غفر اللهُ له – أنه لم يوردها في مقالهِ ! فلا أدري هل غابت عنهُ ؟ أم أنهُ تعمد عدم ذكرها ؟ ولكننا نحسنُ الظنَّ به ، ونقول : ربما غابت عنه .
وهذه الآيةُ صريحةٌ جداً في المسألةِ ، ولو لم يكن في الأدلةِ إلا هذه الآية لكفى .
قال القرطبي عند تفسيره للآيةِ : " فِي هَذِهِ الْآيَة دَلِيل عَلَى فَسَاد إِنْكَار مَنْ أَنْكَرَ الصَّرْع مِنْ جِهَة الْجِنّ , وَزَعَمَ أَنَّهُ مِنْ فِعْل الطَّبَائِع , وَأَنَّ الشَّيْطَان لَا يَسْلُك فِي الْإِنْسَان وَلَا يَكُون مِنْهُ مَسّ " .ا.هـ.
وقال ابنُ حزمِ في " الفصل " (5/113) : " وأما الصرعُ فإن اللهَ عز وجل قال : " الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ " فذكر عز وجل تأثيرَ الشيطانِ في المصروعِ إنما هو بالمماسةِ ، فلا يجوزُ لأحدٍ أن يزيدَ على ذلك شيئاً " .ا.هـ.
وقال ابنُ كثيرٍ عند تفسيرِ الآية : " أَيْ لَا يَقُومُونَ مِنْ قُبُورهمْ يَوْم الْقِيَامَة إِلَّا كَمَا يَقُوم الْمَصْرُوع حَال صَرْعه وَتَخَبُّط الشَّيْطَان لَهُ وَذَلِكَ أَنَّهُ يَقُوم قِيَامًا مُنْكَرًا " .ا.هـ.
وقال الشوكاني في " فتح القدير " : " وفي الآيةِ دليلٌ على فسادِ قولِ من قال : إنّ الصرعَ لا يكونُ من جهةِ الجنِّ ، وزعم أنهُ من فعلِ الطبائعِ ، وقال : إن الآيةَ خارجةٌ على ما كانت العربِ تزعمهُ من أن الشيطانَ يصرعُ الإنسانَ ، وليس بصحيحٍ ، وإن الشيطانَ لا يسلك في الإنسانِ ولا يكونُ منه مس " .ا.هـ.
وقال الشيخُ محمدُ بنُ صالحٍ العثيمين عند تفسيرها (3/376) : " ومنها – أي من فوائد الآيةِ - أن الشيطانَ يتخبطُ بني آدم فيصرعهُ ؛ ولا عبرة بقولٍ من أنكر ذلك من المعتزلةِ وغيرهم ؛ وقد جاءتِ السنةُ بإثباتِ ذلك ؛ والواقعُ شاهدٌ به ؛ وقد قسم ابنُ القيمِ – رحمهُ اللهُ – في زاد المعاد الصرعَ على قسمين : صرع بتشنجِ الأعصابِ ؛ وهذا يدركهُ الأطباءُ ، ويقرونه ، ويعالجونهُ بما عندهم من الأدويةِ ، والثاني : صرع من الشيطانِ ، وذلك لا علم للأطباءِ به ، ولا يعالجُ إلا بالأدويةِ الشرعيةِ كقراءةِ القرآنِ ، والأدعيةِ النبويةِ الواردةِ في ذلك " .ا.هـ.
وأكتفي بنقولِ هؤلاءِ الأئمةِ ولو تتبعتُ كلامَ غيرهم في تفسيرِ الآيةِ لطال المقامُ ، ولا أدري هل هؤلاءِ أعلمُ أم الدكتور طارق – غفر اللهُ له - ؟
الدليلُ الثاني :
عَنْ عِمْرَانَ أَبِي بَكْرٍ قَالَ : حَدَّثَنِي عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ : قَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ : " أَلَا أُرِيكَ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ؟ " ، قُلْتُ : " بَلَى " ، قَالَ : " هَذِهِ الْمَرْأَةُ السَّوْدَاءُ ؛ أَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَتْ : " إِنِّي أُصْرَعُ ، وَإِنِّي أَتَكَشَّفُ ، فَادْعُ اللَّهَ لِي " ، قَالَ : " إِنْ شِئْتِ صَبَرْتِ وَلَكِ الْجَنَّةُ ، وَإِنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَكِ " ، فَقَالَتْ : " أَصْبِرُ " ، فَقَالَتْ : " إِنِّي أَتَكَشَّفُ ، فَادْعُ اللَّهَ لِي أَنْ لَا أَتَكَشَّفَ " ، فَدَعَا لَهَا .
أخرجهُ البخاري (5652) ، ومسلم (2576) .
قال الحافظُ ابنُ حجرٍ في " الفتحِ " (10/115) : " وَقَدْ يُؤْخَذ مِنْ الطُّرُق الَّتِي أَوْرَدَتْهَا أَنَّ الَّذِي كَانَ بِأُمِّ زُفَر كَانَ مِنْ صَرْع الْجِنّ لَا مِنْ صَرْع الْخَلْط " .ا.هـ.
المنكرون لتلبس الجنِّ بالإنس :
لقد أنكرت طوائفُ تلبسَ الجنِّ بالإنس وهم بعضُ المعتزلةِ والرافضةِ والمدرسةِ العقليةِ ، قال السيوطي في " لقط المرجانِ " ( ص 134 ) : " أنكرَ طائفةٌ من المعتزلةِ دخولَ الجنِّ في بدنِ المصروعِ " .ا.هـ.
ونقل أبو الحسن الأشعري في " مقالاتِ الإسلامين " ( ص 61 ) عن أصحابِ هشامِ بن الحكمِ قولهم عن الجنِّ : " فعلمنا أنه يوسوسُ ، وليس يدخلُ أبدانَ الناسِ " .ا.هـ.
وزعم الزمخشري في " الكشافِ " (1/164) فقال : " وتخبطُ الشيطانِ من زعماتِ العربِ ، يزعمون أن الشيطانَ يخبطُ الإنسانَ فيصرعُ " .ا.هـ.
وتعقبهُ البقاعيُّ في " تفسيرهِ " (4/111) فقال : " وظاهرهُ إنكارُ ذلك ، وليس بمنكرٍ ، بل هو الحقُّ الذي لا مريةَ فيه " .ا.هـ.
وقال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ في " الفتاوى " (19/12 – 13) : " أنكر طائفةٌ من المعتزلةِ كالجبائي وأبي بكرٍ الرازي وغيرهما دخولَ الجنِّ في بدنِ المصروعِ ، ولم ينكروا وجودَ الجنِّ ، إذ لم يكن ظهورُ هذا في المنقولِ عن الرسولِ كظهورِ هذا ، وإن كانوا مخطئين في ذلك . ولهذا ذكر الأشعري في مقالاتِ أهلِ السنةِ والجماعةِ أنهم يقولون : إن الجني يدخلَ بدن المصروعِ كما قال تعالى : " الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ " [ البقرة : 275 ] ، وقال عبدُ اللهِ بنُ أحمدَ بنِ حنبل : قلتُ لأبي : " إن قوماً يزعمون أن الجني لا يدخلُ في بدنِ الإنسي " ، فقال : " يا بني ؛ يكذبون ، هو ذا يتكلمُ على لسانهِ " . وهذا مبسوطٌ في موضعهِ " .ا.هـ.
وأكتفي بهذا القدر ، وأسألُ اللهَ أن يوفق الدكتور طارق سويدان للعملِ بالكتابِ والسنةِ ، وقد ختم مقالهُ بقولهِ : " والبعض ممن يروجون لهذه الأوهام يستدلون بأحاديث وآيات ليس فيها أي دليل على ذلك " .
فاقولُ : أسألُ اللهَ لك الهدايةَ ، أصبح الاستدلالُ بالآياتِ والأحاديث التي ذُكرت آنفاً أوهاماً يا دكتور طارق ! وأيضاً ليس فيها أيُّ دليلٍ !
وذكر الدكتورُ دليلاً واحداً فقال : " كقول النبي صلى الله عليه وسلم : إن الشيطان يجري من ابن آدم كمجرى الدم في العروق " والغريب أنهم لم يستوعبوا القصة كاملة وهي أن بعض الصحابة رأى النبي صلى الله عليه وسلم مع إحدى نسائه فناداهم النبي صلى الله عليه وسلم وأخبرهم أنها زوجته صفية وليست امرأة غريبة فقالوا: أفيك نشك أو نظن يا رسول الله ؟ فقال: (إن الشيطان يجري ...) فانظر إلى مجرى القصة وإلى استدلالهم يتبين لك ما فيه من البطلان " .
البطلان يا دكتور طارق – غفر اللهُ لك - ! وهذا الحديث قد استدل به على إمكانيةِ دخولِ الجني بدن الإنسي عددٌ من العلماءِ منهم القرطبي في " تفسيرهِ " (2/50) ، وشيخُ الإسلامِ في " الفتاوى " (24/277) ، والبقاعي في " نظم الدرر " (4/112) ، والقاسمي في " محاسن التأويل " (3/701) ، والشيخ عبد الله بن حميد في " الرسائل الحسان في نصائحِ الإخوان " ( ص 42 ) .
وقال الحافظُ ابنُ حجرٍ في " بذلِ الماعونِ " ( ص 151 ) : " وهو وإن كان في سياقهِ مخصوصٌ بالوسوسةِ ، لكنهُ يدلُّ على إمكانِ ما أشرتُ إليهِ . والدلالةُ الوجوديةُ فيمن يصرعهُ الجنُّ من الإنسِ كثيرةٌ جداً " .ا.هـ.
فلا أدري يا دكتور طارق هل نبطلُ كلامَ العلماءِ وفهمهم للحديثِ ونأخذ بتقريرك ؟
وختاماً نسألُ اللهَ أن يفقهنا والدكتور طارق في الدينِ ، وأن يقيهِ شر نفسهِ وشر الشيطانِ ، وأن يرجعَ إلى كلامِ العلماءِ الثقاتِ في فهمِ الكتابِ والسنةِ لا إلى عقلهِ .
المفضلات