المعلم
07-10-2009, 12:46 AM
* علاء محمَّد
أسرع الخُطى نحو الطابور الطويل الممتد أمام شباك الجوازات، وهو في الطريق إليه أدخل يده في حقيبته ليخرج منها جواز سفره.. ولما وصل إلى الطابور بدأ ينتابه القلق، فالوقت يمر بسرعة، وحركة الركاب بطيئة والوقت المتبقي على إقلاع الطائرة لا يتعدى.. نصف الساعة.. كان يترقب كل واقف أمام الشباك، وكلما انتهى أحد المسافرين من إجراءات سفره ازداد حيز الأمل بداخله.. ولما جاء دوره أقدم متلهفاً.. قدم الجواز للضابط الذي أخذ يقلب صفحاته.. وبعد أن انتهى من تصفحه.. وضعه أمامه.. نظر إلى صاحبه.. وابتسامة رقيقة تلازم شفتيه- قائلاً: من فضلك انتظر قليلاً.
تغير لونه.. سأله: لماذا؟ هل صدر قرار بمنعي من السفر؟! ثم ضحك ضحكة كلها سخرية وتهكم وعقب قائلاً: أظن لن تستطيعوا ذلك لأني من بلد غير هذا البلد.. أليس ما أقوله صحيحاً؟
- بلي.
- ثم إني رجل أعمال أنتقل من بلد إلى آخر ولم يوقفني أحد من قبل.
- يا شيخ كلها دقائق وينتهي الأمر.
- لكن خلال هذه الدقائق ستحلق الطائرة فوق السحاب وتفوتني الرحلة وأنا لست مستعداً لذلك.
- كل تأخيرة وفيها خيرة.
- ليس في غالب الأحيان.
ولما لم يجد الضابط فائدة من مناقشته قام من مكانه وأخذ بيده وذهب إلى غرفة مكتبه وأدخله إياها.. حاول أن يبث الطمأنينة في نفسه.. فقال له: لن يطول انتظارك.. وأراد أن يزيده اطمئناناً فقال له: وستكون سعيداً عندما تعرف سبب تصرفي هذا.. وكل ما أطلبه منك أن تجلس في هذه الغرفة حتى أنتهي من إجراءات بقية المسافرين وعندما همَّ بالخروج من باب الغرفة استدار ناحية الشيخ قائلاً: ماذا تحب أن تشرب؟
رد (ووجه مكفهر): لا أريد أن أشرب شيئاً.
ضحك الضابط ثم قال: أظن قهوة ونادى على العامل وطلب منه أن يحضر قهوة للشيخ ثم خرج.
جلس الشيخ على كرسي بالقرب من مكتب متواضع.. جال بنظراته المرهقة في أنحاء الغرفة، نظر إلى الأرض، رجع بذاكرته إل الوراء، سأل نفسه: هل ارتكبت جرماً؟ أم أذنبت ذنباً؟ مر شريط حياته أمام عينيه.. لم يجد فيه ما يجعل الضابط يحجزه، فقد بدأ حياته معلماً ربى أجيالاً على منهاج الإسلام، كان لهم أباً حانياً قبل أن يكون معلماً مرشداً، غرس في طلابه نبتة الخير ليحصدها المجتمع جيلاً صالحاً يبني ولايهدم، وبعد أن قضى عقدين من الزمان في مجال التربية الخصب أراد أن يجرب حظه في مجال آخر اشتغل بالتجارة.. بدأ صغيراً في عالم الكبار لكن الله فتح عليه، توسَّعت تجارته، نما ماله، تحسنت أحواله لكنه ما نسي يوماً أنه كان معلماً، أراد أن يعيد الماضي الجميل، أقام صرحاً تعليمياً ضخماً، كان همه الأول من إنشائه بناء جيل ينهض بأمته ويعيد لدينه مجده التليد وعزه الغائب.. ثم إنه لا دخل له بالسياسة.. فبينه وبينها كما بين السماء والأرض.
وهو في هذه الحالة من التفكير العميق والتساؤل المر دخل عليه الضابط.. نظر إليه نظرة عتاب..فابتسم الضابط ابتسامة تضايق منها الشيخ ولم يسيطر على أعصابه فصرخ في وجهه: تبتسم!! ألهذا الحد تستهين بمصالح الناس.. لماذا أوقفتني حتى أقلعت الطائرة؟
قال الضابط: ببساطة ستكون في ضيافتنا أسبوعاً كاملاً.
انتفض الشيخ من مكانه وكأنه قد لدغ وهو يقول: أسبوعاً.. أسبوعاً.. لماذا؟ ما الذنب الذي فعلته، والجرم الذي ارتكبته؟
قال الضابط: يا شيخ محمد لو وافقت لجعلت المدة أطول من ذلك.. لو وافقت!
- أمر غريب حقاً، المتهم هو الذي يحدد مدة حجزه، إن هذا لأمر عجاب..
- لماذا اعتبرت نفسك متهماً؟
- وهل يحجز ويمنع من السفر إلا المتهمون.. وإن لم أكن- من وجهة نظرك متهماً.. فلماذا منعتني من السفر؟
- لم أحجزك لأنك متهم، ولكن لأنك..
- لأني ماذا؟
- لأنك في يوم من الأيام كنت أستاذاً لي وفضلك علي كبير.
- أستاذك!! إني تركت مهنة التدريس منذ فترة طويلة، وما الذي يجمعني بك؟ فأنت من قطر وأنا من قطر.
قال الضابط: إن اسمك لم يبرح ذاكرتي.. فقد كنت تلميذك في المدرسة.
- أعرف أنه من الصعب أن يتذكر الأستاذ تلاميذه، فهم كثر.. لكن ما خلفه الأستاذ في نفوس تلاميذه من أثر طيب وسلوك حميد وأدب يعيشون به في حياتهم يجعلهم لا ينسونه.. وأنت يا أستاذي قد غرست فينا كل معاني الإسلام العظيمة وخصاله الحميدة التي نستضيء بها في حياتنا.. فهل تسمح لي أن أراد إليك بعض جميلك؟ وأردف قائلاً: لقد تعمدت تأخيرك عن الطائرة فسامحني وأعذرني فإني عندما قرأت اسمك غلبتني مشاعري.. وعزمت على استضافتك أياماً عدة.. لأرد إليك نذراً من فضلك عليَّ.
- بتواضع شديد: الفضل لله يا ولدي..
- صمت الشيخ برهة ينظر إلى الأرض رفع بعدها رأسه ثم احتضن تلميذه وخيوط الدمع تسيل على وجهه وقال: بوركت يا ولدي.. أعظم وفاءك في زمن قل فيه الوفاء.
أسرع الخُطى نحو الطابور الطويل الممتد أمام شباك الجوازات، وهو في الطريق إليه أدخل يده في حقيبته ليخرج منها جواز سفره.. ولما وصل إلى الطابور بدأ ينتابه القلق، فالوقت يمر بسرعة، وحركة الركاب بطيئة والوقت المتبقي على إقلاع الطائرة لا يتعدى.. نصف الساعة.. كان يترقب كل واقف أمام الشباك، وكلما انتهى أحد المسافرين من إجراءات سفره ازداد حيز الأمل بداخله.. ولما جاء دوره أقدم متلهفاً.. قدم الجواز للضابط الذي أخذ يقلب صفحاته.. وبعد أن انتهى من تصفحه.. وضعه أمامه.. نظر إلى صاحبه.. وابتسامة رقيقة تلازم شفتيه- قائلاً: من فضلك انتظر قليلاً.
تغير لونه.. سأله: لماذا؟ هل صدر قرار بمنعي من السفر؟! ثم ضحك ضحكة كلها سخرية وتهكم وعقب قائلاً: أظن لن تستطيعوا ذلك لأني من بلد غير هذا البلد.. أليس ما أقوله صحيحاً؟
- بلي.
- ثم إني رجل أعمال أنتقل من بلد إلى آخر ولم يوقفني أحد من قبل.
- يا شيخ كلها دقائق وينتهي الأمر.
- لكن خلال هذه الدقائق ستحلق الطائرة فوق السحاب وتفوتني الرحلة وأنا لست مستعداً لذلك.
- كل تأخيرة وفيها خيرة.
- ليس في غالب الأحيان.
ولما لم يجد الضابط فائدة من مناقشته قام من مكانه وأخذ بيده وذهب إلى غرفة مكتبه وأدخله إياها.. حاول أن يبث الطمأنينة في نفسه.. فقال له: لن يطول انتظارك.. وأراد أن يزيده اطمئناناً فقال له: وستكون سعيداً عندما تعرف سبب تصرفي هذا.. وكل ما أطلبه منك أن تجلس في هذه الغرفة حتى أنتهي من إجراءات بقية المسافرين وعندما همَّ بالخروج من باب الغرفة استدار ناحية الشيخ قائلاً: ماذا تحب أن تشرب؟
رد (ووجه مكفهر): لا أريد أن أشرب شيئاً.
ضحك الضابط ثم قال: أظن قهوة ونادى على العامل وطلب منه أن يحضر قهوة للشيخ ثم خرج.
جلس الشيخ على كرسي بالقرب من مكتب متواضع.. جال بنظراته المرهقة في أنحاء الغرفة، نظر إلى الأرض، رجع بذاكرته إل الوراء، سأل نفسه: هل ارتكبت جرماً؟ أم أذنبت ذنباً؟ مر شريط حياته أمام عينيه.. لم يجد فيه ما يجعل الضابط يحجزه، فقد بدأ حياته معلماً ربى أجيالاً على منهاج الإسلام، كان لهم أباً حانياً قبل أن يكون معلماً مرشداً، غرس في طلابه نبتة الخير ليحصدها المجتمع جيلاً صالحاً يبني ولايهدم، وبعد أن قضى عقدين من الزمان في مجال التربية الخصب أراد أن يجرب حظه في مجال آخر اشتغل بالتجارة.. بدأ صغيراً في عالم الكبار لكن الله فتح عليه، توسَّعت تجارته، نما ماله، تحسنت أحواله لكنه ما نسي يوماً أنه كان معلماً، أراد أن يعيد الماضي الجميل، أقام صرحاً تعليمياً ضخماً، كان همه الأول من إنشائه بناء جيل ينهض بأمته ويعيد لدينه مجده التليد وعزه الغائب.. ثم إنه لا دخل له بالسياسة.. فبينه وبينها كما بين السماء والأرض.
وهو في هذه الحالة من التفكير العميق والتساؤل المر دخل عليه الضابط.. نظر إليه نظرة عتاب..فابتسم الضابط ابتسامة تضايق منها الشيخ ولم يسيطر على أعصابه فصرخ في وجهه: تبتسم!! ألهذا الحد تستهين بمصالح الناس.. لماذا أوقفتني حتى أقلعت الطائرة؟
قال الضابط: ببساطة ستكون في ضيافتنا أسبوعاً كاملاً.
انتفض الشيخ من مكانه وكأنه قد لدغ وهو يقول: أسبوعاً.. أسبوعاً.. لماذا؟ ما الذنب الذي فعلته، والجرم الذي ارتكبته؟
قال الضابط: يا شيخ محمد لو وافقت لجعلت المدة أطول من ذلك.. لو وافقت!
- أمر غريب حقاً، المتهم هو الذي يحدد مدة حجزه، إن هذا لأمر عجاب..
- لماذا اعتبرت نفسك متهماً؟
- وهل يحجز ويمنع من السفر إلا المتهمون.. وإن لم أكن- من وجهة نظرك متهماً.. فلماذا منعتني من السفر؟
- لم أحجزك لأنك متهم، ولكن لأنك..
- لأني ماذا؟
- لأنك في يوم من الأيام كنت أستاذاً لي وفضلك علي كبير.
- أستاذك!! إني تركت مهنة التدريس منذ فترة طويلة، وما الذي يجمعني بك؟ فأنت من قطر وأنا من قطر.
قال الضابط: إن اسمك لم يبرح ذاكرتي.. فقد كنت تلميذك في المدرسة.
- أعرف أنه من الصعب أن يتذكر الأستاذ تلاميذه، فهم كثر.. لكن ما خلفه الأستاذ في نفوس تلاميذه من أثر طيب وسلوك حميد وأدب يعيشون به في حياتهم يجعلهم لا ينسونه.. وأنت يا أستاذي قد غرست فينا كل معاني الإسلام العظيمة وخصاله الحميدة التي نستضيء بها في حياتنا.. فهل تسمح لي أن أراد إليك بعض جميلك؟ وأردف قائلاً: لقد تعمدت تأخيرك عن الطائرة فسامحني وأعذرني فإني عندما قرأت اسمك غلبتني مشاعري.. وعزمت على استضافتك أياماً عدة.. لأرد إليك نذراً من فضلك عليَّ.
- بتواضع شديد: الفضل لله يا ولدي..
- صمت الشيخ برهة ينظر إلى الأرض رفع بعدها رأسه ثم احتضن تلميذه وخيوط الدمع تسيل على وجهه وقال: بوركت يا ولدي.. أعظم وفاءك في زمن قل فيه الوفاء.