المعلم
14-12-2008, 12:03 AM
د. فوزية البكر
كيف يتشكل الضمير المهني لأي منا؟ وما الذي يعمل على تشكل القيم التي تحكم سلوكنا داخل مجال العمل؟ وهل تنفصل الممارسات المهنية بما تحمله من قيم عن ضميرنا الأخلاقي؛ أي مجموعة القيم الأخلاقية التي تحكم سلوكنا العام ؟
تعقد الدهشة لساني تماما، فمن يقوم بتجاوز القانون لصالح صديق ومن يستغل النظام لتحقيق مصلحة مالية أو معنوية، ومن يدافع عن الفساد والمحسوبية بأصوات نضالية هم في الحقيقة أناس طيبون مستقيمون تضج ضمائرهم الأخلاقية بالقيم الاجتماعية المطلوبة دينيا وثقافيا وهم كالغالبية منا صادقون وحريصون على أداء واجباتهم الأسرية والدينية المختلفة، لكنهم إلى جانب ذلك لا يتوانون عن التغيب عن العمل واستصدار الشهادات الطبية المزيفة للحصول على الإجازات، ولا يتوانون عن استخدام موارد الدولة والمؤسسة التي يعملون فيها لتحقيق مصالح شخصية ويمكن لهم بسهولة قيمية مدهشة القفز على النظام للحصول على وظيفة لا يستحقها قريب أو صديق لهم حتى لو كان ذلك يعني تجاوز الأحق في هذه الوظيفة... وهم إلى ذلك لا يكفون عن القيام بالأعمال الخيرية التي يحث عليها الدين مثل التصدق وتقديم المساعدات وجمع التبرعات لمحتاجة أو يتيم.
فكيف تتشكل ضمائرنا المهنية بعيدا عن قيمنا الأخلاقية والخاصة، وهل نحن فعلا متناقضون نمتلك من الشخصيات المتقلبة ما يكفي لتحويرنا عند كل موقف ؟؟؟
يساعد فهم الخصائص الثقافية للمجتمع وكيف تساهم هذه الثقافة في تشكل القيم عامة على تفهم أصول القيم المرتبطة بالممارسات المهنية إيجابية كانت أم سلبية إذ يعتمد الفرد في بناء قيمه المهنية على عدد من المصادر أولها النظام الديني والثقافي السائد والذي يعد من أقوى المرجعيات في تشكل القيم عامة يليه النظام التعليمي الذي يلتحق به الفرد، والذي يبني إما صراحة أو ضمنيا شبكة القيم المتوقع تبنيها من المتعلم بعد انتقاله للمؤسسة الوظيفية، كما يلعب المنهج المجتمعي المحيط بالفرد والذي تتمثل أدواته في قيم المجتمع المحيط ووسائل الإعلام ومنتجات التكنولوجيا التي يستخدمها وثقافة المحيط الخاص به داخل الأسرة والأصدقاء وتجارب الفرد الشخصية ونماذج القدوة من حوله عوامل أخرى تؤثر بدرجة أو بأخرى في تشكل الضمير المهني.
ولنأخذ ثقافة المحيط الخاص بنا داخل الأسرة ونماذج القدوة المطروحة فيه كنماذج؛ فاليافعون يتعلمون تدريجيا ما هي القيم المقبولة للإنتاج والتي يرونها ممارسة أمامهم وتدريجيا يستبطنونها في داخلهم لتصبح قيما تحدد مستوى إنتاجهم من خلال ملاحظة وتبني اتجاهات المحيطين بهم، فإذا أظهر الوالدان أو المحيطون عدم محبة لعملهم أو تجاوزا لبعض القيم الأخلاقية في ممارسات العمل مثل عدم الانضباط أو استخدام الموارد العامة بتخفف أخلاقي أو تساهل فسينتقل ذلك لليافع كقيمة ممارسة مقبولة اجتماعيا لا تخضع بالضرورة للمحكات الأخلاقية أو الدينية العامة التي تشكل مرجعيته الدينية والثقافية خاصة وأن الوالدين أو المحيطين هم نماذج قدوة ملتزمة دينيا وثقافياً بحيث لا تتخلق حالة القلق القيمية لدى الفرد نتيجة لهذه الممارسات.
إلى ذلك تتميز مجتمعاتنا الشرقية ببعض الخصائص القيمية والثقافية التي قد يساعد فهمها على تفهم بعض نماذج ثقافة العمل المتناقضة داخل مؤسسات العمل فعلى سبيل المثال لا يوجد خط فاصل بين الحياة الخاصة وحياة العمل، والولاء هو للأقارب والأصدقاء بغض النظر عن الكفاءة، ومن ثم يفترض في الصديق إن وجد داخل نظام ما أن يساند أقاربه وأصدقاءه ممن هم خارج النظام، ومن ثم فإن الكثير من ممارسات العمل تبنى على الصداقات والإحساس بالواجب، وليس بالضرورة على الكفاءة أو الأقدمية الأمر الذي يجعل مبدأ نصرة الصديق ظالما أو مظلوما سمة سلوكية ممارسة داخل المؤسسات تعطي الفرد مبررا اجتماعيا قويا لتجاوز النظام في سبيل نصرة هذا الصديق أو القريب؛ فالولاء ليس لمؤسسة العمل قدر ما هي للجماعات الكبرى التي ينتمي لها الفرد (الأسرة، القبيلة، الرفاق) ولا يوجد خط فاصل واضح بين الحياة الخاصة وحياة العمل، وفي الغالب تنحصر الصداقات في إطار الجماعات التي ينتمي إليها الفرد وما تقره الأعراف الاجتماعية المتعارف عليها والتي يرتبط بها الفرد عاطفيا ويشعر بنوع من المسئولية الجماعية عنها، كما يشعر بدعمها وحمايتها حين يكون بحاجة لهذا الدعم.
من هنا لا يشعر الفرد بأي حرج للاتصال بصديق أو قريب في مؤسسة ما لدفع ابنه ضمن قائمة المقبولين لوظيفة أو للحصول على امتيازات معينة حتى لو كان ذلك يعني تجاوز حق آخرين بل إن ( الشرهة الاجتماعية )تصل مداها فيما لم يتم تحقق التوقعات في الواسطة المطلوبة، كما أن الفرد نفسه سيحتاج -ربما -إلى خدمات مماثلة يوما ما.
ومن هنا ترسخ لدينا مبدأ أن الحقوق المهنية والترقيات لا تتحقق بفعل الأقدمية أو الكفاءة قدر ما نصل لها بفعل دعم أقربائنا وأصدقائنا الذين لا يشعرون بالتناقض الأخلاقي والقيمي حين يسعون لدعمنا ضمن النظام فهكذا يتحرك النظام ! وهو ما يجعل هذا النوع من الممارسات غير الأخلاقية داخل مؤسسات العمل مبررة أخلاقيا !! المشكلة في مثل هذه التناقضات الصارخة التي تملأ فضاء المؤسسات العامة حكومية وخاصة هي هذه الفوضى القيمية والمهنية التي نزرعها في الأجيال؛ ففي ظل ممارسات كهذه نظل نعرف أننا دائما بحاجة لدعم من هم أقوى منا ممن يعملون داخل النظام، سواء للحصول على حقوقنا أو إذا تطلب الأمر حصولنا على حق الغير في ترقية أو استشارة أو عمل أو مقعد دراسي.. إلخ. كما تصبح المؤسسات -وكما هي اليوم- قلاع محصنة ومقسمة قبليا أو عائليا بحسب قوة وعدد من يعملون في كل قطاع !! إن انتشار هذه التناقضات يقوض القيم المهنية الحقيقية ليتكون نوع من ثقافة العمل الخاصة بمجتمعاتنا الشرقية والتي ربما تكون مسئولة إلى حد كبير عن هذه الفوضى القيمية والإنتاجية التي تلوي عنق كل خطط التنمية المرتقبة ورغم أننا في الحق لا نستطيع أن نغير بعض هذه المفاهيم السائدة وبعض تفسيراتنا الثقافية التي تلوث بيئة العمل إلا أن تشريحنا لها وفهمنا لمصادرها الثقافية قد يساعد على مقاومتها لمواجهة التحديات الكبيرة التي سنتعرض لها في هذا القرن، خاصة ما له علاقة بالإنتاجية الفردية والاجتماعية.
ولعلي ، قبل أن أختم، أن أشرككم معي في مقولة مالك بن نبي عند مناقشته لمشكلة الثقافة والنهضة في المجتمعات الإسلامية قوله: إن الذي ينقص المسلم ليس منطق الفكرة، ولكن منطق العمل والحركة، وهو لا يفكر ليعمل، بل ليقول كلاماً مجرداً، بل إنه أكثر من ذلك يبغض أولئك الذين يفكرون تفكيراً مؤثراً من شأنه أن يتحول في الحال إلى عمل ونشاط.
ومن هنا يأتي عقمنا الاجتماعي، فنحن حالمون ينقصنا المنطق العملي.
كيف يتشكل الضمير المهني لأي منا؟ وما الذي يعمل على تشكل القيم التي تحكم سلوكنا داخل مجال العمل؟ وهل تنفصل الممارسات المهنية بما تحمله من قيم عن ضميرنا الأخلاقي؛ أي مجموعة القيم الأخلاقية التي تحكم سلوكنا العام ؟
تعقد الدهشة لساني تماما، فمن يقوم بتجاوز القانون لصالح صديق ومن يستغل النظام لتحقيق مصلحة مالية أو معنوية، ومن يدافع عن الفساد والمحسوبية بأصوات نضالية هم في الحقيقة أناس طيبون مستقيمون تضج ضمائرهم الأخلاقية بالقيم الاجتماعية المطلوبة دينيا وثقافيا وهم كالغالبية منا صادقون وحريصون على أداء واجباتهم الأسرية والدينية المختلفة، لكنهم إلى جانب ذلك لا يتوانون عن التغيب عن العمل واستصدار الشهادات الطبية المزيفة للحصول على الإجازات، ولا يتوانون عن استخدام موارد الدولة والمؤسسة التي يعملون فيها لتحقيق مصالح شخصية ويمكن لهم بسهولة قيمية مدهشة القفز على النظام للحصول على وظيفة لا يستحقها قريب أو صديق لهم حتى لو كان ذلك يعني تجاوز الأحق في هذه الوظيفة... وهم إلى ذلك لا يكفون عن القيام بالأعمال الخيرية التي يحث عليها الدين مثل التصدق وتقديم المساعدات وجمع التبرعات لمحتاجة أو يتيم.
فكيف تتشكل ضمائرنا المهنية بعيدا عن قيمنا الأخلاقية والخاصة، وهل نحن فعلا متناقضون نمتلك من الشخصيات المتقلبة ما يكفي لتحويرنا عند كل موقف ؟؟؟
يساعد فهم الخصائص الثقافية للمجتمع وكيف تساهم هذه الثقافة في تشكل القيم عامة على تفهم أصول القيم المرتبطة بالممارسات المهنية إيجابية كانت أم سلبية إذ يعتمد الفرد في بناء قيمه المهنية على عدد من المصادر أولها النظام الديني والثقافي السائد والذي يعد من أقوى المرجعيات في تشكل القيم عامة يليه النظام التعليمي الذي يلتحق به الفرد، والذي يبني إما صراحة أو ضمنيا شبكة القيم المتوقع تبنيها من المتعلم بعد انتقاله للمؤسسة الوظيفية، كما يلعب المنهج المجتمعي المحيط بالفرد والذي تتمثل أدواته في قيم المجتمع المحيط ووسائل الإعلام ومنتجات التكنولوجيا التي يستخدمها وثقافة المحيط الخاص به داخل الأسرة والأصدقاء وتجارب الفرد الشخصية ونماذج القدوة من حوله عوامل أخرى تؤثر بدرجة أو بأخرى في تشكل الضمير المهني.
ولنأخذ ثقافة المحيط الخاص بنا داخل الأسرة ونماذج القدوة المطروحة فيه كنماذج؛ فاليافعون يتعلمون تدريجيا ما هي القيم المقبولة للإنتاج والتي يرونها ممارسة أمامهم وتدريجيا يستبطنونها في داخلهم لتصبح قيما تحدد مستوى إنتاجهم من خلال ملاحظة وتبني اتجاهات المحيطين بهم، فإذا أظهر الوالدان أو المحيطون عدم محبة لعملهم أو تجاوزا لبعض القيم الأخلاقية في ممارسات العمل مثل عدم الانضباط أو استخدام الموارد العامة بتخفف أخلاقي أو تساهل فسينتقل ذلك لليافع كقيمة ممارسة مقبولة اجتماعيا لا تخضع بالضرورة للمحكات الأخلاقية أو الدينية العامة التي تشكل مرجعيته الدينية والثقافية خاصة وأن الوالدين أو المحيطين هم نماذج قدوة ملتزمة دينيا وثقافياً بحيث لا تتخلق حالة القلق القيمية لدى الفرد نتيجة لهذه الممارسات.
إلى ذلك تتميز مجتمعاتنا الشرقية ببعض الخصائص القيمية والثقافية التي قد يساعد فهمها على تفهم بعض نماذج ثقافة العمل المتناقضة داخل مؤسسات العمل فعلى سبيل المثال لا يوجد خط فاصل بين الحياة الخاصة وحياة العمل، والولاء هو للأقارب والأصدقاء بغض النظر عن الكفاءة، ومن ثم يفترض في الصديق إن وجد داخل نظام ما أن يساند أقاربه وأصدقاءه ممن هم خارج النظام، ومن ثم فإن الكثير من ممارسات العمل تبنى على الصداقات والإحساس بالواجب، وليس بالضرورة على الكفاءة أو الأقدمية الأمر الذي يجعل مبدأ نصرة الصديق ظالما أو مظلوما سمة سلوكية ممارسة داخل المؤسسات تعطي الفرد مبررا اجتماعيا قويا لتجاوز النظام في سبيل نصرة هذا الصديق أو القريب؛ فالولاء ليس لمؤسسة العمل قدر ما هي للجماعات الكبرى التي ينتمي لها الفرد (الأسرة، القبيلة، الرفاق) ولا يوجد خط فاصل واضح بين الحياة الخاصة وحياة العمل، وفي الغالب تنحصر الصداقات في إطار الجماعات التي ينتمي إليها الفرد وما تقره الأعراف الاجتماعية المتعارف عليها والتي يرتبط بها الفرد عاطفيا ويشعر بنوع من المسئولية الجماعية عنها، كما يشعر بدعمها وحمايتها حين يكون بحاجة لهذا الدعم.
من هنا لا يشعر الفرد بأي حرج للاتصال بصديق أو قريب في مؤسسة ما لدفع ابنه ضمن قائمة المقبولين لوظيفة أو للحصول على امتيازات معينة حتى لو كان ذلك يعني تجاوز حق آخرين بل إن ( الشرهة الاجتماعية )تصل مداها فيما لم يتم تحقق التوقعات في الواسطة المطلوبة، كما أن الفرد نفسه سيحتاج -ربما -إلى خدمات مماثلة يوما ما.
ومن هنا ترسخ لدينا مبدأ أن الحقوق المهنية والترقيات لا تتحقق بفعل الأقدمية أو الكفاءة قدر ما نصل لها بفعل دعم أقربائنا وأصدقائنا الذين لا يشعرون بالتناقض الأخلاقي والقيمي حين يسعون لدعمنا ضمن النظام فهكذا يتحرك النظام ! وهو ما يجعل هذا النوع من الممارسات غير الأخلاقية داخل مؤسسات العمل مبررة أخلاقيا !! المشكلة في مثل هذه التناقضات الصارخة التي تملأ فضاء المؤسسات العامة حكومية وخاصة هي هذه الفوضى القيمية والمهنية التي نزرعها في الأجيال؛ ففي ظل ممارسات كهذه نظل نعرف أننا دائما بحاجة لدعم من هم أقوى منا ممن يعملون داخل النظام، سواء للحصول على حقوقنا أو إذا تطلب الأمر حصولنا على حق الغير في ترقية أو استشارة أو عمل أو مقعد دراسي.. إلخ. كما تصبح المؤسسات -وكما هي اليوم- قلاع محصنة ومقسمة قبليا أو عائليا بحسب قوة وعدد من يعملون في كل قطاع !! إن انتشار هذه التناقضات يقوض القيم المهنية الحقيقية ليتكون نوع من ثقافة العمل الخاصة بمجتمعاتنا الشرقية والتي ربما تكون مسئولة إلى حد كبير عن هذه الفوضى القيمية والإنتاجية التي تلوي عنق كل خطط التنمية المرتقبة ورغم أننا في الحق لا نستطيع أن نغير بعض هذه المفاهيم السائدة وبعض تفسيراتنا الثقافية التي تلوث بيئة العمل إلا أن تشريحنا لها وفهمنا لمصادرها الثقافية قد يساعد على مقاومتها لمواجهة التحديات الكبيرة التي سنتعرض لها في هذا القرن، خاصة ما له علاقة بالإنتاجية الفردية والاجتماعية.
ولعلي ، قبل أن أختم، أن أشرككم معي في مقولة مالك بن نبي عند مناقشته لمشكلة الثقافة والنهضة في المجتمعات الإسلامية قوله: إن الذي ينقص المسلم ليس منطق الفكرة، ولكن منطق العمل والحركة، وهو لا يفكر ليعمل، بل ليقول كلاماً مجرداً، بل إنه أكثر من ذلك يبغض أولئك الذين يفكرون تفكيراً مؤثراً من شأنه أن يتحول في الحال إلى عمل ونشاط.
ومن هنا يأتي عقمنا الاجتماعي، فنحن حالمون ينقصنا المنطق العملي.