محمد الجحدلي
05-12-2008, 12:00 AM
حظيت مدينة ينبع البحر بزيارات لبعض الرحالة الأوروبيين، ودونوا بعضاً من عادات وتقاليد أهل ينبع، وكتبوا وصفاً عن المدينة، بالرغم أن ما دونوه هو انطباعاتهم الشخصية والتي لا تخلو في بعض الأحيان من المبالغات.
وممن زار مدينة ينبع البحر كلا من: جون لويس بركهارت سنة 1230هـ، وموريس تاميزييه سنة 1249هـ، وشارل ديديه سنة 1270هـ. ونستعرض فيما يلي ما دونه كل واحد منهم، مع التنبيه بأنني أوردت جميع ما ذكره كل واحد منهم دون حذف أو نقص، بالرغم أن بعض العبارات تحتاج إلى تعليق عليها.
1- جون لويس بيركهارت: زار ينبع في طريقه إلى مصر سنة 1230هـ وقال عنها:
(( رأينا ينبع عند شروق الشمس، بعد السفر طوال الليل على أرض غير صالحة. وبلغنا بوابة المدينة بعد خمس عشرة ساعة ونصف، وكنا نسير بخطى بطيئة. وقبل بوابة المدينة مباشرة، اجتزنا خوراً صغيراً في الميناء حيث كانت المياه منخفضة لكنها تمتد إلى مسافة كبيرة في مد داخل اليابسة.
لقد لاقيت بعض الصعوبة في إيجاد غرفة في أحد خانات المدينة التي كانت ملأى بالجنود الذين حصلوا على إذن بالعودة إلى القاهرة بعد آخر حملة لهم على الوهابين الجنوبيين، وقد أتوا إلى هنا من جدة ومكة. وكان هناك، فضلاً عنهم، العديد من الحجاج الذين عقدوا النية على الإبحار إلى السويس أو القصير، بعد عودتهم من المدينة. من بين هؤلاء، كانت امرأة محمد علي باشا التي كانت قد وصلت من المدينة؛ وكان هناك أربع سفن تتحضر لنقل حاشيتها ومرافقيها وأمتعتها. وبعد أن أودعت أمتعتي في غرفة مبهجة على سطح أحد الخانات، مشيت نحو الميناء، لأستعلم عن السفر إلى مصر. وسرعان ما علمت أن ذلك كان أمراً مستحيلاً في الوقت الحاضر. فقد أعطيت أوامر صارمة بمنع أيّ كان من الإبحار إلا الجنود الذين كانوا قد حجزوا ثلاث أو أربع سفن جاهزة للانطلاق؛ وكان منهم ما يفوق الألف وخمسمائة جندي، بمن فيهم العديد من الحجاج الأتراك الذين ظنوهم جنوداً لأنهم يحملون السلاح وقد ارتدوا ثياباً مماثلة لثيابهم، لا يزالون ينتظرون وسيلة تؤمن نقلهم.
بينما كنت جالساً في مقهى قرب الميناء، مرت ثلاث جنازات على فترات قصيرة ومتلاحقة. وعند التعبير عن دهشتي أمام هذا الأمر، علمت أن العديد من الناس قد توفوا خلال تلك الأيام القليلة التي انتشرت فيها الحمى. وقد سمعت، حين كنت في بدر، أن حمى خبيثة كانت سائدة في ينبع، لكني لم أعر الخبر اهتماماً كبيراً. ثم رأيت عدة جنازات أخرى فيما تبقى من النهار، إلا أنه لم تكن لديّ أدنى فكرة عن السبب الذي يكمن وراء ذلك العدد الكبير من الوفيات. إلى أن جاء الليل وصعدت إلى غرفتي التي كانت تشرف على جزء كبير من المدينة. وسمعت حينها أصواتاً لا تعد ولا تحصى تتعالى في كل اتجاه في صراخ يفطر القلب، وهو صراخ يرافق النفس الأخير الذي يتلفظ به صديق أو قريب، في أنحاء الشرق كلها. في تلك اللحظة راودتني الفكرة باحتمال وجود الطاعون. وحاولت عبثاً طرد مخاوفي، أو على الأقل إخمادها عبر النوم. لكن الصراخ المروع أبقاني مستيقظاً طوال الليل. وعندما نزلت في الصباح الباكر إلى الخان، حيث كان العديد من العرب يشربون قهوتهم، عبّرت لهم عن مخاوفي؛ لكني ما لبثت أن تلفظت بكلمة طاعون حتى أرسلوا في طلبي يسألونني عما إذا كنت أجهل أن الله قام بنبذ ذلك المرض وإلى الأبد من الأراضي المقدسة في الحجاز؟ إن منطقاً كهذا لا يقبل الجدل أو الجواب بين مسلمين، لذلك فقد خرجت بحثاً عن بعض المسيحيين اليونانيين الذين رأيتهم في الشارع في اليوم السابق، وحصلت منهم على تأكيد لمخاوفي.
فقد انتشر الطاعون منذ عشرة أيام، وقد كان لعدة أشهر يفتك في القاهرة بحدة شديدة، وقد ماتت نسبة كبيرة من السكان في السويس. ونقلت من ذلك المرفأ، سفينتان محملتان بالأقمشة القطنية حمولتيهما إلى جدة، ومنها إلى ينبع. ولم يشهد أحد من قبل الطاعون في الحجاز، أو على الأقل، ليس ما يمكن أن تسترجعه ذاكرة الإنسان. وكان من الصعب على السكان إقناع أنفسهم بوقوع مثل هذا الحدث، خاصة في وقت تم فيه استرجاع المدن المقدسة من أيدي الوهابيين. ولم تكن علاقات التبادل مع مصر بمثل هذا الحجم كما هي الحال الآن، لذلك فليس غريباً أن يتم نقل هذا البلاء إلى الحجاز. وفي حين كان عشرة أو خمسة عشرة شخصاً يموتون كل يوم، لم يستطيع عرب المدينة التصديق بأن الوباء كان هو الطاعون. بالرغم من أن مظهر الصفراء المعتاد على أجسام المصابين وتطور الوباء السريع الذي نادراً ما كان يستغرق أكثر من ثلاثة أو أربعة أيام، كان من شأنه أن يشكل أدلة مقنعة. وازدادت نسبة الوفيات بعد وصولي بخمسة أو ستة أيام، فكان أربعون أو خمسون شخصاً يموتون في يوم واحد. وهي في شعب يقدر عدده بخمسة أو ستة آلاف نسبة فظيعة. وبدا السكان الآن يشعرون بالذعر. وبما أنهم غير مهيئين للخضوع للخطر بصبر وروية كما يفعل الأتراك في كل جزء آخر من الشرق، فقد تدفقت الأغلبية الساحقة منهم إلى الطبيعة، فباتت المدينة مهجورة. لكن الوباء لحق بالمهجرين واللاجئين الذين خيموا قرب بعضهم بعضاً، فعاد الكثير منهم بعد أن عجزوا عن إيجاد حل للمشكلة. وقد برروا فرارهم بالقول: «إن الله يرسل هذا الوباء برحمته ليدعونا إليه، لكننا نعي حقارتنا وندرك أننا لسنا جديرين بنعمه وفضله، لذلك نرى من الأفضل تجنبه والفرار منه»، وهي حجة سمعتها تردد مراراً وتكراراً. ولو أني كنت بصحة جيدة وأتمتع بكامل قواي، لكنت بلا شك لحقت بهم إلى الصحراء، لكني شعرت بالوهن الشديد وعدم القدرة على بذل أي جهد. فضلاً على ذلك فقد فكرت في احتمال هروبي من الوباء بالانغلاق في غرفتي المنعزلة، وبدأت أمني النفس أكثر فأكثر بالآمال في الذهاب إلى مصر سريعاً. غير أني أصبت بخيبة الأمل. ولعلي كنت تمكنت من إيجاد وسيلة للإبحار على الفور عبر تقديم بعض الهدايا وقليل من الرشوة؛ لكن السفن الجاهزة للإبحار كانت الآن مكتظة جداً ومليئة بالجنود المرضى، بحيث إن البقاء في المدينة الملوثة بالوباء كان أفضل من الرحيل في وسيلة النقل تلك. وبعد بضعة أيام، علمت أن مركباً صغيراً مكشوفاً وخالياً من الجند كان جاهزاً للإبحار إلى القصير، فوافقت فوراً على الذهاب على متنه؛ لكن انطلاقه كان يؤجل من يوم إلى يوم حتى الخامس عشر من شهر أيار / مايو، حين غادرت أخيراً ينبع بعد إقامة دامت ثمانية عشر يوماً وسط الطاعون.
لربما كانت حالتي الصحية المتدهورة والحمى الوضيعة التي رزحت تحت وطأتها هي التي أمنت لي الحماية. ففضلاً عن كل رعايتي وحرصي، كنت معرضاً لمرات عديدة لالتقاط العدوى. لقد كان شارع ينبع الكبير مرصوفاً بالمرضى ممن ينازعون الموت ويطلبون الصدقات. وكان هناك عربي يلفظ أنفاسه الأخيرة في فناء الخان حيث كنت أقيم. كما أن سيد الخان فقد أختاً له وابناً من عائلته؛ وروى لي حين جلس على سجادتي، كيف مات ابنه الليلة الفائتة بين ذراعيه. وقد عارضت قلة الحرص لدى خادمي كل الإجراءات التي اتخذتها بدافع الحيطة؛ فبعد أن افتقدته لعدة أيام في الصباح الباكر، استعلمت عن سبب غيابه، فأخبرني أنه ذهب لتقديم يد العون في غسل جثث الموتى. فالفقراء الذين ماتوا خلال الليل، قد عرضوا في الصباح الباكر على النعوش، على شاطئ البحر بغية غسلهم قبل الصلاة على أجسادهم في المسجد، واعتقد خادمي أن الاشتراك في هذه المهمة هو عمل مثاب كان يقوم به عدة زنوج حجاج صدف وجودهم في ينبع. وعبرت له عن رغبتي في بقائه في المنزل من الآن فصاعداً، فنادراً ما يستطيع أحد المرور في السوق من غير أن يمس أناساً مصابين بالمرض أو على الأقل، أولئك الذين كانوا على اتصال مباشر معهم.
يبدو أن الوباء من النوع الأشد إذ أن القليل جداً من المصابين تمكنوا من النجاة منه؛ كما سادت الحالة نفسها جدة. ولم يكن العرب يستعملون أي نوع من الأدوية، فسمعت عن أناس استخدموا الحجامة، وعن آخرين عولجوا عبر وضع لزقة ساحبة على عنقهم؛ غير أن هذه الحالات ظلت نادرة، ولم يقم الناس كلهم باعتمادها وتقليدها. وكما هي العادة يدفن الميت بعد بضع ساعات من الوفاة؛ وقد جرت حادثتان خلال إقامتي في ينبع حين تم دفن شخصين وهما بعد على قيد الحياة، بعد أن ظنوهما ميتين، بسبب الغيبوبة التي وقعا فيها حين اشتد المرض عليهما، والتي اعتبرت موتاً. وقد أعطى أحدهما إشارات تدل على أنه لا يزال حياً، وذلك في اللحظة التي كانوا يضعونه فيها في القبر، فتم إنقاذه. أما جسد الآخر فقد وجد ويداه تغطيهما الدماء وكذلك وجهه وقد مزق الكفن تماماً من جراء الجهود والمحاولات غير المجدية التي بذلها في محاولته النهوض؛ وذلك حين تم فتح قبره بعد عدة أيام من دفنه لوضع جثة قريب له. وعند رؤية ذلك، قال الناس إن الشيطان قام بتشويه جسده بعد أن عجز عن إيذاء روحه.
لقد أولى حاكم ينبع عنايةً وحرصاً كبيرين لإخفاء معدل الوفيات الصحيح في المدينة. لكن هتافات «لا إله إلا الله» الدينية، التي تشير إلى جنازة أحد المسلمين، كانت تتناهي إلى الأذن من كل حيّ وجهة في المدينة. وقد أحصيت منها بنفسي اثنتين وأربعين في يوم وأحد. ويصبح الطاعون بالنسبة إلى الفقير عيداً حقيقياً؛ حيث إن كل عائلة تذبح خروفاً عند وفاة أي واحد من أفرادها، إذا ما كانت قادرة على تحمل النفقات، وتقوم في اليوم التالي باستضافة النساء والرجال في الجوار كله في منزلها. فتدخل النساء إلى الشقق وتعانق كل نساء العائلة وتؤاسيهن، فيعرضن أنفسهن للعدوى في كل لحظة. ويجب أن نعزو الانتشار السريع للطاعون في المدن الإسلامية إلى هذه العادة المتبعة أكثر من أي سبب آخر؛ فما أن يضرب الطاعون عائلة حتى ينتقل بنجاح إلى الجوار كله.
في أحد شوارع ينبع جذع لشجرة نخل ممد على الطريق، لوحظ أن العديد من الناس الذين مروا فوقه ما لبثوا أن أصيبوا بالطاعون، لذلك ساد الظن بأن الشيطان قد أتخذ هناك موقعه المفضل لإصابة المارين. لذلك عمد العرب إلى إتباع طريق فرعية غير مباشرة. وعندما بلغ الطاعون أشده في ينبع، قام العرب بجر ناقة في موكب عبر المدينة وقد غطيت تماماً بكل أنواع الزينة والريش والأجراس، وعندما بلغوا المقبرة نحروها ورموا بلحمها إلى النسور والكلاب. لقد أملوا في أن يسرع الطاعون المنتشر في المدينة ويأوي إلى جسد الجمل، وفي أنهم عبر نحر الضحية، سيتخلصون من الوباء على الفور. وقد سخر العديد من العرب العاقلين من ذلك.
لقد بنيت مدينة ينبع على الجهة الشمالية لخليج عميق يؤمن مكاناً ملائماً لرسو السفن، وتحميه من الرياح العنيفة جزيرة واقعة على مدخله. وترسوا السفن قريباً على الشاطئ، والمرفأ فسيح بما يكفي لاحتواء أكبر أسطول. والمدينة مقسمة إلى قسمين بخور صغير ويدعى القسم الأكبر "ينبع" بشكل حصري، ويحمل الآخر على الجهة الغربية، اسم "القعد" ويسكنه الملاحون بشكل أساسي. ويواجه القسمان البحر، وقد أحاط بهما في الجهات الأخرى جدار مشترك متين جداً، تم بناؤه بإتقان أكبر من ذلك الذي في جدة والطائف والمدينة، وتحميه بروج عديدة. لقد تم تشيده بجهد السكان وعملهم الموحد ليشكل حماية من الوهابين إذ أن الجدار القديم كان مهدماً ويحيط بجزء واحد فقط من المدينة. ويضم الجدار الجديد منطقة تبلغ تقريباً ضعف المساحة التي تشغلها المناطق السكنية، ويبقى بينه وبين تلك الأخيرة مربعات كبيرة مكشوفة، يتم استعمالها كمقابر أو كأمكنة لتخييم القوافل أو لتدريب الجود، أو تترك أرضاً مهجورة. ويتطلب امتداد الحائط ومساحته فرقة كبيرة من الجند لحمايته عند النقاط كلها، والأشخاص المسلحون في ينبع كلهم غير مناسبين لذلك.
لينبع بوابتان باتجاه الشرق والشمال، باب "المدينة" وباب "المصري". وقد بنيت منازل المدينة بشكل أسوأ منه في أيّ مدينة أخرى في الحجاز. فبنيتها خشنة غليظة بحيث إن القليل من الحجارة التي استعملت في بنائها قد صقل سطحها. والحجر كلسي مليء بالثقوب وذو لون أبيض ناصع مما يجعل من منظر المدينة أمراً مزعجاً للنظر. ولأغلب المنازل طابق أرضي فقط. وليس هناك أي صرح كبير في المكان باستثناء ثلاثة أو أربعة مساجد سيئة البناء وبضعة خانات عامة شبه مهدمة ومنزل الحاكم على شاطئ البحر (وهو سيئ البناء).
إن ينبع مدينة عربية كاملة، فالقليل من الأجانب قد أستوطن هنا. ومن الهنود الذين لهم مستعمرات عديدة في مكة وجدة والمدينة، نجد فقط شخصين أو ثلاثة، وهم أصحاب متاجر؛ إذ أن التجار كلهم من العرب باستثناء بعض الأتراك الذين يقيمون هنا أحياناً بشكل مؤقت. وينتمي معظم السكان إلى قبيلة "جهينة" البدوية في هذا الجوار (الذي يمتد شمالاً على طول شاطئ البحر)، وقد أصبح العديد منهم مستوطنين، واختلطت بهم عدة عائلات من الشرفاء الذين هم أصلاً من مكة. ولا يزال المستوطنون في هذه المدينة، أو كما يدعون الينبعاويين، يعيشون ويتزيون كالبدو. فهم يعتمرون "الكفية" أو المنديل الحريري، يربطونها على أجسادهم بحزام جلدي. إن مأكلهم وطريقة عيشهم كلها كمأكل وطريقة عيش البدو، كذلك سلوكهم وعاداتهم. ولكل من الفروع المختلفة لقبيلة "جهينة" المستقرة هنا، شيخها. وهم يتعاركون مع بعضهم بعضاً كما يفعلون لو كانوا يخيمون في الطبيعة، فيتبعون القوانين نفسها في عدائيتهم وثأرهم الدموي كالبدو.
إن المهنة الأساسية لأهل ينبع هي التجارة والملاحة. وتملك المدينة نحو أربعين أو خمسين سفينة مرتبطة بفروع تجارة البحر الأحمر كلها، ويقودها أبناء المدينة أو العبيد. وتتكرر باستمرار الرحلات بين ينبع ومصر. وقد استقر العديد من أهل ينبع في السويس والقصير، وبعضهم استقر في القاهرة وقنا في شمال مصر حيث يتاجرون مع بلدهم الأصلي ويتاجر آخرون مع بدو الحجاز وعلى شواطئ البحر الأحمر حتى "مويلح" ويتبادلون في مخيماتهم المؤن التي تأتي إلى ينبع من مصر، لقاء الماشية والزبدة والعسل، ثم يبيعونها مجدداً عند عودتهم إلى المدينة وبربح كبير.
إن أهل ينبع هم أقل تحضراً من أهل جدة أو مكة، ويتسم سلوكهم بالفظاظة والوحشية أحياناً. لكن من جهة أخرى، فإن تصرفاتهم أكثر تنظيماً، كما أنهم أقل انجرافاً في الرذائل من الأخيرين، وهم يتمتعون عامةً، في أنحاء الحجاز كلها، بكل المميزات التي يُضفيها الاسم المحترم.
وعلى الرغم من عدم وجود أفراد واسعي الثراء في المدينة، إلا أن الجميع يتمتعون بوفرة ويسر أكثر مما يتوفر حتى ممن في مكة. فالعائلات المحترمة كلها في ينبع لها منزل ريفي في الوادي المثمر الخصب المدعو "ينبع النخل" أو "قرا ينبع" أو "ينبع البر" الذي يقع على مسافة ست أو سبع ساعات من هنا، على سفح الجبال في الاتجاه الشمالي الشرقي. وهو يشبه الأودية في الجديدة والظفرة، حيث تنمو أشجار النخيل وتزرع الحقول، وهو يمتد مسيرة سبع ساعات طولاً ويحتوى على ما يفوق الاثنتي عشرة قرية صغيرة منتشرة على جانب الجبل. إن القرية الأساسية هي "سويقة"، وهي المكان الذي تقام عليه السوق، حيث يقيم شيخ قبيلة "جهينة" الجليل والذي يعترف به بدو هذه القبيلة وأهل ينبع كذلك.
يزرع أهل "جهينة" وادي ينبع دون غيرهم، وهم إما مستوطنون ويبقون هنا طوال السنة، وإما يبقون بعض المزارعين في مزارعهم بينما يظلون هم مخيمين في الجبل، فلا يقيمون في الوادي إلا عند قطاف التمر، حيث يذهب كذلك أهل ينبع كلهم الذين يملكون حدائق فيه ويبقون لمدة شهر. ويتم هناك زرع أنواع الفاكهة كلها التي تتزود بها سوق ينبع. وسمعت أن المنازل قد بنيت من الحجر وأن لها مظهراً أفضل من تلك التي في الجديدة. ويعتبر أهل ينبع هذا الوادي كمقر إقامتهم الأصلي الذي يشكل له المدينة والمرفأ مستعمرة. وتمر قافلة الحج المصرية عبر ينبع النخل حيث تذهب إلى بدر في رحلة تستمر ليلة واحدة. لذلك لا تمر أبداً هذه القافلة من مرفأ ينبع بالرغم من أن العديد من الأفراد فيها، يأخذون من "المستورة" الطريق إلى ينبع عند عودتهم من مكة، وذلك للقيام ببعض المعاملات التجارية في المدينة، ثم ينضمون إلى القافلة شمال ينبع على مسافة يوم واحد.
تتعاطى تجارة ينبع بالمؤن بشكل رئيسي، ولا نجد مخازن كبيرة للبضائع هنا، لكن تعرض في المتاجر بعض السلع الهندية والمصرية من الألبسة للبيع. وليس مالكو السفن تجاراً، كما هم في جدة، ولكنهم مجرد ناقلين للبضائع، غير أنهم يستثمرون دائماً أرباحهم في بعض المضاربات التجارية الصغيرة. وتشغل تجارة النقل إلى "المدينة" العديد من الناس، ولتجار هذه المدينة كلها عملاء بين عرب ينبع. وفي زمن السلم، تنطلق القافلة إلى المدينة كل أسبوعين، لكنها كانت مؤخراً ترحل كل شهر فقط بسبب قلة الجمال. وهناك أحياناً عربات برية تتجه إلى جدة ومكة وأحياناً إلى "الوجه" و"مويلح"، وهما المحطتان المحصنتان للقافلة المصرية على البحر الأحمر. إن أهل ينبع هم مهربو بضائع جسورون، فلا تدخل أي سفينة لهم المرفأ من غير أن يتم إرسال جزء كبير من حمولتها على الشاطئ خلسة للتهرب من الضرائب الكبيرة. وتذهب لهذا الغرض إلى المرفأ ليلاً مجموعات من عشرين أو ثلاثين رجلاً وقد تسلحوا جيداً. وهم إذا ما تم اكتشافهم، يقاومون ضباط الجمارك بالقوة غالباً.
إن ضواحي المدينة جرداء قاحلة تماماً، فلا نرى فيها أي أشجار أو خضرة، سواء أكان داخل الجدران أم خارجها. وقد غُطيَ السهل بالرمال خلف أرض الملح، بالقرب من البحر، ويبقى كذلك حتى يبلغ الجبال. ونرى جبلاً شاهقاً إلى الشمال الشرقي حيث تأخذ السلسلة الكبيرة اتجاهاً يميل أكثر إلى الغرب باتجاه بدر. وأعتقد أنه جبل "رضوى" الذي يذكره الجغرافيون العرب أحياناً، والذي يضعه السمهودي على مسافة يوم واحد من ينبع وأربعة أيام من المدينة. وعلى مسافة نحو ساعة واحدة شرقي المدينة، تقع مجموعة آبار للمياه العذبة، وتُدعى "عسيلية"، وقد بنيت لري بعض حقول الشمام (أو البطيخ الأصفر). ويخيم البدو هناك أحياناً. وقد قامت في ذلك الوقت فرقة من الخيالة الأتراك بنصب الخيم قرب تلك الآبار.
في المدينة عدة آبار للمياه المالحة، لكنها تخلو من الخزانات. ويتم التزود بالمياه الصالحة للشرب من بعض الخزانات الكبيرة التي تقع على مسافة خمس دقائق سيراً من بوابة "المدينة"، حيث تُجمع مياه الأمطار. وقد حُفرت أقنية صغيرة عبر السهول المجاورة لتحويل مجرى جداول مياه الأمطار إلى هذه الخزانات. وهي فسيحة ومرصوفة بطريق جيدة تحت الأرض، ويكفي بعضها لتزويد المدينة بأسرها لعدة أسابيع. وهي ملك لعائلات خاصة بناها أسلافها، وهم يبيعون المياه بأسعار معينة يحددها الحاكم الذي يأخذ كذلك منهم ضريبة. والمياه ذات نوعية ممتازة وهي أفضل من أي مياه في أي مدينة أخرى في الحجاز حيث لا يجتهد السكان بما يكفل إنشاء خزانات مماثلة. وحين تتخلف أمطار الشتاء، يعاني سكان ينبع بشدة، ويرغمون على ملء قرباتهم من آبار "عسيلية" البعيدة.
وأهل ينبع كلهم مسلحون على الرغم من أنهم نادراً ما يظهرون ذلك علناً، وهم عادة يحملون هرواة ثقيلة في يدهم. ويحتفظ القليل منهم بالجياد، إلا أن لقبيلة جهينة المستقرة في ينبع النخل سلالة جيدة من جياد نجد، لكن عددها قليل. وتحتفظ كل عائلة بالحمير لإحضار المياه إلى المدينة. كما أننا نحس هنا بقلة الخدم والعمال أكثر مما نحس به في مدن الحجاز الأخرى. فإن أياً من أهل ينبع لن يشترك في أي عمل يدوي إذا ما كان لديه أمل ولو كان ضئيلاً في تأمين لقمة عيشه بوسائل أخرى. إن الفلاحين المصريين الذين تم تركهم هنا على هذا الساحل بعد تأديتهم الحج، والمرغمون على كسب المال لكي يتمكنوا من العودة إلى ديارهم، يعملون حمالين وعمال، فيحضرون الخشب والماء. وقد رأيت أحدهم يدفع ليرة ونصف لأحد الرجال ليحمل له ثقلاً لمسافة خمسمائة ياردة من الشاطئ إلى أحد المنازل.
ينبع هي الأرخص مكاناً في الحجاز فيما يتعلق بالمؤن، وتتوافر فيها المياه الجيدة التي تبدو أكثر منفعة للصحة منها في جدة. وكان يمكن أن تكون الإقامة فيها مقبولة لولا تلك الكمية غير المعقولة من الذباب الذي يكتظ به الساحل. فلا يخرج أحد من منزله دون أن يحمل مروحة في يده لطرد تلك الحشرات، كما أنه من المستحيل تناول الطعام دون ابتلاع بعضها التي تدخل إلى الفم فور فتحه. ونرى سُحُباً منها تمر فوق المدينة، وهي توجد حتى على السفن التي تبحر مبتعدة عن المرفأ، وتبقى على متنها خلال الرحلة كلها)).
....
وممن زار مدينة ينبع البحر كلا من: جون لويس بركهارت سنة 1230هـ، وموريس تاميزييه سنة 1249هـ، وشارل ديديه سنة 1270هـ. ونستعرض فيما يلي ما دونه كل واحد منهم، مع التنبيه بأنني أوردت جميع ما ذكره كل واحد منهم دون حذف أو نقص، بالرغم أن بعض العبارات تحتاج إلى تعليق عليها.
1- جون لويس بيركهارت: زار ينبع في طريقه إلى مصر سنة 1230هـ وقال عنها:
(( رأينا ينبع عند شروق الشمس، بعد السفر طوال الليل على أرض غير صالحة. وبلغنا بوابة المدينة بعد خمس عشرة ساعة ونصف، وكنا نسير بخطى بطيئة. وقبل بوابة المدينة مباشرة، اجتزنا خوراً صغيراً في الميناء حيث كانت المياه منخفضة لكنها تمتد إلى مسافة كبيرة في مد داخل اليابسة.
لقد لاقيت بعض الصعوبة في إيجاد غرفة في أحد خانات المدينة التي كانت ملأى بالجنود الذين حصلوا على إذن بالعودة إلى القاهرة بعد آخر حملة لهم على الوهابين الجنوبيين، وقد أتوا إلى هنا من جدة ومكة. وكان هناك، فضلاً عنهم، العديد من الحجاج الذين عقدوا النية على الإبحار إلى السويس أو القصير، بعد عودتهم من المدينة. من بين هؤلاء، كانت امرأة محمد علي باشا التي كانت قد وصلت من المدينة؛ وكان هناك أربع سفن تتحضر لنقل حاشيتها ومرافقيها وأمتعتها. وبعد أن أودعت أمتعتي في غرفة مبهجة على سطح أحد الخانات، مشيت نحو الميناء، لأستعلم عن السفر إلى مصر. وسرعان ما علمت أن ذلك كان أمراً مستحيلاً في الوقت الحاضر. فقد أعطيت أوامر صارمة بمنع أيّ كان من الإبحار إلا الجنود الذين كانوا قد حجزوا ثلاث أو أربع سفن جاهزة للانطلاق؛ وكان منهم ما يفوق الألف وخمسمائة جندي، بمن فيهم العديد من الحجاج الأتراك الذين ظنوهم جنوداً لأنهم يحملون السلاح وقد ارتدوا ثياباً مماثلة لثيابهم، لا يزالون ينتظرون وسيلة تؤمن نقلهم.
بينما كنت جالساً في مقهى قرب الميناء، مرت ثلاث جنازات على فترات قصيرة ومتلاحقة. وعند التعبير عن دهشتي أمام هذا الأمر، علمت أن العديد من الناس قد توفوا خلال تلك الأيام القليلة التي انتشرت فيها الحمى. وقد سمعت، حين كنت في بدر، أن حمى خبيثة كانت سائدة في ينبع، لكني لم أعر الخبر اهتماماً كبيراً. ثم رأيت عدة جنازات أخرى فيما تبقى من النهار، إلا أنه لم تكن لديّ أدنى فكرة عن السبب الذي يكمن وراء ذلك العدد الكبير من الوفيات. إلى أن جاء الليل وصعدت إلى غرفتي التي كانت تشرف على جزء كبير من المدينة. وسمعت حينها أصواتاً لا تعد ولا تحصى تتعالى في كل اتجاه في صراخ يفطر القلب، وهو صراخ يرافق النفس الأخير الذي يتلفظ به صديق أو قريب، في أنحاء الشرق كلها. في تلك اللحظة راودتني الفكرة باحتمال وجود الطاعون. وحاولت عبثاً طرد مخاوفي، أو على الأقل إخمادها عبر النوم. لكن الصراخ المروع أبقاني مستيقظاً طوال الليل. وعندما نزلت في الصباح الباكر إلى الخان، حيث كان العديد من العرب يشربون قهوتهم، عبّرت لهم عن مخاوفي؛ لكني ما لبثت أن تلفظت بكلمة طاعون حتى أرسلوا في طلبي يسألونني عما إذا كنت أجهل أن الله قام بنبذ ذلك المرض وإلى الأبد من الأراضي المقدسة في الحجاز؟ إن منطقاً كهذا لا يقبل الجدل أو الجواب بين مسلمين، لذلك فقد خرجت بحثاً عن بعض المسيحيين اليونانيين الذين رأيتهم في الشارع في اليوم السابق، وحصلت منهم على تأكيد لمخاوفي.
فقد انتشر الطاعون منذ عشرة أيام، وقد كان لعدة أشهر يفتك في القاهرة بحدة شديدة، وقد ماتت نسبة كبيرة من السكان في السويس. ونقلت من ذلك المرفأ، سفينتان محملتان بالأقمشة القطنية حمولتيهما إلى جدة، ومنها إلى ينبع. ولم يشهد أحد من قبل الطاعون في الحجاز، أو على الأقل، ليس ما يمكن أن تسترجعه ذاكرة الإنسان. وكان من الصعب على السكان إقناع أنفسهم بوقوع مثل هذا الحدث، خاصة في وقت تم فيه استرجاع المدن المقدسة من أيدي الوهابيين. ولم تكن علاقات التبادل مع مصر بمثل هذا الحجم كما هي الحال الآن، لذلك فليس غريباً أن يتم نقل هذا البلاء إلى الحجاز. وفي حين كان عشرة أو خمسة عشرة شخصاً يموتون كل يوم، لم يستطيع عرب المدينة التصديق بأن الوباء كان هو الطاعون. بالرغم من أن مظهر الصفراء المعتاد على أجسام المصابين وتطور الوباء السريع الذي نادراً ما كان يستغرق أكثر من ثلاثة أو أربعة أيام، كان من شأنه أن يشكل أدلة مقنعة. وازدادت نسبة الوفيات بعد وصولي بخمسة أو ستة أيام، فكان أربعون أو خمسون شخصاً يموتون في يوم واحد. وهي في شعب يقدر عدده بخمسة أو ستة آلاف نسبة فظيعة. وبدا السكان الآن يشعرون بالذعر. وبما أنهم غير مهيئين للخضوع للخطر بصبر وروية كما يفعل الأتراك في كل جزء آخر من الشرق، فقد تدفقت الأغلبية الساحقة منهم إلى الطبيعة، فباتت المدينة مهجورة. لكن الوباء لحق بالمهجرين واللاجئين الذين خيموا قرب بعضهم بعضاً، فعاد الكثير منهم بعد أن عجزوا عن إيجاد حل للمشكلة. وقد برروا فرارهم بالقول: «إن الله يرسل هذا الوباء برحمته ليدعونا إليه، لكننا نعي حقارتنا وندرك أننا لسنا جديرين بنعمه وفضله، لذلك نرى من الأفضل تجنبه والفرار منه»، وهي حجة سمعتها تردد مراراً وتكراراً. ولو أني كنت بصحة جيدة وأتمتع بكامل قواي، لكنت بلا شك لحقت بهم إلى الصحراء، لكني شعرت بالوهن الشديد وعدم القدرة على بذل أي جهد. فضلاً على ذلك فقد فكرت في احتمال هروبي من الوباء بالانغلاق في غرفتي المنعزلة، وبدأت أمني النفس أكثر فأكثر بالآمال في الذهاب إلى مصر سريعاً. غير أني أصبت بخيبة الأمل. ولعلي كنت تمكنت من إيجاد وسيلة للإبحار على الفور عبر تقديم بعض الهدايا وقليل من الرشوة؛ لكن السفن الجاهزة للإبحار كانت الآن مكتظة جداً ومليئة بالجنود المرضى، بحيث إن البقاء في المدينة الملوثة بالوباء كان أفضل من الرحيل في وسيلة النقل تلك. وبعد بضعة أيام، علمت أن مركباً صغيراً مكشوفاً وخالياً من الجند كان جاهزاً للإبحار إلى القصير، فوافقت فوراً على الذهاب على متنه؛ لكن انطلاقه كان يؤجل من يوم إلى يوم حتى الخامس عشر من شهر أيار / مايو، حين غادرت أخيراً ينبع بعد إقامة دامت ثمانية عشر يوماً وسط الطاعون.
لربما كانت حالتي الصحية المتدهورة والحمى الوضيعة التي رزحت تحت وطأتها هي التي أمنت لي الحماية. ففضلاً عن كل رعايتي وحرصي، كنت معرضاً لمرات عديدة لالتقاط العدوى. لقد كان شارع ينبع الكبير مرصوفاً بالمرضى ممن ينازعون الموت ويطلبون الصدقات. وكان هناك عربي يلفظ أنفاسه الأخيرة في فناء الخان حيث كنت أقيم. كما أن سيد الخان فقد أختاً له وابناً من عائلته؛ وروى لي حين جلس على سجادتي، كيف مات ابنه الليلة الفائتة بين ذراعيه. وقد عارضت قلة الحرص لدى خادمي كل الإجراءات التي اتخذتها بدافع الحيطة؛ فبعد أن افتقدته لعدة أيام في الصباح الباكر، استعلمت عن سبب غيابه، فأخبرني أنه ذهب لتقديم يد العون في غسل جثث الموتى. فالفقراء الذين ماتوا خلال الليل، قد عرضوا في الصباح الباكر على النعوش، على شاطئ البحر بغية غسلهم قبل الصلاة على أجسادهم في المسجد، واعتقد خادمي أن الاشتراك في هذه المهمة هو عمل مثاب كان يقوم به عدة زنوج حجاج صدف وجودهم في ينبع. وعبرت له عن رغبتي في بقائه في المنزل من الآن فصاعداً، فنادراً ما يستطيع أحد المرور في السوق من غير أن يمس أناساً مصابين بالمرض أو على الأقل، أولئك الذين كانوا على اتصال مباشر معهم.
يبدو أن الوباء من النوع الأشد إذ أن القليل جداً من المصابين تمكنوا من النجاة منه؛ كما سادت الحالة نفسها جدة. ولم يكن العرب يستعملون أي نوع من الأدوية، فسمعت عن أناس استخدموا الحجامة، وعن آخرين عولجوا عبر وضع لزقة ساحبة على عنقهم؛ غير أن هذه الحالات ظلت نادرة، ولم يقم الناس كلهم باعتمادها وتقليدها. وكما هي العادة يدفن الميت بعد بضع ساعات من الوفاة؛ وقد جرت حادثتان خلال إقامتي في ينبع حين تم دفن شخصين وهما بعد على قيد الحياة، بعد أن ظنوهما ميتين، بسبب الغيبوبة التي وقعا فيها حين اشتد المرض عليهما، والتي اعتبرت موتاً. وقد أعطى أحدهما إشارات تدل على أنه لا يزال حياً، وذلك في اللحظة التي كانوا يضعونه فيها في القبر، فتم إنقاذه. أما جسد الآخر فقد وجد ويداه تغطيهما الدماء وكذلك وجهه وقد مزق الكفن تماماً من جراء الجهود والمحاولات غير المجدية التي بذلها في محاولته النهوض؛ وذلك حين تم فتح قبره بعد عدة أيام من دفنه لوضع جثة قريب له. وعند رؤية ذلك، قال الناس إن الشيطان قام بتشويه جسده بعد أن عجز عن إيذاء روحه.
لقد أولى حاكم ينبع عنايةً وحرصاً كبيرين لإخفاء معدل الوفيات الصحيح في المدينة. لكن هتافات «لا إله إلا الله» الدينية، التي تشير إلى جنازة أحد المسلمين، كانت تتناهي إلى الأذن من كل حيّ وجهة في المدينة. وقد أحصيت منها بنفسي اثنتين وأربعين في يوم وأحد. ويصبح الطاعون بالنسبة إلى الفقير عيداً حقيقياً؛ حيث إن كل عائلة تذبح خروفاً عند وفاة أي واحد من أفرادها، إذا ما كانت قادرة على تحمل النفقات، وتقوم في اليوم التالي باستضافة النساء والرجال في الجوار كله في منزلها. فتدخل النساء إلى الشقق وتعانق كل نساء العائلة وتؤاسيهن، فيعرضن أنفسهن للعدوى في كل لحظة. ويجب أن نعزو الانتشار السريع للطاعون في المدن الإسلامية إلى هذه العادة المتبعة أكثر من أي سبب آخر؛ فما أن يضرب الطاعون عائلة حتى ينتقل بنجاح إلى الجوار كله.
في أحد شوارع ينبع جذع لشجرة نخل ممد على الطريق، لوحظ أن العديد من الناس الذين مروا فوقه ما لبثوا أن أصيبوا بالطاعون، لذلك ساد الظن بأن الشيطان قد أتخذ هناك موقعه المفضل لإصابة المارين. لذلك عمد العرب إلى إتباع طريق فرعية غير مباشرة. وعندما بلغ الطاعون أشده في ينبع، قام العرب بجر ناقة في موكب عبر المدينة وقد غطيت تماماً بكل أنواع الزينة والريش والأجراس، وعندما بلغوا المقبرة نحروها ورموا بلحمها إلى النسور والكلاب. لقد أملوا في أن يسرع الطاعون المنتشر في المدينة ويأوي إلى جسد الجمل، وفي أنهم عبر نحر الضحية، سيتخلصون من الوباء على الفور. وقد سخر العديد من العرب العاقلين من ذلك.
لقد بنيت مدينة ينبع على الجهة الشمالية لخليج عميق يؤمن مكاناً ملائماً لرسو السفن، وتحميه من الرياح العنيفة جزيرة واقعة على مدخله. وترسوا السفن قريباً على الشاطئ، والمرفأ فسيح بما يكفي لاحتواء أكبر أسطول. والمدينة مقسمة إلى قسمين بخور صغير ويدعى القسم الأكبر "ينبع" بشكل حصري، ويحمل الآخر على الجهة الغربية، اسم "القعد" ويسكنه الملاحون بشكل أساسي. ويواجه القسمان البحر، وقد أحاط بهما في الجهات الأخرى جدار مشترك متين جداً، تم بناؤه بإتقان أكبر من ذلك الذي في جدة والطائف والمدينة، وتحميه بروج عديدة. لقد تم تشيده بجهد السكان وعملهم الموحد ليشكل حماية من الوهابين إذ أن الجدار القديم كان مهدماً ويحيط بجزء واحد فقط من المدينة. ويضم الجدار الجديد منطقة تبلغ تقريباً ضعف المساحة التي تشغلها المناطق السكنية، ويبقى بينه وبين تلك الأخيرة مربعات كبيرة مكشوفة، يتم استعمالها كمقابر أو كأمكنة لتخييم القوافل أو لتدريب الجود، أو تترك أرضاً مهجورة. ويتطلب امتداد الحائط ومساحته فرقة كبيرة من الجند لحمايته عند النقاط كلها، والأشخاص المسلحون في ينبع كلهم غير مناسبين لذلك.
لينبع بوابتان باتجاه الشرق والشمال، باب "المدينة" وباب "المصري". وقد بنيت منازل المدينة بشكل أسوأ منه في أيّ مدينة أخرى في الحجاز. فبنيتها خشنة غليظة بحيث إن القليل من الحجارة التي استعملت في بنائها قد صقل سطحها. والحجر كلسي مليء بالثقوب وذو لون أبيض ناصع مما يجعل من منظر المدينة أمراً مزعجاً للنظر. ولأغلب المنازل طابق أرضي فقط. وليس هناك أي صرح كبير في المكان باستثناء ثلاثة أو أربعة مساجد سيئة البناء وبضعة خانات عامة شبه مهدمة ومنزل الحاكم على شاطئ البحر (وهو سيئ البناء).
إن ينبع مدينة عربية كاملة، فالقليل من الأجانب قد أستوطن هنا. ومن الهنود الذين لهم مستعمرات عديدة في مكة وجدة والمدينة، نجد فقط شخصين أو ثلاثة، وهم أصحاب متاجر؛ إذ أن التجار كلهم من العرب باستثناء بعض الأتراك الذين يقيمون هنا أحياناً بشكل مؤقت. وينتمي معظم السكان إلى قبيلة "جهينة" البدوية في هذا الجوار (الذي يمتد شمالاً على طول شاطئ البحر)، وقد أصبح العديد منهم مستوطنين، واختلطت بهم عدة عائلات من الشرفاء الذين هم أصلاً من مكة. ولا يزال المستوطنون في هذه المدينة، أو كما يدعون الينبعاويين، يعيشون ويتزيون كالبدو. فهم يعتمرون "الكفية" أو المنديل الحريري، يربطونها على أجسادهم بحزام جلدي. إن مأكلهم وطريقة عيشهم كلها كمأكل وطريقة عيش البدو، كذلك سلوكهم وعاداتهم. ولكل من الفروع المختلفة لقبيلة "جهينة" المستقرة هنا، شيخها. وهم يتعاركون مع بعضهم بعضاً كما يفعلون لو كانوا يخيمون في الطبيعة، فيتبعون القوانين نفسها في عدائيتهم وثأرهم الدموي كالبدو.
إن المهنة الأساسية لأهل ينبع هي التجارة والملاحة. وتملك المدينة نحو أربعين أو خمسين سفينة مرتبطة بفروع تجارة البحر الأحمر كلها، ويقودها أبناء المدينة أو العبيد. وتتكرر باستمرار الرحلات بين ينبع ومصر. وقد استقر العديد من أهل ينبع في السويس والقصير، وبعضهم استقر في القاهرة وقنا في شمال مصر حيث يتاجرون مع بلدهم الأصلي ويتاجر آخرون مع بدو الحجاز وعلى شواطئ البحر الأحمر حتى "مويلح" ويتبادلون في مخيماتهم المؤن التي تأتي إلى ينبع من مصر، لقاء الماشية والزبدة والعسل، ثم يبيعونها مجدداً عند عودتهم إلى المدينة وبربح كبير.
إن أهل ينبع هم أقل تحضراً من أهل جدة أو مكة، ويتسم سلوكهم بالفظاظة والوحشية أحياناً. لكن من جهة أخرى، فإن تصرفاتهم أكثر تنظيماً، كما أنهم أقل انجرافاً في الرذائل من الأخيرين، وهم يتمتعون عامةً، في أنحاء الحجاز كلها، بكل المميزات التي يُضفيها الاسم المحترم.
وعلى الرغم من عدم وجود أفراد واسعي الثراء في المدينة، إلا أن الجميع يتمتعون بوفرة ويسر أكثر مما يتوفر حتى ممن في مكة. فالعائلات المحترمة كلها في ينبع لها منزل ريفي في الوادي المثمر الخصب المدعو "ينبع النخل" أو "قرا ينبع" أو "ينبع البر" الذي يقع على مسافة ست أو سبع ساعات من هنا، على سفح الجبال في الاتجاه الشمالي الشرقي. وهو يشبه الأودية في الجديدة والظفرة، حيث تنمو أشجار النخيل وتزرع الحقول، وهو يمتد مسيرة سبع ساعات طولاً ويحتوى على ما يفوق الاثنتي عشرة قرية صغيرة منتشرة على جانب الجبل. إن القرية الأساسية هي "سويقة"، وهي المكان الذي تقام عليه السوق، حيث يقيم شيخ قبيلة "جهينة" الجليل والذي يعترف به بدو هذه القبيلة وأهل ينبع كذلك.
يزرع أهل "جهينة" وادي ينبع دون غيرهم، وهم إما مستوطنون ويبقون هنا طوال السنة، وإما يبقون بعض المزارعين في مزارعهم بينما يظلون هم مخيمين في الجبل، فلا يقيمون في الوادي إلا عند قطاف التمر، حيث يذهب كذلك أهل ينبع كلهم الذين يملكون حدائق فيه ويبقون لمدة شهر. ويتم هناك زرع أنواع الفاكهة كلها التي تتزود بها سوق ينبع. وسمعت أن المنازل قد بنيت من الحجر وأن لها مظهراً أفضل من تلك التي في الجديدة. ويعتبر أهل ينبع هذا الوادي كمقر إقامتهم الأصلي الذي يشكل له المدينة والمرفأ مستعمرة. وتمر قافلة الحج المصرية عبر ينبع النخل حيث تذهب إلى بدر في رحلة تستمر ليلة واحدة. لذلك لا تمر أبداً هذه القافلة من مرفأ ينبع بالرغم من أن العديد من الأفراد فيها، يأخذون من "المستورة" الطريق إلى ينبع عند عودتهم من مكة، وذلك للقيام ببعض المعاملات التجارية في المدينة، ثم ينضمون إلى القافلة شمال ينبع على مسافة يوم واحد.
تتعاطى تجارة ينبع بالمؤن بشكل رئيسي، ولا نجد مخازن كبيرة للبضائع هنا، لكن تعرض في المتاجر بعض السلع الهندية والمصرية من الألبسة للبيع. وليس مالكو السفن تجاراً، كما هم في جدة، ولكنهم مجرد ناقلين للبضائع، غير أنهم يستثمرون دائماً أرباحهم في بعض المضاربات التجارية الصغيرة. وتشغل تجارة النقل إلى "المدينة" العديد من الناس، ولتجار هذه المدينة كلها عملاء بين عرب ينبع. وفي زمن السلم، تنطلق القافلة إلى المدينة كل أسبوعين، لكنها كانت مؤخراً ترحل كل شهر فقط بسبب قلة الجمال. وهناك أحياناً عربات برية تتجه إلى جدة ومكة وأحياناً إلى "الوجه" و"مويلح"، وهما المحطتان المحصنتان للقافلة المصرية على البحر الأحمر. إن أهل ينبع هم مهربو بضائع جسورون، فلا تدخل أي سفينة لهم المرفأ من غير أن يتم إرسال جزء كبير من حمولتها على الشاطئ خلسة للتهرب من الضرائب الكبيرة. وتذهب لهذا الغرض إلى المرفأ ليلاً مجموعات من عشرين أو ثلاثين رجلاً وقد تسلحوا جيداً. وهم إذا ما تم اكتشافهم، يقاومون ضباط الجمارك بالقوة غالباً.
إن ضواحي المدينة جرداء قاحلة تماماً، فلا نرى فيها أي أشجار أو خضرة، سواء أكان داخل الجدران أم خارجها. وقد غُطيَ السهل بالرمال خلف أرض الملح، بالقرب من البحر، ويبقى كذلك حتى يبلغ الجبال. ونرى جبلاً شاهقاً إلى الشمال الشرقي حيث تأخذ السلسلة الكبيرة اتجاهاً يميل أكثر إلى الغرب باتجاه بدر. وأعتقد أنه جبل "رضوى" الذي يذكره الجغرافيون العرب أحياناً، والذي يضعه السمهودي على مسافة يوم واحد من ينبع وأربعة أيام من المدينة. وعلى مسافة نحو ساعة واحدة شرقي المدينة، تقع مجموعة آبار للمياه العذبة، وتُدعى "عسيلية"، وقد بنيت لري بعض حقول الشمام (أو البطيخ الأصفر). ويخيم البدو هناك أحياناً. وقد قامت في ذلك الوقت فرقة من الخيالة الأتراك بنصب الخيم قرب تلك الآبار.
في المدينة عدة آبار للمياه المالحة، لكنها تخلو من الخزانات. ويتم التزود بالمياه الصالحة للشرب من بعض الخزانات الكبيرة التي تقع على مسافة خمس دقائق سيراً من بوابة "المدينة"، حيث تُجمع مياه الأمطار. وقد حُفرت أقنية صغيرة عبر السهول المجاورة لتحويل مجرى جداول مياه الأمطار إلى هذه الخزانات. وهي فسيحة ومرصوفة بطريق جيدة تحت الأرض، ويكفي بعضها لتزويد المدينة بأسرها لعدة أسابيع. وهي ملك لعائلات خاصة بناها أسلافها، وهم يبيعون المياه بأسعار معينة يحددها الحاكم الذي يأخذ كذلك منهم ضريبة. والمياه ذات نوعية ممتازة وهي أفضل من أي مياه في أي مدينة أخرى في الحجاز حيث لا يجتهد السكان بما يكفل إنشاء خزانات مماثلة. وحين تتخلف أمطار الشتاء، يعاني سكان ينبع بشدة، ويرغمون على ملء قرباتهم من آبار "عسيلية" البعيدة.
وأهل ينبع كلهم مسلحون على الرغم من أنهم نادراً ما يظهرون ذلك علناً، وهم عادة يحملون هرواة ثقيلة في يدهم. ويحتفظ القليل منهم بالجياد، إلا أن لقبيلة جهينة المستقرة في ينبع النخل سلالة جيدة من جياد نجد، لكن عددها قليل. وتحتفظ كل عائلة بالحمير لإحضار المياه إلى المدينة. كما أننا نحس هنا بقلة الخدم والعمال أكثر مما نحس به في مدن الحجاز الأخرى. فإن أياً من أهل ينبع لن يشترك في أي عمل يدوي إذا ما كان لديه أمل ولو كان ضئيلاً في تأمين لقمة عيشه بوسائل أخرى. إن الفلاحين المصريين الذين تم تركهم هنا على هذا الساحل بعد تأديتهم الحج، والمرغمون على كسب المال لكي يتمكنوا من العودة إلى ديارهم، يعملون حمالين وعمال، فيحضرون الخشب والماء. وقد رأيت أحدهم يدفع ليرة ونصف لأحد الرجال ليحمل له ثقلاً لمسافة خمسمائة ياردة من الشاطئ إلى أحد المنازل.
ينبع هي الأرخص مكاناً في الحجاز فيما يتعلق بالمؤن، وتتوافر فيها المياه الجيدة التي تبدو أكثر منفعة للصحة منها في جدة. وكان يمكن أن تكون الإقامة فيها مقبولة لولا تلك الكمية غير المعقولة من الذباب الذي يكتظ به الساحل. فلا يخرج أحد من منزله دون أن يحمل مروحة في يده لطرد تلك الحشرات، كما أنه من المستحيل تناول الطعام دون ابتلاع بعضها التي تدخل إلى الفم فور فتحه. ونرى سُحُباً منها تمر فوق المدينة، وهي توجد حتى على السفن التي تبحر مبتعدة عن المرفأ، وتبقى على متنها خلال الرحلة كلها)).
....