قلم حر
11-03-2008, 06:30 PM
صديق الحقيقة وفاضح الشعارات
علي بن طلال الجهني الحياة - 11/03/08//
كان الأخ أحمد العبدالله الربعي أستاذاً جامعياً وكان برلمانياً وكان عضواً في مجلس الوزراء الكويتي، ولكنه كان قبل ذلك كله وبعده أبلغ مدافع عن القضية الفلسطينية. وكان أحقر الناس في نظره هم المتاجرون بالقضية الفلسطينية، سواء أكانوا فلسطينيين أم غير فلسطينيين. وسواءً ألبسوا خطابهم شعارات قومية غوغائية أم دينية من الذين لم يكتشفوا فرص الكسب السياسي عن طريق فلسطين إلا منذ احتلال السوفيات لأفغانستان.
وقد سألته قبل سنوات لماذا دَرَسَ، وفي ما بعد دَرّس، الفلسفة الإسلامية؟ وكان جوابه يتلخص في ما معناه، لأن السياسة، منذ أيام «الفتنة الكبرى» اختطفت سماحة الإسلام وقسمته إلى طوائف سياسية تكتسي بثياب دينية وكان، رحمه الله يقول، إن جوهر الفلسفة الإسلامية، هو علاقتها الوثيقة بالعلم المجرد وتحكيم العقل.
وحينما كنا سوياً في بوسطن في عام 2006 بعد إجراء الجراحة الأولى لاستئصال الورم الخبيث من دماغه المشحون بالمعرفة وهموم الأمة، وبحضور أسرته وأسرتي، في ليلة سعيدة، نوعاً ما، كان يتحدث، رحمه الله، وكأنه أجرى جراحة لاستئصال ورم حميد من إبهامه.
رحمك الله يا أبا قتيبة وأسكنك فسيح جناته. لقد عشت حياة أقصر من أن يتعرف عليك معرفة شخصية الحد الأدنى من الآلاف الذين كانوا يتمنون معرفتك عن قرب. ومع ذلك فإن حياتك كانت مليئة بالإنجازات ومحبة الأهل وآلاف الأصدقاء. وهذا أفضل عزاء لزوجتك الفاضلة وأبنائك وذويك.
لقد عرفت ذلك الرجل الوفي معرفة سطحية منذ سنوات، غير أن المرض المشترك وثق العلاقة ليس بيني وبينه فحسب وإنما أيضاً بين أسرتينا. وفي آخر مرة رأيته رحمه الله، اقترح عليَّ وبجدية فتح مكتب لتوزيع المعلومات الصحيحة عن السرطان، أي المعلومات الخالية من الخرافات والروايات الفردية التي لا تفرق بين حدوث شيئين معاً قـد تـكون العلاقـة بـيـنهما اعتبـاطية ومن محض الصدف. وقد سمع الفقيد، كما سمعت قبله منذ إصابتي بالمرض الشرير، قبل نحو إحدى عشرة سنة، من يقسمون الإيمان المغلظة، بأنه لو بلع هذه العشبة أو تلك أو تناول عسلاً معيناً أو حليباً معيناً، لشفي من المرض، من دون جراحة ومن دون علاج كيماوي له آثار سلبية.
بالطبع لم أفتح مكتباً لأنني لست طبيباً متخصصاً في السرطان. والذي أراد قوله، رحمه الله، بأنه ليس كل من يعرف يستطيع إيصال المعرفة.
وقد نُشرت أخيراً دراسات من جهات أكاديمية، لا أعلم شخصياً عن مدى دقتها العلمية، بأن أبوال الإبل، تحتوي على نسبة صغيرة جداً من مضادات «التسرطن» - أي مقاومة تحول الخلايا العادية إلى سرطانية. ولكن حتى لو تأكدت هذه الدراسات، فإن ذلك لا يعني أن أبوال الإبل أو حليب أبكارها سيحول خلايا سرطانية إلى خلايا حميدة. ففيتامين (D) والتفاح والعنب الأحمر والبرتقال والطماطم المطبوخ وبقية الفواكه والخضار تقاوم «التسرطن» ولكنها لا تشفي، بحد ذاتها، من السرطان، بعد التأكد من الإصابة به.
وللأسف الشديد فإن العلاجات الكيماوية والإشعاعية والجراحية، هي أفضل وسائل العلاج، في الوقت الحاضر. والى هذه اللحظة لم يُكتشفْ ويجرب إلا علاج واحد، يحدث مفعوله بإعاقة سهولة الاتصال بين الخلايا السرطانية ومصدر الاتصال الموجّه لبقية خلايا الجسم. وهذا الدواء اثبت فاعلية جيدة في بعض الأحيان، وليس كلها، في عدد محدد من أنواع سرطان الدم الكثيرة.
وما كنت سأكتب شيئاً عن السرطان وعلاجه، في هذه المناسبة الحزينة، لولا أن هذا ما تمناه عليَّ الصديق الغالي إذا سبق أجله أجلي، في آخر مرة رأيته فيها بعد أن أخذني إلى أفضل مكان لبيع الكتب الجادة في مدينة بوسطن، «روز روزير» العلم والطب.
ما أحرّ فراقك يا أبا قتيبة. ولقد فقدت مدينة بوسطن وكل مدينة فيها جامعة مميزة شيئاً من جاذبيتها وسحرها بفقدك. وكل صديق عرفك فقد رجلاً صلباً في الدفاع عما يؤمن به، عفيفاً في صداقته كما كان عفيفاً في خصومته.
يا شريكة حياة أحمد الربعي الإنسان، ويا حفيدة «المنديل باشة»، أنت أكثر الأحياء حزناً ولوعة على فراق من أحببته وأحبك. وإذا كان هناك من كلمة عزاء، يستطيع صديقٌ محبٌ معجبٌ بأحمد الربعي الرجل الصادق الصريح، لأم قتيبة وأولادها، هو أن أحمد بن عبدالله الربعي، ليس فقيدكم وفقيد الكويت فحسب، وإنما فقيد القضية الفلسطينية الصادق لا المُتكسبْ، وفقيد الآلاف من المفكرين في كل مكان في العالم ومن عامة الناس من أبناء دول الخليج العربية كافة.
ولا أرجح أن هناك إنساناً سوياً، عربياً، أو غير عربي عرف الدكتور أحمد الربعي ولم يحبه، سواء اتفق معه أم اختلف. وبالنسبة إلينا نحن أبناء الجزيرة العربية والخليج كيف لا نحب رجلاً كان صادقاً شفافاً أنيساً، حفظ آلاف الأبيات من الشعر الفصيح، وآلاف الأبيات من عيون الشعر النبطي أو المحكي، القديم والحديث، وفي الوقت ذاته، كان محباً لكل من عرف، وأحبه كل من عرفه، كما وقعت محبته في قلوب الآلاف ممن سمعوه أياً كان موضوع الحديث.
والله من وراء القصد.
علي بن طلال الجهني
أكاديمي سعودي
علي بن طلال الجهني الحياة - 11/03/08//
كان الأخ أحمد العبدالله الربعي أستاذاً جامعياً وكان برلمانياً وكان عضواً في مجلس الوزراء الكويتي، ولكنه كان قبل ذلك كله وبعده أبلغ مدافع عن القضية الفلسطينية. وكان أحقر الناس في نظره هم المتاجرون بالقضية الفلسطينية، سواء أكانوا فلسطينيين أم غير فلسطينيين. وسواءً ألبسوا خطابهم شعارات قومية غوغائية أم دينية من الذين لم يكتشفوا فرص الكسب السياسي عن طريق فلسطين إلا منذ احتلال السوفيات لأفغانستان.
وقد سألته قبل سنوات لماذا دَرَسَ، وفي ما بعد دَرّس، الفلسفة الإسلامية؟ وكان جوابه يتلخص في ما معناه، لأن السياسة، منذ أيام «الفتنة الكبرى» اختطفت سماحة الإسلام وقسمته إلى طوائف سياسية تكتسي بثياب دينية وكان، رحمه الله يقول، إن جوهر الفلسفة الإسلامية، هو علاقتها الوثيقة بالعلم المجرد وتحكيم العقل.
وحينما كنا سوياً في بوسطن في عام 2006 بعد إجراء الجراحة الأولى لاستئصال الورم الخبيث من دماغه المشحون بالمعرفة وهموم الأمة، وبحضور أسرته وأسرتي، في ليلة سعيدة، نوعاً ما، كان يتحدث، رحمه الله، وكأنه أجرى جراحة لاستئصال ورم حميد من إبهامه.
رحمك الله يا أبا قتيبة وأسكنك فسيح جناته. لقد عشت حياة أقصر من أن يتعرف عليك معرفة شخصية الحد الأدنى من الآلاف الذين كانوا يتمنون معرفتك عن قرب. ومع ذلك فإن حياتك كانت مليئة بالإنجازات ومحبة الأهل وآلاف الأصدقاء. وهذا أفضل عزاء لزوجتك الفاضلة وأبنائك وذويك.
لقد عرفت ذلك الرجل الوفي معرفة سطحية منذ سنوات، غير أن المرض المشترك وثق العلاقة ليس بيني وبينه فحسب وإنما أيضاً بين أسرتينا. وفي آخر مرة رأيته رحمه الله، اقترح عليَّ وبجدية فتح مكتب لتوزيع المعلومات الصحيحة عن السرطان، أي المعلومات الخالية من الخرافات والروايات الفردية التي لا تفرق بين حدوث شيئين معاً قـد تـكون العلاقـة بـيـنهما اعتبـاطية ومن محض الصدف. وقد سمع الفقيد، كما سمعت قبله منذ إصابتي بالمرض الشرير، قبل نحو إحدى عشرة سنة، من يقسمون الإيمان المغلظة، بأنه لو بلع هذه العشبة أو تلك أو تناول عسلاً معيناً أو حليباً معيناً، لشفي من المرض، من دون جراحة ومن دون علاج كيماوي له آثار سلبية.
بالطبع لم أفتح مكتباً لأنني لست طبيباً متخصصاً في السرطان. والذي أراد قوله، رحمه الله، بأنه ليس كل من يعرف يستطيع إيصال المعرفة.
وقد نُشرت أخيراً دراسات من جهات أكاديمية، لا أعلم شخصياً عن مدى دقتها العلمية، بأن أبوال الإبل، تحتوي على نسبة صغيرة جداً من مضادات «التسرطن» - أي مقاومة تحول الخلايا العادية إلى سرطانية. ولكن حتى لو تأكدت هذه الدراسات، فإن ذلك لا يعني أن أبوال الإبل أو حليب أبكارها سيحول خلايا سرطانية إلى خلايا حميدة. ففيتامين (D) والتفاح والعنب الأحمر والبرتقال والطماطم المطبوخ وبقية الفواكه والخضار تقاوم «التسرطن» ولكنها لا تشفي، بحد ذاتها، من السرطان، بعد التأكد من الإصابة به.
وللأسف الشديد فإن العلاجات الكيماوية والإشعاعية والجراحية، هي أفضل وسائل العلاج، في الوقت الحاضر. والى هذه اللحظة لم يُكتشفْ ويجرب إلا علاج واحد، يحدث مفعوله بإعاقة سهولة الاتصال بين الخلايا السرطانية ومصدر الاتصال الموجّه لبقية خلايا الجسم. وهذا الدواء اثبت فاعلية جيدة في بعض الأحيان، وليس كلها، في عدد محدد من أنواع سرطان الدم الكثيرة.
وما كنت سأكتب شيئاً عن السرطان وعلاجه، في هذه المناسبة الحزينة، لولا أن هذا ما تمناه عليَّ الصديق الغالي إذا سبق أجله أجلي، في آخر مرة رأيته فيها بعد أن أخذني إلى أفضل مكان لبيع الكتب الجادة في مدينة بوسطن، «روز روزير» العلم والطب.
ما أحرّ فراقك يا أبا قتيبة. ولقد فقدت مدينة بوسطن وكل مدينة فيها جامعة مميزة شيئاً من جاذبيتها وسحرها بفقدك. وكل صديق عرفك فقد رجلاً صلباً في الدفاع عما يؤمن به، عفيفاً في صداقته كما كان عفيفاً في خصومته.
يا شريكة حياة أحمد الربعي الإنسان، ويا حفيدة «المنديل باشة»، أنت أكثر الأحياء حزناً ولوعة على فراق من أحببته وأحبك. وإذا كان هناك من كلمة عزاء، يستطيع صديقٌ محبٌ معجبٌ بأحمد الربعي الرجل الصادق الصريح، لأم قتيبة وأولادها، هو أن أحمد بن عبدالله الربعي، ليس فقيدكم وفقيد الكويت فحسب، وإنما فقيد القضية الفلسطينية الصادق لا المُتكسبْ، وفقيد الآلاف من المفكرين في كل مكان في العالم ومن عامة الناس من أبناء دول الخليج العربية كافة.
ولا أرجح أن هناك إنساناً سوياً، عربياً، أو غير عربي عرف الدكتور أحمد الربعي ولم يحبه، سواء اتفق معه أم اختلف. وبالنسبة إلينا نحن أبناء الجزيرة العربية والخليج كيف لا نحب رجلاً كان صادقاً شفافاً أنيساً، حفظ آلاف الأبيات من الشعر الفصيح، وآلاف الأبيات من عيون الشعر النبطي أو المحكي، القديم والحديث، وفي الوقت ذاته، كان محباً لكل من عرف، وأحبه كل من عرفه، كما وقعت محبته في قلوب الآلاف ممن سمعوه أياً كان موضوع الحديث.
والله من وراء القصد.
علي بن طلال الجهني
أكاديمي سعودي