نهر الدموع
10-12-2007, 09:26 AM
التربية ورقع الخروق
سليمان العبودي
التربية ذلك الثوب الفضفاض، الذي ضم بين عطفيه على مر العصور؛ قدرًا هائلاً من القيم والأفكار، والمبادئ والشخصيات، والكتب والتعريفات، وما أن تمسك بطرف الثوب وتهزه هزًا عنيفًا حتى ترى أكوامًا هائلة تتهاوى، وأصنامًا مقدسة تتطاير، فهو قصر مشيد كثر على أعتابه المتمسحون، وقلعة شامخة غير حصينة فتحت أبوابها للمدّعين، فتبصر في مضمار التربية جموعًا حاشدة، وأرقامًا مذهلة، وما أن تمعن النظر وترجعه كرتين، إلا وينقلب إليك البصر خاسئًا وهو حسير.
ما أنا ممن يدعي الوصول أو يبتغي الكمال، أو يصطاد في الماء العكر، فكل ما أطمح إليه في هذا المقال؛ لفت الأنظار، وتنبيه الممارسين "في المحاضن التربوية المتنوعة في الطرق والأساليب، والمتحدة في الإسناد إلى المنهج الرباني" من خلال عدة نقاط:
وجزء منها تبلور نتيجة المرحلة العصيبة التي نعيشها، والتي من أبرز ملامحها التغير والتغيير الذي أدار رحاه على المجتمع بأسره، وأحدث هزات عنيفة، وخنادق عميقة، ومفاهيم خاطئة تستعد للرحيل، ولم يستطع كثير من العاملين في حقل التربية في بعض الأوساط استيعاب التغير، فجاءت ممارساتهم وأطروحاتهم ضعيفة مهلهلة؛ لأنها في الغالب خليط بين عجز عن فهم الواقع، وتمسّك مرير برؤى الماضي.
إن إحياء نوازع النفس الخيرة ورفع مستوى الذوق الذاتي في نفوس المتلقين، ومخاطبة عقولهم، وامتلاك أدوات الحوار معهم، وفتح بابه، بل ودفع الناشئة إليه دفعًا، من أخص خصائص النجاح في واقعنا المعيش، فقد أضحت المراقبة التقليدية المباشرة من مخلفات عصر مضى.. لم يعد يُحتمل مع الانفتاح الإعلامي الهائل، والتواصل الكوني المثير؛ تثبيت أبصار المتلقين على مناطق محددة، وعلى شخصيات معينة، ومنعهم من التلفّت ذات اليمين وذات الشمال، ولئن كان المتلقي العادي في السابق يسمع طرحًا واحدًا فقط، أو على الأدق لا يشدّ ناظريه إلا طرح واحد؛ هو الطرح السائد في المجتمع، وهو الذي يحظى بالتأييد من كافة شرائحه، ويُسمع صداه في كل جهاته، أصبح اليوم يسمع أصواتًا كثيرة، أصداؤها متقاربة، ويبصر أطيافًا عديدة، ألوانها متنافسة، ولكل منها مشاريعه ورؤاه وأساليبه ورواده.
(إن مجرد الإيمان والاعتراف بتعدد المؤثرات في المجتمع، سيصنع منا بشكل مذهل مربين ذوي كفاءات راقية، وقدرات عالية، وطروحات مناسبة ومنسابة في عقول الناشئة).
إن من يحمل بين جنبيه ديناً سماويًا، ويقتفي في خطاه منهجًا نبويًا، فقد ضمن لمشروعه السيرورة والانتشار، والغلبة والتمكن، فمن السذاجة أن يفرض على نفسه سياجًا يمنع ويحد من اتساعه، فلا يدفعكم الخوف على الدين؛ إلى إقصائه ووضعه في دهاليز مغلقة، ولا يدفعكم الشعور بالمسؤولية الزائدة عن رؤاكم وتصوراتكم البشرية؛ إلى الانكفاء على الذات، والعزلة عن مجتمعكم، أنتم -شئتم أم أبيتم- جزء لا يتجزأ من هذا العالم المتفاعل، ورقم صعب يحسب لكم أعداؤكم ألف حساب، وخير هدية تقدمونها لهم هي التقزّم والانزواء؛ فلا تحرموا مجتمعاتكم من عطائكم، فتجعلوه محصورًا في فئة معينة، وأماكن محددة، بل مدوا الجسور مع كافة شرائح المجتمع، بأطيافه المتعددة والمتفاوتة، وللتفاعل خاصية المراجعة والتحديث، ولئن لم تتفاعلوا بشروطكم ورؤاكم لربما اضطررتم في يوم ما أن تلبسوا عباءة لا ترتضونها، وتتبنوا رؤى لا تقبلونها.
المرحلة المعيشة ما هي إلا إرهاص لمرحلة قادمة مثيرة، ونحن لا نرى إلا قمة جبل الجليد كما يُقال، فمن الكياسة والنجابة تحديث عدد من المفاهيم، ومنها مفهوم الأصدقاء والأعداء، وتحديدهم على نحو واضح، وتكثيف الأول وتقليص الثاني، فلسنا بحاجة إلى كسب عداوات جديدة، ولسنا بحاجة إلى أن نلتفت يمينًا وشمالاً، ونوزع البطاقات الحمراء مع كل من نختلف معه، في رأي أو مسألة صغيرة كانت أو كبيرة، وأذكر مقولة جميلة قرأتها قبل سنوات: "إن الإيمان الحق يدعوك أن تفرح كلما رأيت من يضع لبنة في البناء أيا كان انتماؤه".
لقد أُنهكنا بصراعاتنا مع أنفسنا، وتألمنا من الضرب بسوطنا، وقوضنا بنياننا بأيدينا، وإن من الخيانة لأنفسنا أن نقحم الناشئة ومن تحت أيدينا إلى حمأة الصراع، وبؤر التوتر، وأن تُحوّل بعض التجمعات من محاضن تُبنى فيها الشخصية المسلمة، إلى مطاحن تخرج خبراء التصنيف والردود، مما يساهم في حرق المواهب واستنـزافها فيما لا طائل من ورائه.
فلنفتح صفحة جديدة بيضاء مسالمة مع إخواننا تنعكس بشكل واضح على خطابنا وبرامجنا، وترسم البسمة على شفاه متلقينا، ونفهم ناشئتنا أننا نستطيع أن نتعايش مع إخواننا المختلفين معنا في بعض الجزئيات، ونرسم نحن وإياهم خطوطاً متوازية كلها تصل ولا تتقاطع.
كما أنه ليس بعالم من يعتقد أنه حصّل العلم كله، فإنه كذلك ليس بناضج من اعتقد أنه وصل إلى قمة النضج، فالإنسان مادام حيًّا فهو مع الوقت يكتسب خبرات جديدة وحقائق غائبة، فمن الذكاء جعل رؤانا وتصوراتنا مفتوحة وقابلة للأخذ والرد، والحذف والإضافة، ويُروى في هذا الصدد أن الإمام مالك كان يقول بعد أن يفتي: "إن نظن إلا ظنًا وما نحن بمستيقنين"، وقد كان الإمام الشافعي يدرك هذا فيقول: "مذهبي صواب يحتمل الخطأ، ومذهب غيري خطأ يحتمل الصواب"، فلنجعل لأنفسنا خطوطًا للرجعة، حتى لا تصبح أقوالنا ومواقفنا كلاليب تمسك بخناقنا عن المراجعة والتراجع.
ومن الحكمة أن نقلص مقدار المنطقة الحمراء التي بالغنا في بعض المراحل في وضع حدودها، فكل شيء قابل للنقاش والتعديل، مادام لا يتعارض مع الأصلين، الكتاب والسنة؛ لنحاول أن ننفي من لغتنا ومن خطابنا الأحكام القطعية، والنتائج المعلبة الجاهزة، والثنائيات الحادّة.
فبالإقناع والحوار ومقابلة الحجة، تتلاقح الأفكار وتنبت الأشجار عميقة الجذور، متأصلة في باطن الأرض، وفي هذا الأسلوب وصفة سحرية من شأنها أن تقلل من سيناريوهات الإقدام فترة ثم الإحجام والعطاء ثم التوقف.
أيها المربون:
الحديث معكم ذو شجون، وحسبي منه ما يلفت أنظاركم، ويسترعي انتباهكم ويساهم في تثبيت مسيرتكم، والله من وراء القصد
سليمان العبودي
التربية ذلك الثوب الفضفاض، الذي ضم بين عطفيه على مر العصور؛ قدرًا هائلاً من القيم والأفكار، والمبادئ والشخصيات، والكتب والتعريفات، وما أن تمسك بطرف الثوب وتهزه هزًا عنيفًا حتى ترى أكوامًا هائلة تتهاوى، وأصنامًا مقدسة تتطاير، فهو قصر مشيد كثر على أعتابه المتمسحون، وقلعة شامخة غير حصينة فتحت أبوابها للمدّعين، فتبصر في مضمار التربية جموعًا حاشدة، وأرقامًا مذهلة، وما أن تمعن النظر وترجعه كرتين، إلا وينقلب إليك البصر خاسئًا وهو حسير.
ما أنا ممن يدعي الوصول أو يبتغي الكمال، أو يصطاد في الماء العكر، فكل ما أطمح إليه في هذا المقال؛ لفت الأنظار، وتنبيه الممارسين "في المحاضن التربوية المتنوعة في الطرق والأساليب، والمتحدة في الإسناد إلى المنهج الرباني" من خلال عدة نقاط:
وجزء منها تبلور نتيجة المرحلة العصيبة التي نعيشها، والتي من أبرز ملامحها التغير والتغيير الذي أدار رحاه على المجتمع بأسره، وأحدث هزات عنيفة، وخنادق عميقة، ومفاهيم خاطئة تستعد للرحيل، ولم يستطع كثير من العاملين في حقل التربية في بعض الأوساط استيعاب التغير، فجاءت ممارساتهم وأطروحاتهم ضعيفة مهلهلة؛ لأنها في الغالب خليط بين عجز عن فهم الواقع، وتمسّك مرير برؤى الماضي.
إن إحياء نوازع النفس الخيرة ورفع مستوى الذوق الذاتي في نفوس المتلقين، ومخاطبة عقولهم، وامتلاك أدوات الحوار معهم، وفتح بابه، بل ودفع الناشئة إليه دفعًا، من أخص خصائص النجاح في واقعنا المعيش، فقد أضحت المراقبة التقليدية المباشرة من مخلفات عصر مضى.. لم يعد يُحتمل مع الانفتاح الإعلامي الهائل، والتواصل الكوني المثير؛ تثبيت أبصار المتلقين على مناطق محددة، وعلى شخصيات معينة، ومنعهم من التلفّت ذات اليمين وذات الشمال، ولئن كان المتلقي العادي في السابق يسمع طرحًا واحدًا فقط، أو على الأدق لا يشدّ ناظريه إلا طرح واحد؛ هو الطرح السائد في المجتمع، وهو الذي يحظى بالتأييد من كافة شرائحه، ويُسمع صداه في كل جهاته، أصبح اليوم يسمع أصواتًا كثيرة، أصداؤها متقاربة، ويبصر أطيافًا عديدة، ألوانها متنافسة، ولكل منها مشاريعه ورؤاه وأساليبه ورواده.
(إن مجرد الإيمان والاعتراف بتعدد المؤثرات في المجتمع، سيصنع منا بشكل مذهل مربين ذوي كفاءات راقية، وقدرات عالية، وطروحات مناسبة ومنسابة في عقول الناشئة).
إن من يحمل بين جنبيه ديناً سماويًا، ويقتفي في خطاه منهجًا نبويًا، فقد ضمن لمشروعه السيرورة والانتشار، والغلبة والتمكن، فمن السذاجة أن يفرض على نفسه سياجًا يمنع ويحد من اتساعه، فلا يدفعكم الخوف على الدين؛ إلى إقصائه ووضعه في دهاليز مغلقة، ولا يدفعكم الشعور بالمسؤولية الزائدة عن رؤاكم وتصوراتكم البشرية؛ إلى الانكفاء على الذات، والعزلة عن مجتمعكم، أنتم -شئتم أم أبيتم- جزء لا يتجزأ من هذا العالم المتفاعل، ورقم صعب يحسب لكم أعداؤكم ألف حساب، وخير هدية تقدمونها لهم هي التقزّم والانزواء؛ فلا تحرموا مجتمعاتكم من عطائكم، فتجعلوه محصورًا في فئة معينة، وأماكن محددة، بل مدوا الجسور مع كافة شرائح المجتمع، بأطيافه المتعددة والمتفاوتة، وللتفاعل خاصية المراجعة والتحديث، ولئن لم تتفاعلوا بشروطكم ورؤاكم لربما اضطررتم في يوم ما أن تلبسوا عباءة لا ترتضونها، وتتبنوا رؤى لا تقبلونها.
المرحلة المعيشة ما هي إلا إرهاص لمرحلة قادمة مثيرة، ونحن لا نرى إلا قمة جبل الجليد كما يُقال، فمن الكياسة والنجابة تحديث عدد من المفاهيم، ومنها مفهوم الأصدقاء والأعداء، وتحديدهم على نحو واضح، وتكثيف الأول وتقليص الثاني، فلسنا بحاجة إلى كسب عداوات جديدة، ولسنا بحاجة إلى أن نلتفت يمينًا وشمالاً، ونوزع البطاقات الحمراء مع كل من نختلف معه، في رأي أو مسألة صغيرة كانت أو كبيرة، وأذكر مقولة جميلة قرأتها قبل سنوات: "إن الإيمان الحق يدعوك أن تفرح كلما رأيت من يضع لبنة في البناء أيا كان انتماؤه".
لقد أُنهكنا بصراعاتنا مع أنفسنا، وتألمنا من الضرب بسوطنا، وقوضنا بنياننا بأيدينا، وإن من الخيانة لأنفسنا أن نقحم الناشئة ومن تحت أيدينا إلى حمأة الصراع، وبؤر التوتر، وأن تُحوّل بعض التجمعات من محاضن تُبنى فيها الشخصية المسلمة، إلى مطاحن تخرج خبراء التصنيف والردود، مما يساهم في حرق المواهب واستنـزافها فيما لا طائل من ورائه.
فلنفتح صفحة جديدة بيضاء مسالمة مع إخواننا تنعكس بشكل واضح على خطابنا وبرامجنا، وترسم البسمة على شفاه متلقينا، ونفهم ناشئتنا أننا نستطيع أن نتعايش مع إخواننا المختلفين معنا في بعض الجزئيات، ونرسم نحن وإياهم خطوطاً متوازية كلها تصل ولا تتقاطع.
كما أنه ليس بعالم من يعتقد أنه حصّل العلم كله، فإنه كذلك ليس بناضج من اعتقد أنه وصل إلى قمة النضج، فالإنسان مادام حيًّا فهو مع الوقت يكتسب خبرات جديدة وحقائق غائبة، فمن الذكاء جعل رؤانا وتصوراتنا مفتوحة وقابلة للأخذ والرد، والحذف والإضافة، ويُروى في هذا الصدد أن الإمام مالك كان يقول بعد أن يفتي: "إن نظن إلا ظنًا وما نحن بمستيقنين"، وقد كان الإمام الشافعي يدرك هذا فيقول: "مذهبي صواب يحتمل الخطأ، ومذهب غيري خطأ يحتمل الصواب"، فلنجعل لأنفسنا خطوطًا للرجعة، حتى لا تصبح أقوالنا ومواقفنا كلاليب تمسك بخناقنا عن المراجعة والتراجع.
ومن الحكمة أن نقلص مقدار المنطقة الحمراء التي بالغنا في بعض المراحل في وضع حدودها، فكل شيء قابل للنقاش والتعديل، مادام لا يتعارض مع الأصلين، الكتاب والسنة؛ لنحاول أن ننفي من لغتنا ومن خطابنا الأحكام القطعية، والنتائج المعلبة الجاهزة، والثنائيات الحادّة.
فبالإقناع والحوار ومقابلة الحجة، تتلاقح الأفكار وتنبت الأشجار عميقة الجذور، متأصلة في باطن الأرض، وفي هذا الأسلوب وصفة سحرية من شأنها أن تقلل من سيناريوهات الإقدام فترة ثم الإحجام والعطاء ثم التوقف.
أيها المربون:
الحديث معكم ذو شجون، وحسبي منه ما يلفت أنظاركم، ويسترعي انتباهكم ويساهم في تثبيت مسيرتكم، والله من وراء القصد