تاج الغلا
08-09-2007, 02:39 AM
لماذا نخشى الحرية؟
"الحرية" هذه الكلمة الرنانة المثيرة التي طالما ارتبطت بعقول افتقدتها فتاقت إليها، وفي أذهان أخرى خشيتها فنبذتها؛ نتيجة تشويه وتحريف مفهومها العام (حق الأفراد في التصرف وفقاً لاختيارهم) في ظل الالتزام بالقوانين واحترام حريات الآخرين.
من الطبيعي أن يتوق الإنسان إلى العيش بحرية وسلام وفق خياراته الذاتية، ولكن نسبية الحرية تجعل من غير الممكن وجود حرية مطلقة، وهذا أمر مسلم به؛ وذلك نتيجة التباين والاختلاف الطبيعي بين الناس فدوائر الحريات يمكن تتقارب لكن لا يمكن لها أن تتقاطع، لذلك من البديهي أن تنتهي حرية الفرد عندما تبدأ حرية الآخرين (أنت حر ما لم تضر) حيث من المفترض أن يبقى الإنسان حراً في تصرفاته وأفكاره ما لم يؤذِ الآخرين أو يستخدم أي أسلوب قمعي لفرض أفكاره أو قناعاته على الآخرين قسراً وبأي شكل كان. وهامش الحرية بالنسبة للأفراد يتسع ويضيق بحسب القوانين التي تنظم حياة المجتمعات، إلا أن هذا لا يعني عدم وجود حالات كثيرة يتم فيها اقتحام الحريات ومصادرة الحقوق، ولكن من المفترض هنا أن يكون القانون (النظام) هو الحكَم في تلك الحالات فيتدخل لإشاعة العدل واحترام الحرية وإعادة الحقوق إلى أصحابها. واحترام حقوق الآخرين يتم من خلال احترام القانون نفسه في المكان الذي يعيش فيه الفرد.
إن مصطلح "الحرية" في عالمنا العربي أشبه ما يكون بحلم جميل ينتهي لحظة الإفاقة من النوم؛ لأنه مصطلح مشوّه ومعوّق وهناك كثيرون يخافون مجرد كلمة "حرية" نتيجة هذا التشويه المرتبط في الأذهان بمشهد ما مخيف يهدد استقرار المصالح؛ لذلك من غير المستغرب وجود أصوات من عامة الناس ذات نبرة حادة دائمة الحراك والصراخ لمحاربة الحرية.
لا بد ألاّ ننسى أن للحرية أعداء قديمين قدم التاريخ، وهو عداء طبيعي الوجود بين البشر؛ نتيجة وجود من تتعارض مصالحهم وأهدافهم مع الحرية فيريدون مصادرتها-أو حتى إلغاءها- دفاعاً عن مصالحهم المختلفة، ولكن من غير الطبيعي أن يكون أعداء الحرية من الذين لا مصالح لهم بإلغائها بل هم أحوج الناس إليها لكنهم ربما يرددون ما يقوله أعداء الحرية الحقيقيين (النفعيين) في محاربتهم للحرية، وبالتالي هم وقعوا ضحية كونهم أتباعاً، فهناك مفاهيم معينة أُقحمت في الأذهان إقحاماً حتى تم تشويه المفهوم النبيل للحرية لينقلب هذا المفهوم بشوهته هذه إلى وجه آخر للفوضى! رغم أن المفترض في الحرية أن تكون حقاً مشاعاً للجميع، وهذا الحق يقع بالضرورة في منزلة ما بين التقييد (الكبت) والفوضى ليكفل للإنسان التصرف وفق إرادته كإنسان حر في ظل القانون الذي يشكله المجتمع بناءً على نظرته للحرية ومدى إيمانه بها كقضية.
في العالم العربي توجد قوانين ودساتير رائعة ومتميزه لكن مشكلتها الأساسية أنها مغيبة من خلال عدم احترامها والعمل بها، أو بعبارة أخرى: لا تعدو كونها حبراً على ورق! فالحرية شبه غائبة ما لم يتح للإنسان الحق في الاختلاف والتعبير، بعيداً عن محاربة الحرية التي حوِّرتْ عن معانيها النبيلة السامية إلى (أيديولوجيات) مقيتة تحقق للمتشدقين بها الربح الأكبر والأسرع على حساب فاقدي الحرية الذين ربما يهرولون خلف أي (أمل) من شأنه منحهم الحرية التي يحلمون بها؛ وهذا ما يفسر قيام كثير من دعاة الحرية بإلغائها بعد تحقق مصالحهم منها غير عابئين بالحريات التي صادروها حين رفعوا شعار حماية الحرية الزائفة لتخوين الآخرين والتأكيد على أنهم أعداء الحرية.
الحرية إذن لا بد لها من أعداء يكافحون لأجل (اللاحرية) التي تخدم مصالحهم وتدعم استمرارهم كطبقة طفيلية في المجتمع. ومن المؤكد أن الحرية لا تتحقق إلا بالتضحيات، ولكن هذه التضحيات اليوم لم تعد كالسابق إذ ليس شرطاً أن الداعي إلى الحرية يجب أن يمر عنقه على (المقصلة)؛ لأن هناك مقصلة من نوع آخر تتمثل بالنفي الاجتماعي من خلال تهديد هامش الحرية الشخصية وتضييق الخناق على الاستقرار المادي والمعنوي للفرد، فليس كل من يدّعي صون المجتمع والفضيلة صادقاً، لأن الفضيلة الكبرى هي وجود مجتمع حر متماسك ينعم بحماية القانون متى ما كان القانون فوق الجميع. ولكن ما يحول دون تحقق هذه الحرية وجود شريحة واسعة من المجتمع مقتنعة تماماً بالطروحات الأيديولوجية-النفعية التي يعمل أصحابها باستمرار على تشويه مفهوم الحرية والتخويف منها بتصويرها خطراً كبيراً على الفرد والمجتمع من شأنها استئصال الفضيلة من جسد المجتمع وإحلال الرذيلة؛ مما يستدعي طرح البديل: وهو العمل على محاربة الواقع (السيئ) والدعوة للتشبث بأفكار "الماضوية" التي تُصور دائماً أنها الأفضل!
وغالباً ما تتأثر الحرية بالأزمات، حيث تتقلص هوامش الحريات العامة خلال أوقات الأزمات والحروب في الدول التي تؤمن بقدر أكبر من الحرية، ولكن مواطني هذه الدول غالباً ما يتفهمون مثل هذه الإجراءات التي قد تقيد حرياتهم لأنها في النهاية حماية لتلك الحريات، وذلك انطلاقاً من ثقتهم في أن القانون الذي اختاروه، فوق الجميع وللجميع ولا يجوز بأي حال تجاوزه. وقد كفلت العهود والمواثيق الدولية الحرية لكل إنسان دون تمييز بسبب اللغة أو العرق أو الدين، فلا يكاد "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان" أن يخلو من التأكيد على "الحرية/الحريات" في كل مادة من مواده الثلاثين، إلا أن تجاوزات البشر وانتهاكات الحرية لن تنتهي تماماً من هذا العالم مما يعني ضرورة التطوير؛ لأن الحرية مفهومٌ متطور، تضيق دائرته أو تتسع بحسب تطوره في أذهان الناس وحياتهم. ففي الدول الإسلامية-على سبيل المثال- تم إلغاء تقليد أباحه الدين الإسلامي وهو حرية امتلاك الأشخاص والمتاجرة بهم (الرق)، والباعث على ذلك هو تطور مفهوم الحرية في أنحاء العالم اعتماداً على التطورات الثقافية-الحضارية، فالمادة الأولى من "الإعلان" تنصّ على أن الناس يولدون "أحراراً ومتساوين في الكرامة والحقوق"، والمادة الرابعة أكدت بأنه "لا يجوز استرقاق أحد أو استعباده، ويحظر الرق والاتجار بالرقيق بجميع صورهما".
كاتب سعودي
جريدة الوطن - الجمعة 17 صفر 1427هـ
"الحرية" هذه الكلمة الرنانة المثيرة التي طالما ارتبطت بعقول افتقدتها فتاقت إليها، وفي أذهان أخرى خشيتها فنبذتها؛ نتيجة تشويه وتحريف مفهومها العام (حق الأفراد في التصرف وفقاً لاختيارهم) في ظل الالتزام بالقوانين واحترام حريات الآخرين.
من الطبيعي أن يتوق الإنسان إلى العيش بحرية وسلام وفق خياراته الذاتية، ولكن نسبية الحرية تجعل من غير الممكن وجود حرية مطلقة، وهذا أمر مسلم به؛ وذلك نتيجة التباين والاختلاف الطبيعي بين الناس فدوائر الحريات يمكن تتقارب لكن لا يمكن لها أن تتقاطع، لذلك من البديهي أن تنتهي حرية الفرد عندما تبدأ حرية الآخرين (أنت حر ما لم تضر) حيث من المفترض أن يبقى الإنسان حراً في تصرفاته وأفكاره ما لم يؤذِ الآخرين أو يستخدم أي أسلوب قمعي لفرض أفكاره أو قناعاته على الآخرين قسراً وبأي شكل كان. وهامش الحرية بالنسبة للأفراد يتسع ويضيق بحسب القوانين التي تنظم حياة المجتمعات، إلا أن هذا لا يعني عدم وجود حالات كثيرة يتم فيها اقتحام الحريات ومصادرة الحقوق، ولكن من المفترض هنا أن يكون القانون (النظام) هو الحكَم في تلك الحالات فيتدخل لإشاعة العدل واحترام الحرية وإعادة الحقوق إلى أصحابها. واحترام حقوق الآخرين يتم من خلال احترام القانون نفسه في المكان الذي يعيش فيه الفرد.
إن مصطلح "الحرية" في عالمنا العربي أشبه ما يكون بحلم جميل ينتهي لحظة الإفاقة من النوم؛ لأنه مصطلح مشوّه ومعوّق وهناك كثيرون يخافون مجرد كلمة "حرية" نتيجة هذا التشويه المرتبط في الأذهان بمشهد ما مخيف يهدد استقرار المصالح؛ لذلك من غير المستغرب وجود أصوات من عامة الناس ذات نبرة حادة دائمة الحراك والصراخ لمحاربة الحرية.
لا بد ألاّ ننسى أن للحرية أعداء قديمين قدم التاريخ، وهو عداء طبيعي الوجود بين البشر؛ نتيجة وجود من تتعارض مصالحهم وأهدافهم مع الحرية فيريدون مصادرتها-أو حتى إلغاءها- دفاعاً عن مصالحهم المختلفة، ولكن من غير الطبيعي أن يكون أعداء الحرية من الذين لا مصالح لهم بإلغائها بل هم أحوج الناس إليها لكنهم ربما يرددون ما يقوله أعداء الحرية الحقيقيين (النفعيين) في محاربتهم للحرية، وبالتالي هم وقعوا ضحية كونهم أتباعاً، فهناك مفاهيم معينة أُقحمت في الأذهان إقحاماً حتى تم تشويه المفهوم النبيل للحرية لينقلب هذا المفهوم بشوهته هذه إلى وجه آخر للفوضى! رغم أن المفترض في الحرية أن تكون حقاً مشاعاً للجميع، وهذا الحق يقع بالضرورة في منزلة ما بين التقييد (الكبت) والفوضى ليكفل للإنسان التصرف وفق إرادته كإنسان حر في ظل القانون الذي يشكله المجتمع بناءً على نظرته للحرية ومدى إيمانه بها كقضية.
في العالم العربي توجد قوانين ودساتير رائعة ومتميزه لكن مشكلتها الأساسية أنها مغيبة من خلال عدم احترامها والعمل بها، أو بعبارة أخرى: لا تعدو كونها حبراً على ورق! فالحرية شبه غائبة ما لم يتح للإنسان الحق في الاختلاف والتعبير، بعيداً عن محاربة الحرية التي حوِّرتْ عن معانيها النبيلة السامية إلى (أيديولوجيات) مقيتة تحقق للمتشدقين بها الربح الأكبر والأسرع على حساب فاقدي الحرية الذين ربما يهرولون خلف أي (أمل) من شأنه منحهم الحرية التي يحلمون بها؛ وهذا ما يفسر قيام كثير من دعاة الحرية بإلغائها بعد تحقق مصالحهم منها غير عابئين بالحريات التي صادروها حين رفعوا شعار حماية الحرية الزائفة لتخوين الآخرين والتأكيد على أنهم أعداء الحرية.
الحرية إذن لا بد لها من أعداء يكافحون لأجل (اللاحرية) التي تخدم مصالحهم وتدعم استمرارهم كطبقة طفيلية في المجتمع. ومن المؤكد أن الحرية لا تتحقق إلا بالتضحيات، ولكن هذه التضحيات اليوم لم تعد كالسابق إذ ليس شرطاً أن الداعي إلى الحرية يجب أن يمر عنقه على (المقصلة)؛ لأن هناك مقصلة من نوع آخر تتمثل بالنفي الاجتماعي من خلال تهديد هامش الحرية الشخصية وتضييق الخناق على الاستقرار المادي والمعنوي للفرد، فليس كل من يدّعي صون المجتمع والفضيلة صادقاً، لأن الفضيلة الكبرى هي وجود مجتمع حر متماسك ينعم بحماية القانون متى ما كان القانون فوق الجميع. ولكن ما يحول دون تحقق هذه الحرية وجود شريحة واسعة من المجتمع مقتنعة تماماً بالطروحات الأيديولوجية-النفعية التي يعمل أصحابها باستمرار على تشويه مفهوم الحرية والتخويف منها بتصويرها خطراً كبيراً على الفرد والمجتمع من شأنها استئصال الفضيلة من جسد المجتمع وإحلال الرذيلة؛ مما يستدعي طرح البديل: وهو العمل على محاربة الواقع (السيئ) والدعوة للتشبث بأفكار "الماضوية" التي تُصور دائماً أنها الأفضل!
وغالباً ما تتأثر الحرية بالأزمات، حيث تتقلص هوامش الحريات العامة خلال أوقات الأزمات والحروب في الدول التي تؤمن بقدر أكبر من الحرية، ولكن مواطني هذه الدول غالباً ما يتفهمون مثل هذه الإجراءات التي قد تقيد حرياتهم لأنها في النهاية حماية لتلك الحريات، وذلك انطلاقاً من ثقتهم في أن القانون الذي اختاروه، فوق الجميع وللجميع ولا يجوز بأي حال تجاوزه. وقد كفلت العهود والمواثيق الدولية الحرية لكل إنسان دون تمييز بسبب اللغة أو العرق أو الدين، فلا يكاد "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان" أن يخلو من التأكيد على "الحرية/الحريات" في كل مادة من مواده الثلاثين، إلا أن تجاوزات البشر وانتهاكات الحرية لن تنتهي تماماً من هذا العالم مما يعني ضرورة التطوير؛ لأن الحرية مفهومٌ متطور، تضيق دائرته أو تتسع بحسب تطوره في أذهان الناس وحياتهم. ففي الدول الإسلامية-على سبيل المثال- تم إلغاء تقليد أباحه الدين الإسلامي وهو حرية امتلاك الأشخاص والمتاجرة بهم (الرق)، والباعث على ذلك هو تطور مفهوم الحرية في أنحاء العالم اعتماداً على التطورات الثقافية-الحضارية، فالمادة الأولى من "الإعلان" تنصّ على أن الناس يولدون "أحراراً ومتساوين في الكرامة والحقوق"، والمادة الرابعة أكدت بأنه "لا يجوز استرقاق أحد أو استعباده، ويحظر الرق والاتجار بالرقيق بجميع صورهما".
كاتب سعودي
جريدة الوطن - الجمعة 17 صفر 1427هـ