الرايق
27-08-2007, 10:22 PM
من كتاب قصائد أعجبتني للدكتور غازي القصيبي
إخترت لكم هذه المقتطفات من قراءة الكاتب لمرثية مالك بن الريب
وبالتأكيد فإن كتابتي للقراءة مختصرة بعض الشيئ .
تبدأ القصيدة : الفلم بداية أخاذة بلقطات الماضي : شجر الغضا الذي ينبت في موطن الشاعر والذي حولته القصيدة إلى رمز لهذا الوطن ، ولكل ما يمثله في وجدان الشاعر المحتضر . وأشهد الله أني لم أعثر في قراءاتي كلها على تكرار جميل يسقيك الأسى جرعة بعد جرعة كتكرار الغضا في هذه الأبيات .
ألا ليت شِعري هلْ أبيتنّ ليلةً = بجنبِ الغضىَ أُزجي القلاصَ النَّواجيا
فليت الغضى لم يقطعِ الرّكب عرضهُ = وليت الغضىَ ماشى الرِّكابَ لياليا
لقد كان في أهلِ الغضى لوْ دنَا الغضى = مزارٌ ولكنَّ الغضىَ ليس دانِيا
لماذا ترك الشاعر منابت الغضا الذي يحبه وانطلق في بلاد نائية غريبة ؟
إسمعوا الجواب :
ألم ترني بِعتُ الضلالةَ بالهُدى = وأصبحتُ في جيش ابن عفان غَازِيا
ثم ماذا حدث ؟
إلتقى الشاعر بالموت وشعر بالحنين إلى موطنه وهو يحتضر ، فخاف أن يلام على البكاء وهو فارس مقدام
دعاني الهوى من أهل وُدّي وصُحبتي = بذي الطّبسينِ فالتفتُ ورَائِيا
أجبتُ الهوى لـمّا دعاني بزفرةٍ = تقنَّعتُ منها أنْ أُلاَمَ رِدائيِا
يقول بعد ذلك في دعابة مرّة نستغرب صدورها من رجل يوشك أن يموت إلا أن كان رجلاً أسطورة كشاعرنا :
لعمري لئن غالتْ خُراسانُ هامتي = لقدْ كنتُ عن بابيْ خُراسان نائيا
ولكن – هل ندم شاعرنا على القرار الذي قاده إلى منيته في خراسان ؟ لم يندم على شيئ ! لا على حياته الحافلة ولا على نهايتها الرائعة ، إنه يقول إنه أقدم على هذه الرحلة ولديه شعور خفي عميق أنها ستنتهي بالموت ، يقول لنا كيف ترك أهله وماله طائعاً في وداع ما بعده لقاء :
فللّه درِّي يوم أتركُ طائعاً = بَنِيَّ بأعلى الرَّقمتينِ وماليا
ويقول لنا أن الظباء السائحات التي لقاها في طريقه كانت تبشر بموته ، وذلك رغم أن العرب كانوا يتفاءلون بالسائح من الصيد :
ودرُّ الظباءِ السّانحات عشيةً = يُخبرَّن أنِّي هالكٌ من ورائيا
بل يقول لنا أن أبويه كانا على علم بنهاية الرحلة :
ودرُّ كبيريّ اللّذينِ كلاهما = عليَّ شفيقٌ ناصحٌ ما ألانيا
ثم يقول لنا في وضوح تام أنه عاش حياته بالطول والعرض وأعتصرها حتى الثمالة ، وأنه غير نادم على شيئ :
ودرُّ الهوى من حيثُ يدعو صحابه = ودرُّ لجَاجاتي ودرُّ انتهائيا
ثم تقفز بنا القصيدة إلى المستقبل ، فتلاحق مشاهد الحزن التي ستتكشف عندما يذاع خبر الموت ، ويتصور شاعرنا أن أشد المفجوعين لوعة هم رفاق الكفاح ، أسلحته وحصانه :
تذكرتُ من يبكي عليّ فلم أجد = سِوى السيفِ والرمحِ الرُّدَيني باكيا
وأشقرَ خنذيذٍ يجرُّ عنانهُ = إلى الماء لم يترك لـه الدّهرُ ساقيا
ثم النساء الحبيبات في موطنه :
ولكن بأطراف السُّمينةِ نسوةٌ = عَزيزٌ عليهنّ العَشيةَ ما بيا
صَريعٌ على أيدي الرجالِ بقفرةٍ = يُسوُّونَ لحدي حيثُ حُمَّ قضائيا
بعد ذلك تعود بنا القصيدة إلى الحاضر لحظات الإحتضار في خراسان :
ولمّا تراءت عند مرو منيّتي = وحلّ بها سُقمي وحانت وفاتيا
أقول لاصحابي ارفعوني فإنني = يَقرُّ بعيني أن سُهيل بدا ليا
كلما قرأت هذا البيت الأخير تصورت شاعرنا المحتضر وهو مرفوع على أيدي رفيقيه يتطلع في لهفة إلى السماء صوب سهيل ( وهو نجم يماني ) فيذكره بمرابع الصبا في موطنه ، وهو في إتجاه اليمن .
في الأبيات التالية يتحدث شاعرنا إلى رفيقيه ويعدد طلباته الأخيرة :
وياصاحبي رَحْلى دنا الموتُ فانزلا = برابيةٍ إني مقيمٌ لياليا
أقيما عليّ اليومَ أو بعض ليلةٍ = ولا تُعجِلاني قد تبينَ ما بيا
وقوما إذا ما سُلَّ رُوحي فهيئا = ليَ السِّدْرَ والاكفانَ ثمّ ابكيا ليا
ولا تحسُداني باركَ اللهُ فيكما = من الأرضِ ذاتِ العرضِ أنْ توُسعا ليا
يقال أن حياة المحتضر تمر أمام عينيه شريطاً سريعاً من الذكريات ، وسواء صح هذا القول أو لم يصح ، لقد كانت حياة الشاعر تمر أمام عينيه في تلك اللحظات .
وخُطّا بإطراف الأسنةِ مضجعي = ورُدَّا على عينيَّ فضل ردائيا
خُذاني فجُراني ببردي إليكما = فقدْ كنتُ قبل اليومِ صعباً قياديا
ثم تتوالى المشاهد ، فهنا مشهد من مشاهد الفروسية :
وقدْ كنتُ عطّافاً إذا الخيلُ أدبرت = سريعاً لدى الهيجا إلى من دعانيا
وقد كنتُ محموداً لدى الزّاد والقِرَى = وعن شتمي ابن العَمِّ والجارَ وانيا
وهنا مشهد من مشاهد الصبر والصمود :
وقد كنتُ صباراً على القِرنِ في الوغى = ثقيلاً على الأعداءِ عضباً لسانيا
وهنا مشهد من مشاهد السفر والترحال :
وطوراً تراني في ظلال ومجمعِ = وطوراً تراني والعتاق ركابيا
وهنا مشهد من مشاهد الشجاعة والإقدام :
وطوراً تراني في رَحاً مُستديرةٍ = تُخرِّقُ أطرافُ الرِّماحِ ثيابيا
ثم تقفز بنا القصيدة نحو المستقبل فتسبق الأحداث بعد أن يوسد الشاعر مقره الأخير ، ويتوجه صاحباه إلى عشيرته وذويه :
فقُوماً على بئرِ الشُّبيكِ فأسمعا = بها الوحشَ والبِيض الحِسان الرّوانيا
بأنكما خَلَّفتماني بقفرةٍ = تَهيلُ عليَّ الرّيحُ فيها السّوافيا
ولا يستطيع شاعرنا البطل أن يغالب النزعة الطبيعية الإنسانية في أن يُذكر بعد موته :
ولا تنسيا عهدى خليليّ إنّني = تقَطّعُ أوصالي وتبلىَ عظِاميا
ولكنه يدرك أن شعور الحزن سيتلاشى بعد قليل ، ويبدأ أهله في التفكير في الميراث :
فلن يعدمَ الولدّانُ بيتاً يُجِنُّنِي = ولن يعدم الميراث منّي المواليا
ثم تعود القصيدة بسرعة خاطفة إلى الدقائق الأخيرة من حياة الشاعر لتسخر من تفاؤل أصحابه الذين يحاولون التخفيف عنه :
يقولون لاتبعُدْ وهُم يدفنوني = وأين مكانُ البُعدِ إلاّ مكانيّا ؟
ثم قفزة أخرى إلى المستقبل فتصور وضع الشاعر وحيداً في قبره :
غداة غدٍ يالهفَ نفسي على غدٍ = إذا أدلجوا عنّي وأصبحتُ ثَاويا
وتتصور القصيدة مصير المال الذي جمعه بعدحياة عاصفة من المغامرات ، وضحى بنفسه في سبيل جمعه :
وأصبح مالي من طريفٍ وتالدٍ = لغيري وكان المالُ بالامسِ ماليا
وتساءل كيف ستسير أحوال الحرب والسلم بعد موته :
فياليت شعري هلْ تغيّرتِ الرَّحا = رحا الحربِ أم أضحتْ بفلجٍ كما هيا
ثم يتساءل عن موقف أمه عندما يبلغها نعيه :
وياليت شعري هل بكتْ أمُّ مالكٍ = كما كنتُ لو عالوا نَعيّك باكيا
ثم يطلب من أمه أن تذهب إلى الصحراء فتزور منطقة القبور وتتصور بعين الخيال قبراً بعيداً نائياً يغطيه الغبار الأحمر بألوان الشفق :
إذا مُتُّ فاعتَادي القبور فسلِّمي = على الرّمسِ أسْقِيتِ السّحاب الغواديا
ترى جدثاً قد جَرَّتِ الريحُ فوقهُ = غُباراً كلون القسطلانيِّ هابيا
رهينة أحجارٍ وبئرٍ تضمّنت = قرارتُها مِنّي العظام البواليا
بعد ذلك تتناول القصيدة رسائل الشاعر الأخيرة إلى أهله وذويه :
فيا راكباً إمّا عرضتَ فبلِّغا = بني مالكٍ والرّيبِ ألا تلاقيا
ويطلب أن تسلم ثيابه إلى أخيه وأن تبلغ زوجته همسة الوداع :
وأبلغ أخي عمرانَ بُردِي ومئزري = وبلّغ عجُوزِي اليوم ألا تدانيا
وسلّم على شيخيَّ منِّي كليهما = كثيراً وعمي وابن عمي وخاليا
ويطلب أن تترك ناقته ترعى طليقة :
وعطل قلوصي في الركاب فإنها = ستبرُدُ أكباداً وتبكي بواكيا
وأبصرتُ نارَ (المازنياتِ) مَوْهِناً = بعَلياءَ يُثنى دونَها الطَّرف رانيا
بِعودٍ أَلنْجوجٍ أضاءَ وَقُودُها = مَهاً في ظِلالِ السِّدر حُوراً جَوازيا
غريبٌ بعيدُ الدار ثاوٍ بقفزةٍ = يَدَ الدهر معروفاً بأنْ لا تدانيا
أما في الأبيات الأخيرة فتمتزج المحاور الثلاث : الماضي والحاضر والمستقبل
أقلبُ طرفي فوق رحلي فلا أرى = به من عُيون المؤنِساتِ مُراعيا
وبالرملٍ منّي نسوةٌ لو شهدنني = بكين وفَدَّين الطبيبَ المُداويا
فمنهن أُمِّي وابنتاها وخالتي = وباكيةٌ أُخرى تهيجُ البواكيا
وما كان عهد الرمّل مني وأهله = ذميماً ولا ودّعْتُ بالرّملِ قاليا
آمل أن تستحق المجهود الذي بذل في كتابتها. لتنال الإعجاب
تحياتي ،،،
إخترت لكم هذه المقتطفات من قراءة الكاتب لمرثية مالك بن الريب
وبالتأكيد فإن كتابتي للقراءة مختصرة بعض الشيئ .
تبدأ القصيدة : الفلم بداية أخاذة بلقطات الماضي : شجر الغضا الذي ينبت في موطن الشاعر والذي حولته القصيدة إلى رمز لهذا الوطن ، ولكل ما يمثله في وجدان الشاعر المحتضر . وأشهد الله أني لم أعثر في قراءاتي كلها على تكرار جميل يسقيك الأسى جرعة بعد جرعة كتكرار الغضا في هذه الأبيات .
ألا ليت شِعري هلْ أبيتنّ ليلةً = بجنبِ الغضىَ أُزجي القلاصَ النَّواجيا
فليت الغضى لم يقطعِ الرّكب عرضهُ = وليت الغضىَ ماشى الرِّكابَ لياليا
لقد كان في أهلِ الغضى لوْ دنَا الغضى = مزارٌ ولكنَّ الغضىَ ليس دانِيا
لماذا ترك الشاعر منابت الغضا الذي يحبه وانطلق في بلاد نائية غريبة ؟
إسمعوا الجواب :
ألم ترني بِعتُ الضلالةَ بالهُدى = وأصبحتُ في جيش ابن عفان غَازِيا
ثم ماذا حدث ؟
إلتقى الشاعر بالموت وشعر بالحنين إلى موطنه وهو يحتضر ، فخاف أن يلام على البكاء وهو فارس مقدام
دعاني الهوى من أهل وُدّي وصُحبتي = بذي الطّبسينِ فالتفتُ ورَائِيا
أجبتُ الهوى لـمّا دعاني بزفرةٍ = تقنَّعتُ منها أنْ أُلاَمَ رِدائيِا
يقول بعد ذلك في دعابة مرّة نستغرب صدورها من رجل يوشك أن يموت إلا أن كان رجلاً أسطورة كشاعرنا :
لعمري لئن غالتْ خُراسانُ هامتي = لقدْ كنتُ عن بابيْ خُراسان نائيا
ولكن – هل ندم شاعرنا على القرار الذي قاده إلى منيته في خراسان ؟ لم يندم على شيئ ! لا على حياته الحافلة ولا على نهايتها الرائعة ، إنه يقول إنه أقدم على هذه الرحلة ولديه شعور خفي عميق أنها ستنتهي بالموت ، يقول لنا كيف ترك أهله وماله طائعاً في وداع ما بعده لقاء :
فللّه درِّي يوم أتركُ طائعاً = بَنِيَّ بأعلى الرَّقمتينِ وماليا
ويقول لنا أن الظباء السائحات التي لقاها في طريقه كانت تبشر بموته ، وذلك رغم أن العرب كانوا يتفاءلون بالسائح من الصيد :
ودرُّ الظباءِ السّانحات عشيةً = يُخبرَّن أنِّي هالكٌ من ورائيا
بل يقول لنا أن أبويه كانا على علم بنهاية الرحلة :
ودرُّ كبيريّ اللّذينِ كلاهما = عليَّ شفيقٌ ناصحٌ ما ألانيا
ثم يقول لنا في وضوح تام أنه عاش حياته بالطول والعرض وأعتصرها حتى الثمالة ، وأنه غير نادم على شيئ :
ودرُّ الهوى من حيثُ يدعو صحابه = ودرُّ لجَاجاتي ودرُّ انتهائيا
ثم تقفز بنا القصيدة إلى المستقبل ، فتلاحق مشاهد الحزن التي ستتكشف عندما يذاع خبر الموت ، ويتصور شاعرنا أن أشد المفجوعين لوعة هم رفاق الكفاح ، أسلحته وحصانه :
تذكرتُ من يبكي عليّ فلم أجد = سِوى السيفِ والرمحِ الرُّدَيني باكيا
وأشقرَ خنذيذٍ يجرُّ عنانهُ = إلى الماء لم يترك لـه الدّهرُ ساقيا
ثم النساء الحبيبات في موطنه :
ولكن بأطراف السُّمينةِ نسوةٌ = عَزيزٌ عليهنّ العَشيةَ ما بيا
صَريعٌ على أيدي الرجالِ بقفرةٍ = يُسوُّونَ لحدي حيثُ حُمَّ قضائيا
بعد ذلك تعود بنا القصيدة إلى الحاضر لحظات الإحتضار في خراسان :
ولمّا تراءت عند مرو منيّتي = وحلّ بها سُقمي وحانت وفاتيا
أقول لاصحابي ارفعوني فإنني = يَقرُّ بعيني أن سُهيل بدا ليا
كلما قرأت هذا البيت الأخير تصورت شاعرنا المحتضر وهو مرفوع على أيدي رفيقيه يتطلع في لهفة إلى السماء صوب سهيل ( وهو نجم يماني ) فيذكره بمرابع الصبا في موطنه ، وهو في إتجاه اليمن .
في الأبيات التالية يتحدث شاعرنا إلى رفيقيه ويعدد طلباته الأخيرة :
وياصاحبي رَحْلى دنا الموتُ فانزلا = برابيةٍ إني مقيمٌ لياليا
أقيما عليّ اليومَ أو بعض ليلةٍ = ولا تُعجِلاني قد تبينَ ما بيا
وقوما إذا ما سُلَّ رُوحي فهيئا = ليَ السِّدْرَ والاكفانَ ثمّ ابكيا ليا
ولا تحسُداني باركَ اللهُ فيكما = من الأرضِ ذاتِ العرضِ أنْ توُسعا ليا
يقال أن حياة المحتضر تمر أمام عينيه شريطاً سريعاً من الذكريات ، وسواء صح هذا القول أو لم يصح ، لقد كانت حياة الشاعر تمر أمام عينيه في تلك اللحظات .
وخُطّا بإطراف الأسنةِ مضجعي = ورُدَّا على عينيَّ فضل ردائيا
خُذاني فجُراني ببردي إليكما = فقدْ كنتُ قبل اليومِ صعباً قياديا
ثم تتوالى المشاهد ، فهنا مشهد من مشاهد الفروسية :
وقدْ كنتُ عطّافاً إذا الخيلُ أدبرت = سريعاً لدى الهيجا إلى من دعانيا
وقد كنتُ محموداً لدى الزّاد والقِرَى = وعن شتمي ابن العَمِّ والجارَ وانيا
وهنا مشهد من مشاهد الصبر والصمود :
وقد كنتُ صباراً على القِرنِ في الوغى = ثقيلاً على الأعداءِ عضباً لسانيا
وهنا مشهد من مشاهد السفر والترحال :
وطوراً تراني في ظلال ومجمعِ = وطوراً تراني والعتاق ركابيا
وهنا مشهد من مشاهد الشجاعة والإقدام :
وطوراً تراني في رَحاً مُستديرةٍ = تُخرِّقُ أطرافُ الرِّماحِ ثيابيا
ثم تقفز بنا القصيدة نحو المستقبل فتسبق الأحداث بعد أن يوسد الشاعر مقره الأخير ، ويتوجه صاحباه إلى عشيرته وذويه :
فقُوماً على بئرِ الشُّبيكِ فأسمعا = بها الوحشَ والبِيض الحِسان الرّوانيا
بأنكما خَلَّفتماني بقفرةٍ = تَهيلُ عليَّ الرّيحُ فيها السّوافيا
ولا يستطيع شاعرنا البطل أن يغالب النزعة الطبيعية الإنسانية في أن يُذكر بعد موته :
ولا تنسيا عهدى خليليّ إنّني = تقَطّعُ أوصالي وتبلىَ عظِاميا
ولكنه يدرك أن شعور الحزن سيتلاشى بعد قليل ، ويبدأ أهله في التفكير في الميراث :
فلن يعدمَ الولدّانُ بيتاً يُجِنُّنِي = ولن يعدم الميراث منّي المواليا
ثم تعود القصيدة بسرعة خاطفة إلى الدقائق الأخيرة من حياة الشاعر لتسخر من تفاؤل أصحابه الذين يحاولون التخفيف عنه :
يقولون لاتبعُدْ وهُم يدفنوني = وأين مكانُ البُعدِ إلاّ مكانيّا ؟
ثم قفزة أخرى إلى المستقبل فتصور وضع الشاعر وحيداً في قبره :
غداة غدٍ يالهفَ نفسي على غدٍ = إذا أدلجوا عنّي وأصبحتُ ثَاويا
وتتصور القصيدة مصير المال الذي جمعه بعدحياة عاصفة من المغامرات ، وضحى بنفسه في سبيل جمعه :
وأصبح مالي من طريفٍ وتالدٍ = لغيري وكان المالُ بالامسِ ماليا
وتساءل كيف ستسير أحوال الحرب والسلم بعد موته :
فياليت شعري هلْ تغيّرتِ الرَّحا = رحا الحربِ أم أضحتْ بفلجٍ كما هيا
ثم يتساءل عن موقف أمه عندما يبلغها نعيه :
وياليت شعري هل بكتْ أمُّ مالكٍ = كما كنتُ لو عالوا نَعيّك باكيا
ثم يطلب من أمه أن تذهب إلى الصحراء فتزور منطقة القبور وتتصور بعين الخيال قبراً بعيداً نائياً يغطيه الغبار الأحمر بألوان الشفق :
إذا مُتُّ فاعتَادي القبور فسلِّمي = على الرّمسِ أسْقِيتِ السّحاب الغواديا
ترى جدثاً قد جَرَّتِ الريحُ فوقهُ = غُباراً كلون القسطلانيِّ هابيا
رهينة أحجارٍ وبئرٍ تضمّنت = قرارتُها مِنّي العظام البواليا
بعد ذلك تتناول القصيدة رسائل الشاعر الأخيرة إلى أهله وذويه :
فيا راكباً إمّا عرضتَ فبلِّغا = بني مالكٍ والرّيبِ ألا تلاقيا
ويطلب أن تسلم ثيابه إلى أخيه وأن تبلغ زوجته همسة الوداع :
وأبلغ أخي عمرانَ بُردِي ومئزري = وبلّغ عجُوزِي اليوم ألا تدانيا
وسلّم على شيخيَّ منِّي كليهما = كثيراً وعمي وابن عمي وخاليا
ويطلب أن تترك ناقته ترعى طليقة :
وعطل قلوصي في الركاب فإنها = ستبرُدُ أكباداً وتبكي بواكيا
وأبصرتُ نارَ (المازنياتِ) مَوْهِناً = بعَلياءَ يُثنى دونَها الطَّرف رانيا
بِعودٍ أَلنْجوجٍ أضاءَ وَقُودُها = مَهاً في ظِلالِ السِّدر حُوراً جَوازيا
غريبٌ بعيدُ الدار ثاوٍ بقفزةٍ = يَدَ الدهر معروفاً بأنْ لا تدانيا
أما في الأبيات الأخيرة فتمتزج المحاور الثلاث : الماضي والحاضر والمستقبل
أقلبُ طرفي فوق رحلي فلا أرى = به من عُيون المؤنِساتِ مُراعيا
وبالرملٍ منّي نسوةٌ لو شهدنني = بكين وفَدَّين الطبيبَ المُداويا
فمنهن أُمِّي وابنتاها وخالتي = وباكيةٌ أُخرى تهيجُ البواكيا
وما كان عهد الرمّل مني وأهله = ذميماً ولا ودّعْتُ بالرّملِ قاليا
آمل أن تستحق المجهود الذي بذل في كتابتها. لتنال الإعجاب
تحياتي ،،،