حلوجدا
24-08-2007, 07:04 PM
أيها الفقهاء والوعاظ.. ابتسموا !
لا أذكر أنني شاهدت واعظاً دينياً عبر المنابر أو الفضائيات.. إلا ورأيتهم حازمين، ينبعث من قسماتهم الصرامة، وكأن في الأمر مصاباً جللاً، أو أن كارثة حلت بالأمة. وكان بإمكانهم أن يبتسموا، أو يتلطفوا في طريقة مخاطبتهم للآخرين، فالرفق واللين والتبسط مع الآخرين أقرب الطرق في الوصول إلى الهدف المنشود؛ وما كان ذلك ديدن العلماء والفقهاء والقضاة الأوائل.. الذين كانوا يملكون روحاً تنبعث منها السماحة واللين.. وفوق ذلك يملكون قلوباً رقيقة تشع بالعواطف الإنسانية، والمشاعر اللطيفة.. فهم بشر تخفق قلوبهم بحب الحياة والناس، ويجدون العذر لمن زلت به قدمه، وأغوته النفس الأمارة بالسوء. وقد وقع في يدي حين كنت أبحث عن كتاب في مكتبتي «كتيب» لطيف لشيخ الأدباء وأديب الفقهاء العلامة الفكه الشيخ/ علي الطنطاوي «غفر الله له» بعنوان «من غزل الفقهاء» ورأيت فيه مادة تؤيد ما كنت أرمي إلى الكتابة عنه.. يقول الشيخ (الطنطاوي) في مقدمته: «قال لي شيخ من المشايخ المتزمتين، وقد سقط إليه عدد من الرسالة فيه مقالة لي في الحب: مالك والحب، وأنت شيخ وأنت قاض وليس يليق بالشيوخ والقضاة أن يتكلموا في الحب، أو يعرضوا للغزل؟ فأجابه غفر الله له:
من أين عرفت أن العلماء قد ترفعوا عنه، والكتب مملوءة بالجيد من أشعارهم في الحب أعلامنا السابقون نبراس
في إظهار الفرح والتفاؤل وعدم القنوط
والغزل ووصف النساء. أما سمعت بأن النبي صلى الله عليه وسلم أصغى إلى كعب وهو يهدر في قصيدته التي يتغزل فيها بسعاد ويصفها بما لو ألقي عليك مثله لتورعت عن سماعه. وأن عمر كان يتمثل بما تكره أنت، وأن «ابن عباس» كان يصغي إلى إمام الغزليين «عمر بن أبي ربيعة»، وأن الحسن البصري كان يستشهد في مجلس وعظه بقول الشاعر: اليوم عندك دلها وحديثها/ وغداً لغيرك كفها والمعصم. وأن «سعيد بن المسيب» سمع مغنياً يغني:
تضوع مسكاً بطن نعمان أن مشت/ به زينب في نسوة خفرات
فضرب برجله وقال: هذا والله مما يلذّ سماعه. وهذا «عروة بن أذينة» الفقيه المحدث شيخ الإمام مالك يقول:
إن التي زعمت فؤادك ملها / خلقت هواك كما خلقت هوى لها.. إلخ القصيدة.
وراح يسرد القصائد التي قالها فقهاء عظام، وأئمة كالنجوم في سماء الفقه الإسلامي، نستشهد بآرائهم، ونعجب من علمهم وورعهم.. تدل على عواطفهم الجياشة، وتبسطهم في الحديث مع العامة.
وأنا هنا.. لا أطالب من فقهائنا، ووعاظنا، وطلبة العلم لدينا.. أن يتحولوا إلى شعراء وعشاق كي يرضونا، ولكنني أطالبهم بأن تكون الابتسامة واللين والرفق بالناس والعوام منهم على وجه الخصوص، وإيجاد العذر لمخطئهم، وتقويم عثرات من زلت به قدمه بالعطف واللين.. والابتسامة الرقيقة التي لها مفعول السحر في النفس البشرية.
وإن كنت أجد «بعض» العذر لقضاتنا الأفاضل ممن نجلهم ونحترمهم.. من جراء عملهم المضني «أعانهم الله»، فإنني لا أجد عذراً لذلك الخطيب أو الواعظ الذي يصعد المنبر ليلقي موعظته بوجه عابس، وجبين متجهم، وكأن في الأمر «مصيبة».. جاء لينقل نبأها إلى المتلقين، والذين كثيراً ما سمعوه يكرر بأن «الأمر جد خطير»، أو أن ذلك الأمر مما «يزلزل الجبال الراسيات»، «ويشيب لها الولدان»، مورداً أمثلة تبرز جانباً مظلماً من أحداث فردية.. مستشهداً بـ(قال لي أحد الفضلاء) أو المتصلين.. أو ممن أثق به!
لنتخذ من أعلامنا السابقين نبراساً في إظهار الفرح والبهجة والتفاؤل، وعدم القنوط من رحمة الله. ألا يكفي ما نعانيه من بطالة لأبنائنا، ومن غلاء، وهموم تتوالد كالقطط الريفية صباح مساء لتزيدوا كآبتنا، وتشاؤمنا. قولوا لنا بوجه سمح طلق المحيا.. «إن الله غفور رحيم»، و«إن مع العسر يسراً».. و«إن الله يغفر الذنوب جميعاً». كي نستعين بها على كل ما يؤرق حياتنا ويحيلها إلى هموم ومآسٍ لا تُطاق. دعونا نشعر -كما هو حق- أن مآلنا إلى رب كريم وسعت رحمته السموات والأرض. ابتسموا قليلاً، واتلوا علينا قول الله سبحانه وتعالى: «قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً».. وإلى الله ترجع الأمور!!
تركي العسيري
نقلا عن صحيفة عكاظ يوم الخميس 10/8/1428
لا أذكر أنني شاهدت واعظاً دينياً عبر المنابر أو الفضائيات.. إلا ورأيتهم حازمين، ينبعث من قسماتهم الصرامة، وكأن في الأمر مصاباً جللاً، أو أن كارثة حلت بالأمة. وكان بإمكانهم أن يبتسموا، أو يتلطفوا في طريقة مخاطبتهم للآخرين، فالرفق واللين والتبسط مع الآخرين أقرب الطرق في الوصول إلى الهدف المنشود؛ وما كان ذلك ديدن العلماء والفقهاء والقضاة الأوائل.. الذين كانوا يملكون روحاً تنبعث منها السماحة واللين.. وفوق ذلك يملكون قلوباً رقيقة تشع بالعواطف الإنسانية، والمشاعر اللطيفة.. فهم بشر تخفق قلوبهم بحب الحياة والناس، ويجدون العذر لمن زلت به قدمه، وأغوته النفس الأمارة بالسوء. وقد وقع في يدي حين كنت أبحث عن كتاب في مكتبتي «كتيب» لطيف لشيخ الأدباء وأديب الفقهاء العلامة الفكه الشيخ/ علي الطنطاوي «غفر الله له» بعنوان «من غزل الفقهاء» ورأيت فيه مادة تؤيد ما كنت أرمي إلى الكتابة عنه.. يقول الشيخ (الطنطاوي) في مقدمته: «قال لي شيخ من المشايخ المتزمتين، وقد سقط إليه عدد من الرسالة فيه مقالة لي في الحب: مالك والحب، وأنت شيخ وأنت قاض وليس يليق بالشيوخ والقضاة أن يتكلموا في الحب، أو يعرضوا للغزل؟ فأجابه غفر الله له:
من أين عرفت أن العلماء قد ترفعوا عنه، والكتب مملوءة بالجيد من أشعارهم في الحب أعلامنا السابقون نبراس
في إظهار الفرح والتفاؤل وعدم القنوط
والغزل ووصف النساء. أما سمعت بأن النبي صلى الله عليه وسلم أصغى إلى كعب وهو يهدر في قصيدته التي يتغزل فيها بسعاد ويصفها بما لو ألقي عليك مثله لتورعت عن سماعه. وأن عمر كان يتمثل بما تكره أنت، وأن «ابن عباس» كان يصغي إلى إمام الغزليين «عمر بن أبي ربيعة»، وأن الحسن البصري كان يستشهد في مجلس وعظه بقول الشاعر: اليوم عندك دلها وحديثها/ وغداً لغيرك كفها والمعصم. وأن «سعيد بن المسيب» سمع مغنياً يغني:
تضوع مسكاً بطن نعمان أن مشت/ به زينب في نسوة خفرات
فضرب برجله وقال: هذا والله مما يلذّ سماعه. وهذا «عروة بن أذينة» الفقيه المحدث شيخ الإمام مالك يقول:
إن التي زعمت فؤادك ملها / خلقت هواك كما خلقت هوى لها.. إلخ القصيدة.
وراح يسرد القصائد التي قالها فقهاء عظام، وأئمة كالنجوم في سماء الفقه الإسلامي، نستشهد بآرائهم، ونعجب من علمهم وورعهم.. تدل على عواطفهم الجياشة، وتبسطهم في الحديث مع العامة.
وأنا هنا.. لا أطالب من فقهائنا، ووعاظنا، وطلبة العلم لدينا.. أن يتحولوا إلى شعراء وعشاق كي يرضونا، ولكنني أطالبهم بأن تكون الابتسامة واللين والرفق بالناس والعوام منهم على وجه الخصوص، وإيجاد العذر لمخطئهم، وتقويم عثرات من زلت به قدمه بالعطف واللين.. والابتسامة الرقيقة التي لها مفعول السحر في النفس البشرية.
وإن كنت أجد «بعض» العذر لقضاتنا الأفاضل ممن نجلهم ونحترمهم.. من جراء عملهم المضني «أعانهم الله»، فإنني لا أجد عذراً لذلك الخطيب أو الواعظ الذي يصعد المنبر ليلقي موعظته بوجه عابس، وجبين متجهم، وكأن في الأمر «مصيبة».. جاء لينقل نبأها إلى المتلقين، والذين كثيراً ما سمعوه يكرر بأن «الأمر جد خطير»، أو أن ذلك الأمر مما «يزلزل الجبال الراسيات»، «ويشيب لها الولدان»، مورداً أمثلة تبرز جانباً مظلماً من أحداث فردية.. مستشهداً بـ(قال لي أحد الفضلاء) أو المتصلين.. أو ممن أثق به!
لنتخذ من أعلامنا السابقين نبراساً في إظهار الفرح والبهجة والتفاؤل، وعدم القنوط من رحمة الله. ألا يكفي ما نعانيه من بطالة لأبنائنا، ومن غلاء، وهموم تتوالد كالقطط الريفية صباح مساء لتزيدوا كآبتنا، وتشاؤمنا. قولوا لنا بوجه سمح طلق المحيا.. «إن الله غفور رحيم»، و«إن مع العسر يسراً».. و«إن الله يغفر الذنوب جميعاً». كي نستعين بها على كل ما يؤرق حياتنا ويحيلها إلى هموم ومآسٍ لا تُطاق. دعونا نشعر -كما هو حق- أن مآلنا إلى رب كريم وسعت رحمته السموات والأرض. ابتسموا قليلاً، واتلوا علينا قول الله سبحانه وتعالى: «قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً».. وإلى الله ترجع الأمور!!
تركي العسيري
نقلا عن صحيفة عكاظ يوم الخميس 10/8/1428