المعلم
20-04-2007, 10:39 AM
يكتبها: د. فهيد الحماد
مثل ساق نعامة.. طويل ونحيف.. لا يأكل ولا يشرب.. كل ما يفعله أنه يشرب الشاهي في كل دقيقة وزكارته ما تطفي أبدا.. حتى أن مساحة كبيرة من شواربه صفراء من الدخّان.. كأنها حقل قمح ينتظر الحصاد.. تعرفت عليه في وقت متأخر من حياته للأسف.. لفت انتباهي بإجاباته وتفسيراته.. ثقته بنفسه كبيرة.. إذا أحد سأل عن أمر من الأمور بادر بالإجابة.. إذا رأى أحدا محتارا في أمر أو ظاهرة قدّم له تفسيرا.. إجابته دايما غريبة.. وتفسيره أكثر غرابة كثير من أموره تلفت الانتباه.
كنا نجلس في مجلس شيبان.. وكان أحدهم يسأل عن «تورا بورا».. فكثرت الاجابات.. بعضهم يقول إنها قبيلة.. وبعضهم يقول إنها مدينة.. وبعضهم يقول إنها سفينة.. أحدهم قال إنها زوجة أمير باكستان.. أبو علي لمّا سمع إجاباتهم اختصر عليهم المشوار وقال «تورا بورا مثل لمّا نقول خيطي بيطي».. والجماعة يعرفون أن إجابة أبو علي دايما هي الإجابة الشافية الكافية.
تشوقت أن أعرفه أكثر.. فكان لي ما أحببت.. ازدادت معرفتي به.. وصاحبته وصاحبني.. استأنست معه واستأنس معي.. لابقين على بعض.. عرفت أنه تزوج في وقت قديم وأنجب ولدين.. ماتت زوجته وبقي دون زوجة من شان ولديه.. ولمّا كبروا هجروه لأنه يدخّن ولأنه يحب الغناء.. خاصة السامري.. فبقي في بيته وحيدا.. تزوره بنت أخته وتهتم به.. وجيرانه.. والأصدقاء.. كأن الناس صاروا عائلته.. مع إنه قال لي مرّة وهو يتكلم بحسرة عن أولاده «والله يابو هايس كأنه مكسور ظهري.. من يوم تركوني عيالي»..
ما يحب السكون.. إذا جلس خمس دقائق يقف.. حتى لو كان يتكلم.. ثم يرجع يجلس.. يقف آلاف الوقفات.. ويجلس آلاف الجلسات في ساعة واحدة.. أحيانا يخرج ويمشي ثم يعود..
أوّل من يدخل المسجد.. لكنه يخرج من المسجد مرّات قبل الإقامة.. يقف عند الباب ثم يرجع.. حتى إنّه يخلق الأسباب لحركته.. مرّة سمع صوت سيارة ونحن في المسجد.. فقال لي يسألني «أظن هاذا جلعود.. رايح لأبو سالم».. فلم أجبه لأني كنت أصلي ركعتي السنّة قبل الفرض.. وما سلّمت.. فواصل كلامه وهو ينهض «أنا متأكد يا بن الحلال.. هالحين أشوفه وأعلّمك».. حتى إني ضحكت.. وخربت ركعتيني.. لأني كنت في التحيات..
كان الخطيب في أحد الأيام بعد صلاة العصر يتكلّم عن الشيوعية.. قالت الشيوعيّة.. وقالوا الشيوعيون.. وبين كل كلمة وكلمة ترد كلمة الشيوعية.. أو الشيوعيين.. فقام أبو خالد وقال يسأل الخطيب «وشّي الشيوعيّة يا خطيب.. ترنا ما نعرفها».. ولمّا أحس أبو علي أن الخطيب بدأ يروح يمين وشمال في كلامه وقف وقال «الشيوعيّة مثل لمّا يأخذون فلوس ومال أبو ماجد ويوزعونها علينا.. هاذي هي الشيوعية».. فقال أبو خالد «هاذي زينه لعنبو بليسكم..».. والتفت إلى أبو ماجد وأكمل «وش رأيك يا بو ماجد؟».. وكانوا في حالة مرح.. أبو ماجد واحد من كبار التجّار.. ثري.. لأنّه من زمان وهو يقصّد الناس.. ويأخذ فوائد بنسبة خمسين بالميّة.. فجلسوا أياما وهم يمزحون مع أبو ماجد.. ويثيرون المشاحنات بينه وبين أبو علي..
كانت إجاباته وتفسيراته لا تقبل النقاش.. كان أيضا يتدخل في أمور كثيرة ما يتجرأ الآخرون على التدخل فيها.. كانوا مرّة في المسجد.. تعودوا يجلسون بين صلاة المغرب والعشاء.. يقرأ الخطيب بعد الصلاة القرآن ويفسره.. وغالبا يختار القصص القرآني.. وكان في المسجد مكان للنساء.. فيه رواق من الخيش يحجب ما بين الرجال والنساء.. في هاذه المرّة كان الموضوع قصة يوسف عليه السلام.. ولمّا وصل الإمام إلى تآمر إخوته عليه.. بدأت الحريم بالبكاء.. ولمّا ألقوه في البئر.. ارتفع الصياح والبكاء.. ولمّا بدأ يفصّل في حزن أبوه يعقوب عليه السلام.. وكيف إنه انعمى من كثرة البكاء على يوسف عليه السلام.. اختلط الصياح والبكاء بالنشيج والنشيق.. فزعل أبوعلي.. و وقف عند الرواق.. ورأسه فوق الرواق.. وقال وهو زعلان «وش فيكن الله يقطعكن.. ما نقدر نسمع.. اصبرن يا بنات الحلال.. اصبرن شويّ.. يبي الله يجمع شملهم.. لا تستعجلن.. يبي يلقاه أبوه.. حصلوه أجواد وأخذوه معهم لأمير مصر...».. قالت أم سليمان وكانت أطول الحريم نشيجا ونشيقا.. حتى إني لو كنت في أعلى منارة المسجد أصلّح.. مثلا.. الميكرفون.. كان سمعت نشقتها من طولها.. قالت «الله يبشرك بالخير يا بوعلي.. وش عرّفنا حنّا.. ما عندنا مثل علمكم يا بوعلي..».. ثم محشت خشمها بطرف شيلتها.. وغيّرت من طريقة جلستها..
يعود أبو علي إلى مكانه ويسند ظهره.. يستمع لكنه يسرح خاطره مع أولاده.. يتذكرهم..
قرر في هاذه اللحظة.. وهو يستمع لقصة يعقوب أن لا ينتظر أولاده.. وقال في نفسه «الله لا يردهم.. وش أبغى فيهم هالحين.. وأنا رجلي في القبر».. حتى إنه حين خرجنا من المسجد قال لي يوصيني «يا بو هايس إنت ولدي.. أبي أوصيك.. إذا مت ادفني في قبري وأنا واقف.. لا تسدحوني.. أبي إذا نُـفخ في الصور أوّل من يصعد للسما أنا.. مثل الصاروخ.. عسى الله يعوّضني.. ان شاء الله».. أحسست أن منيته قربت.. خاصة أنه بطّل الإجابة.. وبدأ هو يكثر من الأسئلة.. سألني في ذيك الليلة وكنّا أمام التلفزيون نسمع كلمة بدأها صاحبها بقوله أصحاب السمو أصحاب الفضيلة أصحاب السعادة... سألني «أنا يا بو هايس من أيهم.. لو أنا جالس معهم وحاضر عندهم.. أصير من أصحاب السمو أو أصحاب الفضيلة أو أصحاب السعادة؟».. قلت له «إنت من أصحاب أبو هايس.. وهاذا كافي».. فشدّني بين ذراعيه وحبّني وقال «يا بعد حيّي وميتي يا بو هايس»..
مثل ساق نعامة.. طويل ونحيف.. لا يأكل ولا يشرب.. كل ما يفعله أنه يشرب الشاهي في كل دقيقة وزكارته ما تطفي أبدا.. حتى أن مساحة كبيرة من شواربه صفراء من الدخّان.. كأنها حقل قمح ينتظر الحصاد.. تعرفت عليه في وقت متأخر من حياته للأسف.. لفت انتباهي بإجاباته وتفسيراته.. ثقته بنفسه كبيرة.. إذا أحد سأل عن أمر من الأمور بادر بالإجابة.. إذا رأى أحدا محتارا في أمر أو ظاهرة قدّم له تفسيرا.. إجابته دايما غريبة.. وتفسيره أكثر غرابة كثير من أموره تلفت الانتباه.
كنا نجلس في مجلس شيبان.. وكان أحدهم يسأل عن «تورا بورا».. فكثرت الاجابات.. بعضهم يقول إنها قبيلة.. وبعضهم يقول إنها مدينة.. وبعضهم يقول إنها سفينة.. أحدهم قال إنها زوجة أمير باكستان.. أبو علي لمّا سمع إجاباتهم اختصر عليهم المشوار وقال «تورا بورا مثل لمّا نقول خيطي بيطي».. والجماعة يعرفون أن إجابة أبو علي دايما هي الإجابة الشافية الكافية.
تشوقت أن أعرفه أكثر.. فكان لي ما أحببت.. ازدادت معرفتي به.. وصاحبته وصاحبني.. استأنست معه واستأنس معي.. لابقين على بعض.. عرفت أنه تزوج في وقت قديم وأنجب ولدين.. ماتت زوجته وبقي دون زوجة من شان ولديه.. ولمّا كبروا هجروه لأنه يدخّن ولأنه يحب الغناء.. خاصة السامري.. فبقي في بيته وحيدا.. تزوره بنت أخته وتهتم به.. وجيرانه.. والأصدقاء.. كأن الناس صاروا عائلته.. مع إنه قال لي مرّة وهو يتكلم بحسرة عن أولاده «والله يابو هايس كأنه مكسور ظهري.. من يوم تركوني عيالي»..
ما يحب السكون.. إذا جلس خمس دقائق يقف.. حتى لو كان يتكلم.. ثم يرجع يجلس.. يقف آلاف الوقفات.. ويجلس آلاف الجلسات في ساعة واحدة.. أحيانا يخرج ويمشي ثم يعود..
أوّل من يدخل المسجد.. لكنه يخرج من المسجد مرّات قبل الإقامة.. يقف عند الباب ثم يرجع.. حتى إنّه يخلق الأسباب لحركته.. مرّة سمع صوت سيارة ونحن في المسجد.. فقال لي يسألني «أظن هاذا جلعود.. رايح لأبو سالم».. فلم أجبه لأني كنت أصلي ركعتي السنّة قبل الفرض.. وما سلّمت.. فواصل كلامه وهو ينهض «أنا متأكد يا بن الحلال.. هالحين أشوفه وأعلّمك».. حتى إني ضحكت.. وخربت ركعتيني.. لأني كنت في التحيات..
كان الخطيب في أحد الأيام بعد صلاة العصر يتكلّم عن الشيوعية.. قالت الشيوعيّة.. وقالوا الشيوعيون.. وبين كل كلمة وكلمة ترد كلمة الشيوعية.. أو الشيوعيين.. فقام أبو خالد وقال يسأل الخطيب «وشّي الشيوعيّة يا خطيب.. ترنا ما نعرفها».. ولمّا أحس أبو علي أن الخطيب بدأ يروح يمين وشمال في كلامه وقف وقال «الشيوعيّة مثل لمّا يأخذون فلوس ومال أبو ماجد ويوزعونها علينا.. هاذي هي الشيوعية».. فقال أبو خالد «هاذي زينه لعنبو بليسكم..».. والتفت إلى أبو ماجد وأكمل «وش رأيك يا بو ماجد؟».. وكانوا في حالة مرح.. أبو ماجد واحد من كبار التجّار.. ثري.. لأنّه من زمان وهو يقصّد الناس.. ويأخذ فوائد بنسبة خمسين بالميّة.. فجلسوا أياما وهم يمزحون مع أبو ماجد.. ويثيرون المشاحنات بينه وبين أبو علي..
كانت إجاباته وتفسيراته لا تقبل النقاش.. كان أيضا يتدخل في أمور كثيرة ما يتجرأ الآخرون على التدخل فيها.. كانوا مرّة في المسجد.. تعودوا يجلسون بين صلاة المغرب والعشاء.. يقرأ الخطيب بعد الصلاة القرآن ويفسره.. وغالبا يختار القصص القرآني.. وكان في المسجد مكان للنساء.. فيه رواق من الخيش يحجب ما بين الرجال والنساء.. في هاذه المرّة كان الموضوع قصة يوسف عليه السلام.. ولمّا وصل الإمام إلى تآمر إخوته عليه.. بدأت الحريم بالبكاء.. ولمّا ألقوه في البئر.. ارتفع الصياح والبكاء.. ولمّا بدأ يفصّل في حزن أبوه يعقوب عليه السلام.. وكيف إنه انعمى من كثرة البكاء على يوسف عليه السلام.. اختلط الصياح والبكاء بالنشيج والنشيق.. فزعل أبوعلي.. و وقف عند الرواق.. ورأسه فوق الرواق.. وقال وهو زعلان «وش فيكن الله يقطعكن.. ما نقدر نسمع.. اصبرن يا بنات الحلال.. اصبرن شويّ.. يبي الله يجمع شملهم.. لا تستعجلن.. يبي يلقاه أبوه.. حصلوه أجواد وأخذوه معهم لأمير مصر...».. قالت أم سليمان وكانت أطول الحريم نشيجا ونشيقا.. حتى إني لو كنت في أعلى منارة المسجد أصلّح.. مثلا.. الميكرفون.. كان سمعت نشقتها من طولها.. قالت «الله يبشرك بالخير يا بوعلي.. وش عرّفنا حنّا.. ما عندنا مثل علمكم يا بوعلي..».. ثم محشت خشمها بطرف شيلتها.. وغيّرت من طريقة جلستها..
يعود أبو علي إلى مكانه ويسند ظهره.. يستمع لكنه يسرح خاطره مع أولاده.. يتذكرهم..
قرر في هاذه اللحظة.. وهو يستمع لقصة يعقوب أن لا ينتظر أولاده.. وقال في نفسه «الله لا يردهم.. وش أبغى فيهم هالحين.. وأنا رجلي في القبر».. حتى إنه حين خرجنا من المسجد قال لي يوصيني «يا بو هايس إنت ولدي.. أبي أوصيك.. إذا مت ادفني في قبري وأنا واقف.. لا تسدحوني.. أبي إذا نُـفخ في الصور أوّل من يصعد للسما أنا.. مثل الصاروخ.. عسى الله يعوّضني.. ان شاء الله».. أحسست أن منيته قربت.. خاصة أنه بطّل الإجابة.. وبدأ هو يكثر من الأسئلة.. سألني في ذيك الليلة وكنّا أمام التلفزيون نسمع كلمة بدأها صاحبها بقوله أصحاب السمو أصحاب الفضيلة أصحاب السعادة... سألني «أنا يا بو هايس من أيهم.. لو أنا جالس معهم وحاضر عندهم.. أصير من أصحاب السمو أو أصحاب الفضيلة أو أصحاب السعادة؟».. قلت له «إنت من أصحاب أبو هايس.. وهاذا كافي».. فشدّني بين ذراعيه وحبّني وقال «يا بعد حيّي وميتي يا بو هايس»..