المعلم
20-02-2007, 12:40 AM
د. صالح الشويرخ
لا زال التعليم المحلي غير قادر على تهيئة الطلاب والطالبات تهيئة علمية وتربوية وعقلية ونفسية واجتماعية مناسبة، وهي نتيجة يكاد يتفق عليها أغلب الناس. وبدلاً من أن تسهم المدرسة في تعزيز القدرات العقلية والذهنية عند الطلاب، وتنمية مهاراتهم الاجتماعية والفردية، يبدو لي أنها تسهم بطرق مباشرة وغير مباشرة في كبح تلك القدرات وتعطيلها، وقد يصل الأمر إلى القضاء عليها. إن ما يدور داخل مدارسنا لا يمكن أن يطلق عليه عملية تعليم حقيقية، بل هي أشبه بعملية ترويض قاسية. وأعتقد أن النظام التعليمي ينظر إلى الطفل قبل دخوله المدرسة - سواء كان ذلك بطريقة شعورية أو غير شعورية، مقصودة أو غير مقصودة - على أنه كائن غير مروَّض لا يستطيع العيش مع الآخرين إلا بعد أن يمرّ بعملية ترويض تهذّبه وتجعله يدرك أنماط السلوك المقبول داخل أسوار المدرسة ويلتزم بها ويطبّقها بحذافيرها، وهي أنماط قد تقتل ملكة الإبداع والابتكار عند الطفل وتجعل تفكيره منصباً على كيفية تطبيق تلك القوانين الصارمة فتشتت جهوده ويقلّ تركيزه ويتيه في دهاليز التشريعات والقوانين المدرسية.
ومن الغرائز الطبيعية عند الطفل التي تتعرض للتعطيل داخل المدرسة غريزة الفضول وحب الاستطلاع والاندفاع نحو الاستعلام المتمثلة في طرح الأسئلة والاستفسارات حول كل شيء يصادفه الطفل تقريباً، وهي من أروع وأجمل الغرائز الطفولية على رغم أننا لا نحسن التعامل معها. إن هذه النزعة الجياشة عند الطفل من أهم النزعات التي يفترض أن تسعى المدرسة إلى تنميتها وتطويرها عند الطفل؛ لأن طرح الأسئلة هي بداية الطريق نحو الإبداع والابتكار؛ إذ إن كثيراً من الابتكارات والاختراعات بدأت بطرح أسئلة لم تُطرح من قبل. ولكن يبدو أن أولى مهمات النظام التعليمي التقليدي كبح جماح هذه الغريزة، ومن ثَمَّ القضاء عليها، وهي أكثر العمليات الترويضية المدرسية قسوةً وأشدها تنكيلاً.
من ناحية أخرى، تنقسم الأسئلة التعليمية قسمين: النوع الأول أسئلة يطرحها المعلم وهو يعرف إجابتها مسبقاً ولا تحتمل غالباً إلا جواباً واحداً، وينتظر من الطلاب أن يدلوا بهذه الإجابة، ولا يقبل منهم أي إجابة أخرى حتى وإن كانت إجابة يمكن قبولها. ويظهر أن هذا النمط من الأسئلة هو الطاغي والمنتشر في الفصول والقاعات الدراسية في مدارسنا. أما النوع الثاني فهو أسئلة يطرحها المعلم، وهو لا يعرف الإجابة عنها بالتحديد، فهي تحتمل أكثر من إجابة، وهو لا ينتظر من الطلاب إجابة محدّدة، بل الفرصة مفتوحة لاستقبال أكبر عدد ممكن من الإجابات، وهذا النوع من الأسئلة لا وجود له في القاعات الدراسية، وإن وجد فهو نادر الحدوث على ما أظن. إن هذه العملية التي يتم فيها تدريب الطفل على ترديد ما يريده المعلم، والاستجابة للمثيرات بالطريقة التي يفضّلها المعلم، ومنع الطفل من طرح الأسئلة، وإجباره على الإجابة عن أسئلة محددة وضعها المعلم، ومن ثَمَّ إجباره على اختيار الجواب الذي يريده المعلم دون غيره؛ هي عملية ترويضية بكل ما تعني هذه الكلمة من معنى.
إن تدريب الطفل على الإجابة عن الأسئلة المطروحة بطريقة معينة قد يقتل في الطفل ملَكة التفكير والابتكار من خلال منعه من ممارسة حقه في التفكير في بدائل مختلفة، ويصبح كأنه كائن تم ترويضه ليتصرف ويفكر بطريقة معينة حدّدها المعلم ولا يمكن له أن يتجاوزها، وإن تجاوزها فقد يتعرض للعقوبة أو الإهمال أو التندُّر. إننا على ما يبدو نعامل الطفل عند دخوله المدرسة على أنه غير قادر على التفكير والتصرف بطريقة مناسبة تناسب الأعراف المدرسية التقليدية، مع أن الطفل عند دخوله المدرسة - كما أثبت ذلك كثير من الدراسات - يتميز بملَكة إبداع كبيرة ونزعة فضول تقود إلى الابتكار، لكن هذه الملَكة لا تناسب نظام المدرسة الصارم، وبالتالي يجب نزعها والقضاء عليها حتى يصبح الطفل قادراً على التعايش مع أقرانه الذين سبقوه في عملية الترويض وقادراً على الالتزام بقوانين المدرسة. إن استئصال نزعة الفضول لدى الطفل واجتثاثها من جذورها يشبه استئصال الزائدة الدودية من جسم الإنسان وكأنها عضو فاسد يهدّد النظام المدرسي الذي يجب المحافظة عليه ومعاقبة كل مَن يحاول كسره، فهي (أي نزعة الفضول) من مخلفات الحياة الفوضوية التي كان الطفل يعيشها قبل دخوله المدرسة ولا تنسجم مع النظام المدرسي الذي يريد ممن ينتسب إليه أن يلتزم بقوانينه وأعرافه التزاماً صارماً، حتى وإن كان كثير من هذه الأنظمة والقوانين يصطدم مع آليات التعلم الطبيعي واستراتيجياته التي عادةً ما تكون موجودة عند الطفل قبل دخوله المدرسة.
إن المهارات التعليمية الطبيعية الموجودة عند الطفل غريزياً تشمل عدة مهارات، منها: مهارات الاستكشاف، ومهارات التجريب، ومهارات الاستعلام والاستفسار. ويمارس الطفل هذه المهارات بشكل شبه يومي في البيت وفي كل مكان طبيعياً دون توجيه أو تعليم أو تدريب. وعندما يدخل الطفل المدرسة تبدأ عمليات الترويض الموجّهة نحو هذه المهارات للقضاء عليها على رغم أن وظيفة المدرسة يُفترض أن تكون تعزيز هذه المهارات وتهذيبها وتطويرها وتحسينها ومساعدة الطفل في تحويلها من منطقة اللاشعور إلى منطقة الشعور حتى يتمكن الطفل من الاستفادة منها الاستفادة القصوى واستثمارها إلى أقصى درجة ممكنة.
أخيراً، أودّ أن أشير إلى أن النظام التعليمي المحلي ليس النظام المدرسي الوحيد الذي يشكو من تسلّط هذه الثقافة الترويضية، بل هي ثقافة تطغى على كثير من الأنظمة التعليمية في أغلب دول العالم، ولكن بنسب ودرجات متفاوتة. وأرى شخصياً أن هذه الثقافة الترويضية تتجلى في أقوى صورها وأشدّ أشكالها في النظام التعليمي المحلي. ولست في هذا المقال أسعى إلى تحميل جهة معينة مسؤولية هذا الخلل في النظام التعليمي، ولكنني أسعى إلى تلمّس المشكلة والبحث عن بعض أسباب تدهور النظام التعليمي المحلي، محاولاً إشراك القراء الكرام في هذه العملية التحسُّسية. كما أنني على يقين تام بأن هذه الظاهرة أو المشكلة لا يمكن تجاوزها بمجرد إحداث تغييرات شكلية في المنهج الدراسي أو طرق التدريس، بل هي بحاجة إلى إحداث تغييرات في الفلسفة التربوية ووظيفة المدرسة ونظرة المجتمع إلى العملية التعليمية ودور المعلم والطالب، وهي تغييرات تتطلب خططاً استراتيجية قصيرة المدى وبعيدة المدى تتبناها المؤسسات الحكومية ذات العلاقة.
لا زال التعليم المحلي غير قادر على تهيئة الطلاب والطالبات تهيئة علمية وتربوية وعقلية ونفسية واجتماعية مناسبة، وهي نتيجة يكاد يتفق عليها أغلب الناس. وبدلاً من أن تسهم المدرسة في تعزيز القدرات العقلية والذهنية عند الطلاب، وتنمية مهاراتهم الاجتماعية والفردية، يبدو لي أنها تسهم بطرق مباشرة وغير مباشرة في كبح تلك القدرات وتعطيلها، وقد يصل الأمر إلى القضاء عليها. إن ما يدور داخل مدارسنا لا يمكن أن يطلق عليه عملية تعليم حقيقية، بل هي أشبه بعملية ترويض قاسية. وأعتقد أن النظام التعليمي ينظر إلى الطفل قبل دخوله المدرسة - سواء كان ذلك بطريقة شعورية أو غير شعورية، مقصودة أو غير مقصودة - على أنه كائن غير مروَّض لا يستطيع العيش مع الآخرين إلا بعد أن يمرّ بعملية ترويض تهذّبه وتجعله يدرك أنماط السلوك المقبول داخل أسوار المدرسة ويلتزم بها ويطبّقها بحذافيرها، وهي أنماط قد تقتل ملكة الإبداع والابتكار عند الطفل وتجعل تفكيره منصباً على كيفية تطبيق تلك القوانين الصارمة فتشتت جهوده ويقلّ تركيزه ويتيه في دهاليز التشريعات والقوانين المدرسية.
ومن الغرائز الطبيعية عند الطفل التي تتعرض للتعطيل داخل المدرسة غريزة الفضول وحب الاستطلاع والاندفاع نحو الاستعلام المتمثلة في طرح الأسئلة والاستفسارات حول كل شيء يصادفه الطفل تقريباً، وهي من أروع وأجمل الغرائز الطفولية على رغم أننا لا نحسن التعامل معها. إن هذه النزعة الجياشة عند الطفل من أهم النزعات التي يفترض أن تسعى المدرسة إلى تنميتها وتطويرها عند الطفل؛ لأن طرح الأسئلة هي بداية الطريق نحو الإبداع والابتكار؛ إذ إن كثيراً من الابتكارات والاختراعات بدأت بطرح أسئلة لم تُطرح من قبل. ولكن يبدو أن أولى مهمات النظام التعليمي التقليدي كبح جماح هذه الغريزة، ومن ثَمَّ القضاء عليها، وهي أكثر العمليات الترويضية المدرسية قسوةً وأشدها تنكيلاً.
من ناحية أخرى، تنقسم الأسئلة التعليمية قسمين: النوع الأول أسئلة يطرحها المعلم وهو يعرف إجابتها مسبقاً ولا تحتمل غالباً إلا جواباً واحداً، وينتظر من الطلاب أن يدلوا بهذه الإجابة، ولا يقبل منهم أي إجابة أخرى حتى وإن كانت إجابة يمكن قبولها. ويظهر أن هذا النمط من الأسئلة هو الطاغي والمنتشر في الفصول والقاعات الدراسية في مدارسنا. أما النوع الثاني فهو أسئلة يطرحها المعلم، وهو لا يعرف الإجابة عنها بالتحديد، فهي تحتمل أكثر من إجابة، وهو لا ينتظر من الطلاب إجابة محدّدة، بل الفرصة مفتوحة لاستقبال أكبر عدد ممكن من الإجابات، وهذا النوع من الأسئلة لا وجود له في القاعات الدراسية، وإن وجد فهو نادر الحدوث على ما أظن. إن هذه العملية التي يتم فيها تدريب الطفل على ترديد ما يريده المعلم، والاستجابة للمثيرات بالطريقة التي يفضّلها المعلم، ومنع الطفل من طرح الأسئلة، وإجباره على الإجابة عن أسئلة محددة وضعها المعلم، ومن ثَمَّ إجباره على اختيار الجواب الذي يريده المعلم دون غيره؛ هي عملية ترويضية بكل ما تعني هذه الكلمة من معنى.
إن تدريب الطفل على الإجابة عن الأسئلة المطروحة بطريقة معينة قد يقتل في الطفل ملَكة التفكير والابتكار من خلال منعه من ممارسة حقه في التفكير في بدائل مختلفة، ويصبح كأنه كائن تم ترويضه ليتصرف ويفكر بطريقة معينة حدّدها المعلم ولا يمكن له أن يتجاوزها، وإن تجاوزها فقد يتعرض للعقوبة أو الإهمال أو التندُّر. إننا على ما يبدو نعامل الطفل عند دخوله المدرسة على أنه غير قادر على التفكير والتصرف بطريقة مناسبة تناسب الأعراف المدرسية التقليدية، مع أن الطفل عند دخوله المدرسة - كما أثبت ذلك كثير من الدراسات - يتميز بملَكة إبداع كبيرة ونزعة فضول تقود إلى الابتكار، لكن هذه الملَكة لا تناسب نظام المدرسة الصارم، وبالتالي يجب نزعها والقضاء عليها حتى يصبح الطفل قادراً على التعايش مع أقرانه الذين سبقوه في عملية الترويض وقادراً على الالتزام بقوانين المدرسة. إن استئصال نزعة الفضول لدى الطفل واجتثاثها من جذورها يشبه استئصال الزائدة الدودية من جسم الإنسان وكأنها عضو فاسد يهدّد النظام المدرسي الذي يجب المحافظة عليه ومعاقبة كل مَن يحاول كسره، فهي (أي نزعة الفضول) من مخلفات الحياة الفوضوية التي كان الطفل يعيشها قبل دخوله المدرسة ولا تنسجم مع النظام المدرسي الذي يريد ممن ينتسب إليه أن يلتزم بقوانينه وأعرافه التزاماً صارماً، حتى وإن كان كثير من هذه الأنظمة والقوانين يصطدم مع آليات التعلم الطبيعي واستراتيجياته التي عادةً ما تكون موجودة عند الطفل قبل دخوله المدرسة.
إن المهارات التعليمية الطبيعية الموجودة عند الطفل غريزياً تشمل عدة مهارات، منها: مهارات الاستكشاف، ومهارات التجريب، ومهارات الاستعلام والاستفسار. ويمارس الطفل هذه المهارات بشكل شبه يومي في البيت وفي كل مكان طبيعياً دون توجيه أو تعليم أو تدريب. وعندما يدخل الطفل المدرسة تبدأ عمليات الترويض الموجّهة نحو هذه المهارات للقضاء عليها على رغم أن وظيفة المدرسة يُفترض أن تكون تعزيز هذه المهارات وتهذيبها وتطويرها وتحسينها ومساعدة الطفل في تحويلها من منطقة اللاشعور إلى منطقة الشعور حتى يتمكن الطفل من الاستفادة منها الاستفادة القصوى واستثمارها إلى أقصى درجة ممكنة.
أخيراً، أودّ أن أشير إلى أن النظام التعليمي المحلي ليس النظام المدرسي الوحيد الذي يشكو من تسلّط هذه الثقافة الترويضية، بل هي ثقافة تطغى على كثير من الأنظمة التعليمية في أغلب دول العالم، ولكن بنسب ودرجات متفاوتة. وأرى شخصياً أن هذه الثقافة الترويضية تتجلى في أقوى صورها وأشدّ أشكالها في النظام التعليمي المحلي. ولست في هذا المقال أسعى إلى تحميل جهة معينة مسؤولية هذا الخلل في النظام التعليمي، ولكنني أسعى إلى تلمّس المشكلة والبحث عن بعض أسباب تدهور النظام التعليمي المحلي، محاولاً إشراك القراء الكرام في هذه العملية التحسُّسية. كما أنني على يقين تام بأن هذه الظاهرة أو المشكلة لا يمكن تجاوزها بمجرد إحداث تغييرات شكلية في المنهج الدراسي أو طرق التدريس، بل هي بحاجة إلى إحداث تغييرات في الفلسفة التربوية ووظيفة المدرسة ونظرة المجتمع إلى العملية التعليمية ودور المعلم والطالب، وهي تغييرات تتطلب خططاً استراتيجية قصيرة المدى وبعيدة المدى تتبناها المؤسسات الحكومية ذات العلاقة.