المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : لا يفوتكم مكاشفة مع وزير التربية والتعليم السابق محمد أحمد الرشيد



ينبع
09-09-2005, 05:29 PM
http://www.jojokw.net/s606s/resalah4.jpg


معالي وزير التربية والتعليم السبق الدكتور محمد بن أحمد الراشد في أولى مكاشفاته

في أولى مكاشفاته تحدث معالي وزير التربية والتعليم السابق د.محمد بن أحمد الرشيد عن طفولته وتنشئته الاجتماعية، وقال إنه نشأ في بيئة مُحافِظة بمدينة المجمعة السعودية، ساردًا مراحل دراسته الابتدائية والمتوسطة بشيء من التفصيل التاريخي. وقرر د.الرشيد بأن من يلجأ للضرب هو معلم مخفق وضعيف القدرات.. أما المعلم الناجح فيؤثر في الطلاب بقوة شخصيته، مؤكدًا على أن مهمة التعليم العام أن يجعلك تحب دينك ووطنك، وتتعلم مهنة تحبها. أمـــا التخصص - في رأيه - فهو من مهمة مؤسسات التعليم العالي. وتحدى معاليه أيٌّا من خصومه أن يثبت أنه طالَب يومًا بتقليل حصص علوم الدين قبل أن يكون في الوزارة، وبعد أن تركها، وأثناء عملــه فـيها. وإلى الجزء الأول :


أشكر لك موافقتك على أن تكون ضيفاً على (مكاشفات)، وسأبدأ مباشرة معك معالي الوزير بالحديث عن مراحل الطفولة والتنشئة الاجتماعية جرياً على عادة هذه الحوارات. ولدت في عام 1363هـ بمدينة المجمعة حدثنا عن البيئة الأسرية والاجتماعية التي نشأت فيها.
- كما تعرف -في ذلك الزمن الذي ولدت فيه - كان مجتمعنا صغيراً محافظاً، لا علاقة له بالعالم الخارجي، أقصى ما كنا نعرف - ويعرف آباؤنا- هو مدننا في المملكة، والمطّلع منهم زار بعض المدن في الدول العربية المجاورة. كان احتكاكنا بالناس محدوداً حتى وصل التعليم إلينا، وبدأ وقتها عبر الإخوة العرب من مصر وفلسطين وسوريا وبقية الدول العربية، وأتصور أن هذه كانت بداية انفتاحة كبرى لنا. مما علق بذاكرتي من تلك الأيام، أنه لم يكن لدينا كهرباء، بل كانت السرج ( الأتاريك، والفوانيس) وما شابهها. أما المياه فعن طريق الآبار الجوفية نمتحها بالدلو، ثم ننقلها إلى بيوتنا بواسطة أوانٍ من النحاس كبيرة، تسمى الواحدة منها (قِدْراً)، نحمله فوق رؤوسنا ونضع قماشاً ملفوفاً مكوّراً ليحمي رؤوسنا من ضغط الإناء الصلب، وعادة ما تكون بالقرب من المسجد حتى يستطيع الناس أن يتوضأوا منها. توفى والدي - رحمه اللّه - وعمري قريب من العشرين عاماً، ولم يكن عندنا شيء من تقنيات ذلك الزمان، كالراديو؛ لأن الوالد كان يرى أن الراديو شيء محظور ينبغي ألا يكون في بيتنا. نشأت إذن في بيئة محافظة حتمـــت عليهــا ظروفهـــا التقشف في كل شـيء.

أدركت فيما بعد أن اسم عثمان في الماضي والحاضر هو أكثر شيوعاً في المجمعة من أي بلد آخر في المملكة، ولقد نبهني إلى ذلك صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبد العزيز.

* هل كنتم أسرة تمتهن الزراعة معالي الوزير؟

- لم نكن مزارعـــين. كان والــدي - رحمــه اللّه - تاجراً بمفهوم التجار وقتذاك، يبيع في الدكان الأرزاق، كالقهوة والشاي والأرز.. وغيرها.

* وهل أنت أكبر أخوتك ؟

- نعم، أنا أكبر إخوتي الذكور. هناك إناث أكـبر مني، وكان أبي - رحمه اللّه - يعتمد عليّ بشكل كبير، وكان متقدماً في السنّ حين وعيت الحياة التي كانت تقشفاً وبساطة، وكان بيننا تواصل اجتماعي وترابط كبير بين الأسر، بل أذكر أنني حين تركت مدينة المجمعة تركتها وأنا أعرف جميع سكانها وبيوتها وأسرها، مجتمعنا ذاك الوقت كان متواصلاً ومتراحماً، ولذلك أنا حريص أن يعرف جيل هذا الزمن كيف كان آباؤهم وأجدادهم يعيشون، وإلامَ انتهينا نحن ؟ أتذكر أن السفر من المجمعة - التي تبعد أقل من 180كلم عن الرياض حالياً - كان يأخذ منا من 8 - 9 ساعات على الأقل في طريق ترابي.

في الصيف كنا نخرج بعد صلاة العصر بسيارات النقل (اللوري) نسهر الليل كله، وإذا أقبلنا على الرياض قريباً من المطار القديم نمنا حتى لا نطرق الناس ليلاً، وإذا صلينا الفجر، وطلعت الشمس دخلنا البلد، وكل منا توجه إلى وجهته التي يريدها، وكذا الحال فيما لو أننا خرجنا من الرياض إلى المجمعة، أما إن كان السفر في الشتاء.. فخروجنا من البلد بعد صلاة الفجر كي نصل إلى مقصدنا بعد المغرب مباشرةً. وإن كان هناك أمطار.. فسفرنا قد يستغرق يومين؛ لأن السيارة تغرّز في الطين، ونعاني الكثير حتى نخرجها. هكذا كانت حياتنا، لكن الطفرة التي مرت علينا أحدثت انقلاباً فيها..

* معالي الوزير، الزمن الذي ولدت فيه شهد نهاية الحرب العالمية الثانية، وبدايات التأسيس للكيان السعودي. وسؤالي هنا عن الذي علق في ذاكرة الطفل محمد الرشيد في تلك الفترة المبكرة من حكايات الآباء والأجداد ؟

- علق في ذهني أشياء كثيرة منها: رؤية أبي وجيله يتحدثون عن عظمة تكوين هذا الكيان. والدي - على سبيل المثال - ممن شارك في غزوات كثيرة مع الملك عبد العزيز - رحمه اللّه - ، وكان مما يطربه أنهم في تلك الغزوات كانوا يقيمون العرضة السعودية ابتهاجاً بالنصر، وكان يُدلّ - رحمه اللّه - دوماً بأنه في إحدى العرضات فوجىء بالملك عبد العزيز ينضم إليهم في الصف ويمسك بيد أبي. وكانت هذه إحدى الأشياء التي لفتت انتباهي وأنا أستمع لحكاياتهم في مسامراتهم التي كانوا يتحدثون فيها عن عصرهم وشبابهم، وكيف كانوا في حالة من البؤس والفقر والخوف قبل أن يوحّد الملك المؤسس هذا الكيان. أبي قصّ عليّ أن عمي ذهب مع بعض رفاقه - قبل استقرار الأمن في بلدنا - يقطعون النبت من الأرض في زمن الربيع، فهاجمهم أحد قُطَّاع الطرق، الذين نسميهم في نجد (الحنشل)، فقتله وسلب كل ما لديه، وقد حاول عمي - رحمه اللّه - أن يقاومه ولكن دون جدوى، فكان أبي يحكي لنا - بكثيــر من الأسى والألم - هذه الحوادث التي تتكـرر. لذلك كان حديثهم عما فعله الملك عبد العزيز، وما أقام به هذا الكيان ببطولتــه النادرة، وما أقامه من عدل وأمن، كان حديــث العـــارف بالنعمــة. الملك عبد العزيـــز كان بالنسبة لهـــم أمثولـــة وأعجوبة، وأنا أتذكر حينما توفي الملك عبد العزيز - رحمه اللّه - كنت صغيراً في السن حينها، وقد صلينا العصر ولم يكن لدينا راديو - كما أسلفت لك - وإذا بشخص من عِلية الناس في المجمعة لديه راديو ناداني وقال: يا محمد تعالَ بلّغ أباك أن الملك عبد العزيز توفي، وأتذكر أن الخبر كان له وقع الزلزلة، وهرعت إلى أبي فزعاً وأنا أصيح أبي.. أبي، وكان - رحمه اللّه - منتظراً الطعام الذي وضع أمامه ( وكنا في ذلك الزمن نتناول وجبة واحدة هي غداؤنا وعشاؤنا، بعد صلاة العصر والأسرة تنتظر حتى يكتمل الجميع على السفرة ) فقـــرأ الفزع في وجهي وقــال: ماذا لديك ؟ أجبته وأنا ألهــث: قال لي فلان إن الملك عبد العزيز توفي. فترك الطعام وقام من فوره إلى غرفة المخزن، وأخرج بندقيته ظاناً أن الأمور ستعود إلى ما كانت عليه قبل عهد ذلك المؤسس العظيم. هذه لحظات لا أنساها .

* عفواً معالي الوزير.. كم كان عمرك وقتذاك ؟

- أظن أن عمـري 10 سنوات.. أتذكـر تلك اللحظات، وقـد تركنا الطعام، والأسرة تنظر إلى والدي وهو يتفقد بندقيته ويدهنها بالزيت، كان يظن أن الدنيا بعد الملك عبد العزيز ستنقلب، ولا أذكر شيئاً أفزع أبي مثل هذه الحادثة التي تدل على مكانة الملك عبد العزيز في قلوب رعيته، وعلى ما حققه من أمن وطمأنينة .

* وماذا عن الحرب العالمية الثانية.. هل وعيت شيئاً من حوادثها ؟

- لم أعها، ولا أذكرها. كانوا يتحدثــون عن الألمان والحلفاء، وكان حديثاً لا أفهمه، إذ كنت صغيراً في السن كما تعرف.



المجمعة..مدينة الطفولة

* لأتجه بسؤالي إلى المجمعة معالي الوزير.هلاّ أعطيتنا نبذة عن مدينتك التي أكاد أجزم لك أن معظم تلاميذ المملكة في غير منطقة نجد والقصيم لا يعرفون عنها شيئاً ؟

- المجمعة تقع فـــي شمال الرياض، وتبعد عنها 180كلم، وهي تمثل مع مجموعة من القرى الكثيرة محافظة المجمعة، وكانت تُسمَّى المحافظة في السابق بسدير وقاعدتها وكبرى مدنها المجمعة ،وبعض مدنها الحوطة، والروضة، وجلاجل، وتمير، والإرطاوية .

* هل هي منطقة زراعية ؟

- نعم هي منطقة زراعية. أتذكـــر أن أحــد المثقفين زارها، ثم كتب مقالة عنها في إحدى الصحف المحلية، وصفها فيها بأنها مدينة المليون نخلة، وهي منطقة جميلة، وهي من أوليات المناطق التي أقيم فيها سد يحفظ مياه الأمطار، بناه المقاول جميل خوقـــير - رحمه اللّه - وكان كلما قابلني يقـــول ما رأيك في السد الذي بنيته لكم، وأتاح لكم فرصة التمتع بحفظ مياه السيل ؟ هي أرض زراعية، وهي ملتقى رياض كثيرة عند مجيء الأمطار، كثير من أهل البادية يقضون الربيع حواليها من أجل ماشيتهم، فهي سوق كبيرة للبادية، خاصة في موسم الأمطار.

* سأعود بك معالي الوزير إلى أجواء التربية والتعليم. هلاَّ حدثتنا عن تاريخ التعليم في منطقتكم.. الأهلي منه والحكومي، وعن تلك الأجواء الاجتماعية الشديدة الالتزام كما نسمع عنها؟

- (ضاحكاً ) ليس في تعليمنا أهلي في ذلك الوقت يا عبد العزيز. التعليم كله كان حكومياً.

* قصدت بالأهلي في سؤالي الكُـتَّــاب .

- نعم، قبل عهدي كانوا يقولون إنه كان هناك معلمـــو كتّاب مشهورون، تخرج على أيديهم أناس كثيرون نعرفهم، منهم الشيخ عبد العزيز بن صالح - رحمه الله - الـذي كان إمام الحرم النبوي ورئيس محاكم المدينة المنـورة، وكان أحمد الصانع - رحمه اللّه - صاحب المدرسة والمعلم الوحيد فيها، وكنا نسمع عنه وعن غيره من المعلمين، وحين افتتحت المدرسة الحكومية في المجمعة التحق بها من كان في الكتاتيب. وبالمناسبة كانت المجمعــة من أوليات المدن التي فتح فيها تعليم نظامي في عام 1356هـ، إذ أمر الملك عبد العزيز - رحمه اللّه - أن يُتوسع في إنشاء المدارس خاصة في منطقة نجد التي لم يكن فيها مدارس، ففتحت أربع مدارس.. واحدة منها في المجمعة؛ لذلك فإن أهل المجمعة يفخرون أن التعليم النظامي لديهم بدأ قبل مدينة الرياض، وتحول جميع من في الكتاتيب إليها، وكان إقبال الناس عليها شديداً، وأتذكر أنه كان من ضمن إدارة المدرسة الأستاذ المربي الكبير الشيخ عثمان الصالح - شفاه الله - الذي أسهم في تطوير المدرسة حينما فتحت.

كان بعض الطلاب بعد إنهائهم المرحلة الابتدائية يذهبون إلى دار التوحيد في الطائف، إذ لم تكن هناك مرحلة متوسطة، ولكن كان هناك حرص أكيد من الملك عبد العزيز على نشر العلم، فكانت الحكومة ترسل وفوداً وسيارات لجمع الطلاب الذين يتخرجون في الابتدائية، حتى يأخذوهم إلى الطائف ،حيث مدرسة دار التوحيد، التي كانت لكثير من الناس نقلة نوعية في حياتهم، إذ إنهم يتغربون عن أهليهم ويدرسون في الطائف. أهل المجمعة يقولون كان التعليم جزءاً مهمًا من حياتهم.وبقدر ترحيبهم بتعليم البنين النظامي رحبوا كذلك بتعليم البنات.

* على عكس بعض المناطق المجاورة التي سمعنا عن معارك اجتماعية شديدة فيها .

- تمهل يا عبد العزيز.. أنت تعرف أن بعض الناس في بلادنــا كانت لديهم نظرة ريبة وشك حول المدارس الحديثة؛ لأنها شيء جديد لم يألفوه، وبالمناسبة نحن- منسوبي التعليم - نفخر بأن قيادتنا أثبتت بُعد نظرها في مسألة فرض التعليم في بعض الأحيان على أجزاء عارضت إقامة المدارس، وأثبتت الأيام كم كانت النظرة صائبة والحمد للّه.

ينبع
09-09-2005, 05:32 PM
http://www.jojokw.net/s606s/resalah7.jpg

دار التوحيد : المدرسة الأم


للتو معالي الوزير ذكرتم مدرسة دار التوحيد بالطائف. أبناء منطقة نجد المتفوقون كانوا يحرصون جداً على التعلم بها، وقد كتب الشيخ حمد الجاسر في سوانحه الشهيرة بالزميلة المتألقة (المجلة العربية ) حديثاً ماتعاً عن ذلك العهد، ما السبب في ذلك الحرص برأيك ؟
- سبب ذلك أنه لم يكن لدينا إلا تعليم ابتدائي. ودار التوحيد فيها المرحلتان المتوسطة والثانوية، وقد تخرج فيها الشيخ عبد العزيز بن مسند، وعبد اللّه بن خميس، والشيخ محمد بن جبير أول رئيس لمجلس الشورى.. وغيرهم كثير، كان لدينا تعليم في نجد لكنه كان تعليماً ابتدائياً .


أعود إليك معالي الوزير وأسألك إن كانت دراستك الأولى في الكتاتيب أم في مدرسة نظامية؟ وفي أي عام ؟
- أنا دخلت المدرسة الحكومية، وأنهيت تعليمي في سن مبكـرة جــداً. لو كنت في هذا العصر لما قبلت في التعليم، أما سبب ذلك فهو أن بعض أقاربي ممن يكبرونني سناً دخلوا الابتدائي، فأراد والدي أن ألتحق بهم، وفي تلك الأيام لم يكن هناك تدقيق في العمر. وأنهيت الابتدائية عام 1374هـ في المدرسة الابتدائية الأولى، التي أنشئت في المجمعة، وكانت تسمى المدرسة السعودية، ثم التحقت بالمعهد العلمي.

* فيما يتعلق بالمرحلة الابتدائية، بودي معالي الوزير أن تذكر لنا أسماء بعض أقرانك الذين كانوا معك في صفوف الدراسة.. فلربما قرأوا معنا هذه (المكاشفات)، واستعادوا معك ماضياً وذكريات عذبة؟

- هم كثيرون ممن كانوا فــي سني، لكن ما يحزنني يا عبد العزيز - وهذه سنة الحياة - أن عدداً ممن درسوا معي الابتدائية انتقلوا إلى رحمة اللّه. كلهم بالنسبة إليّ - كما يقـــال -كالحَلقْة لا يدرى أولها من آخرها.. فكلهم أحبابي، على أي حال، من الأصدقاء الذين لا زلت على صلة قوية بهم من زملاء المرحلة الابتدائية الإخوة الأعزاء عثمان بن إبرهيم الأحمد، وعثمان بن سليمان الأحمد، وبدر بن حمد الحقيل، وعثمان بن عبد العزيز الربيعة.. (وانتبه فثلاثة منهم أسماؤهم عثمان!!).


أما وقد ذكرت بعض لِداتك في تلك السن، فمن هم الأساتذة الذين انجذب إليهم الطفل محمد الرشيد في تلك المرحلة، أو ذلك الأستاذ الذي ارتسم أمامك نموذجاً لمعلم ناجح، واستطاع فعلاً أن يأسرك ويجعلك تحب المدرسة؟
- عبد العزيز أنت من جيل يختلف عن جيلي. المدرسة في جيلي كانت هي المصدر الوحيد للمعرفة، ولا توجد مصادر أخرى. لا يوجد إنترنت، ولا تلفزيون، ولا حتى راديو. ومن أراد المعرفة فالمدرسة هي المصدر الوحيد أمامه، لذلك كنا تلقائياً ننجذب إليها، وهذا الانجذاب ليس بالضرورة سببه كفاية المعلمين الذين هم في بعض الأحيان معلمو ضرورة أتت بهم ظروفهم، ولكن كنا نذهب وننجذب للمدرسة لسببين: أولاً لأنها المصدر الوحيد للمعرفة كما ذكرت، وثانياً لأن المدرسة في تلك الأزمنة كانت تُستأجر لها أفضل المباني، وإذا بنيت مدرسة حكومية على الطراز الحديث فهي - مقارنة ببيوتنا الطينية - الأفضل على الإطلاق. أما الآن فإن منازل كثير من الطلاب أفضل بمراحل من مدارسهم. هذا هو جيلنا الذي يختلف عن جيلكم. أنا أتذكر في جيلنا كيف كانت مدرستي الابتدائية في المجمعة هي الأبهى والأجمل والأنظف على مستوى المدينة ولا مثيل لها، هل تتصور أنني كنت أشعر بأنني ذاهب لنزهة حينما أذهب للمدرسة ؟ هل تتصور بأنني لم أكن أعرف الجلوس على الكرسي والماصة إلا حينما جئت إلى المدرسة!! إذ لم تكن لدينا في بيوتنا كراسٍ طبعاً. يبقى أن أذكر لك بأننا في الصفوف الأولى كنا نجلس على الحصر وأحياناً الرمل، وطلب منا المعلمون أن نشتري صناديق الشاي الخشبية الفارغة كي نقعد عليها، ولا أنسى أنني اشتريت صندوقـاً بريال واحد من السوق، وكل واحد يأتي بمقعده للمدرسة، ومع ذلك تبقى المدرسة أفضل بكثير من منازلنا.

* وأنت تستفيض بهذا الحديث العفوي الشائق، بودي سؤالك معالي الوزير عن مدير هذه المدرسة التي درست؟

- المدرسة السعودية الابتدائية مرّ عليها أكثر من مدير من أكثرهم بقاء شخص من فلسطين - رحمه اللّه - اسمه حسين حسونة، وأظن أن الشيخ الفاضل عثمان بن حمد الحقيل كان أحد المديرين.
عقوبة الضرب : إشكالية التربويين


هنا أودّ أن أعرّج معك على الأجواء التربوية السائدة آنذاك، وضروب وآليات العقوبات التي كان يستخدمها معلمو ذاك الزمن. نسمع عن جيلكم أنه كان قاسياً ويستخدم الضرب بسرف وصلف.. هل هذا صحيح؟
- كان آباؤنا يعتقدون أن الضرب وسيلــة جيدة للتعليم والتخلّق بالأخلاق الحسنة، فكانوا يطبقون ذلك علينا. ومعلمونا وقتذاك كانت ثقافة معظمهم ضحلة، بل بعضهم لا يعرف إلا القراءة والكتابة فقط. وأذكر أنهم كانوا يضربون لأتفه الأمور.. لا أنسى معلماً كان إذا أراد أن يتأكد من أننا نتابع أثناء قراءة أحدنا.. كان يأتي الطالب منا على غفلة ويقول أين هو الآن؟ ويطلب منك أن تضع أصبعك على المكان، فإن أخطأت فيبادر إلى أذنيك ويفركهما فركاً موجعاً ، وكان من العيب ونحن أطفال- في ذاك الزمن- أن نصيح أو نقول آه؛ لأننا حينئذٍ نصبح (مسخرة) بين أقراننا طيلة يومنا.


معالي الوزير أما وقد فتحنا موضوع الضرب، فهذا محور لا أود أن يفلت مني، وبودي الوقوف معك عنده. تاريخ التربية يشهد بوقفتك الحازمة ضد استخدام المعلمين للضرب.. ابتداءً هذا الموقف هل انبجس من موقف ما تعرضت له في طفولتك مثلاً، واعذرني على هذا السؤال؟
- أنا لا أريــد يا عبــد العزيــز أن أزكـّـــي نفسي بالقــــول إنني لــــم أضرب أبـــداً ، وليس موقفي هذا ردة فعل لأمر وقع عليّ ،لكنه موقف علمي انحزت إليـــه. وصلت إلى اقتناع أكيد أن الضرب يؤدي - في كثير من الحالات - إلى نتائج سلبية فادحة، بل أعرف أناساً كثيرين حينما أنظر إلى تعاستهم وإخفاقهم في الحياة، وأبحث عن أسبابها.. أجد أن أحدها هو سوء تعامل معلميهم أو آبائهم بالقسوة والضرب، وهناك مثل يقول: بإمكانك جلب الحصان إلى النهـر، لكنك لا تستطيع إجباره على الشرب. أنا اكتشفت من دراساتي التربوية، وتبين لي يقيناً بأن أول شرط لأن تتأثر بمعلمك وأن تستفيد منه، هو أن تحب معلمك وتحترمه، جوابي على سؤالك لم يكن موقفي من الضرب ردة فعل بقدر ما هو يقين مني صادق .

يحتج عليّ البعض بقول الرسول صلى اللّه عليه وسلم: (مروا أبناءكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر)، وما عرفوا أن ثلاث سنوات من الصبر على الأمر بالحسنى، وفي السنة 365 يوماً، وفي كل يوم 5 صلوات، يعني أكثر من خمسة آلاف مرة تأمره بالصلاة وتصبر عليه ثم بعدها تضربه إذا لم يستجب!! ثم ما هــو الضرب المقصــود ؟ هو أن تمسك سواكاً أو نحوه تضربه به ضرباً خفيفاً، والضرب هذا من الوالد وليس من أحد غيره، لا كما رأينا من حالات الضرب المبرح الذي يقوم به بعض المعلمين. وبالمناسبة اكتشفنا حالات كثيرة - ولا زلنا نكتشف- بأنه لا يلجأ للضرب إلا المعلم غير الناجح، أما المعلم الناجح فيؤثر في الطلاب بقوة شخصيته. وأنت تسألني اليوم من الذي أثر عليّ ؟ تربوياً ونفسياً لا يمكن أن يؤثر عليك تأثيراً إيجابياً معلم ضربك، المعلم الناجح لا يحتاج أن يضرب الطالب الذي لديه شـــوق وتـــوق إلى سماعه، وأنا في الحقيقة لا أُقَدِّر أي معلم يخافه طلابــــه، أريد أن يحترموه، وفرق بين أن تخافه وأن تحترمــه، وان كُنْتَ تريد مزيداً من القول بهذا الشأن فارجع إلى مقالتي التي نُشرت في مجلة (المعرفة) بعنوان ( لن يضرب خياركم ).


جميل ومثالي ما قلته، ولكنك معالي الوزير أبنت لنا الجانب الإيجابي من المسألة. أنا أنقل إليك هنا رؤية كثير من الرعيل الأول من أولئك التربويين الذين ينحازون إلى أسلوب الضرب بالعصا. هم يقولون إن الدكتور محمد الرشيد يتحمل وزر ما آل إليه حال المعلم مع الطلاب، ويتحمل جرأة الطلاب على معلميهم إلى درجة ضربه، و تهشيم زجاج سيارته، وما شابهها من الحالات التي أعادت للمجتمع صورة معلم (مسرحية مدرسة المشاغبين). وهذه تهمة شائعة وأريد سماع رأيك فيها ؟
- أؤكد لك الحقيقة العلمية عبر التجارب العديـدة والمشاهــدات. كل معلم ناجح في مهمته لا يمكن أن يؤذى أحداً من طلابه، وكل من هو مخفق وضعيف القدرات يلجأ - من حنقه ومن ردة فعلـه - إلى الضرب، هذا أولاً . وثانياً تبين لنا بما لا يدع مجالاً للشك أن الذين يضربون هم بعض معلمي المرحلة الابتدائية، وإلى حدّ ما في المرحلة المتوسطة، أما المرحلة الثانوية فالضرب فيها معدوم، الأمر الثالث إن ظن المعلم أو أي شخص أن أسلوب الضرب سوف يجعل من الطالب إنساناً سوياً، ويجعله محباً له ومقبلاً على مادته، فهو مخطىء لأبعد درجة، بل الذي يحدث هو مزيد من التمرد، ومزيد من التذمر، ومزيــــد من الانقطاع. أدعو هؤلاء المعترضين على منع الضرب في المدرسة إلى دراسة هؤلاء الذين تسربوا وانقطعوا عن التعليم حالة حالة، ليجدوا أن أحد الأسباب الرئيسة هو سوء معاملة المعلم لهذا الطالب. إذا لم نجعل أبناءنا في يوم من الأيام، وهذه نظريتي التي سعيت إلى تطبيقها، يعشقون الذهاب إلى المدرسة فلن نفلح، والحقيقة أنك لا يمكن أن تتعلم - حتى في كبرك - من شخص لا تحترمه.



طفولة بددتها المسؤولية المبكرة

* في حواركم مع المجلة العربية عام 2002م أوحيت لنا بأنك لم تعش طفولتك، وأنك نشأت رجلاً من صغرك. أود أن تحدثنا عن ذلك ، لأنه غ كما يبدو لي غ انعكس ما قلته على شبابك وكهولتك؟

- سامحك الله يا عبد العزيز ، ستجعلني أفشــي بعض أسـرار العائلة. والدي حينما تزوج والدتي كان فوق الخمسين، بينما كان عمر والدتي خمسة عشر عاماً، وكنت أول أولاده الذكور، لأنه في زيجاته الأولى رزق ببنات فقط، ووالدي كان مشهوراً بالبيع والشراء لدى البادية، وعندما بدأت أشبّ كان والدي قد تقدم في السن، فأراد أن يعوّدني على البيع والشراء، فكنت مسروراً إذ سمح لي بقضاء أول نهاري في المدرسة وبعد العصر أتولى البيع، وكان يراقبني من خارج الدكان، وكان لدى أبي جلسة للشاي والقهوة مع أصحابــه بعد صلاة الظهر مباشرة وبعد المغرب مباشرة، وكنت أقوم على خدمتهم، وكنا ننام بعد صلاة العشاء مباشرة، ولا يمكن لأحد أن يخرج من الدار، وبالفعل كان أبي يعتمد عليّ؛ ولذلك قلت بأنني تحمَّلت المسؤولية من مرحلة مبكرة، ولم أكن كباقي الأطفال الذين تمتعوا بطفولتهم.

دعني أقص عليك قصة لم أَرْوِها من قبل ولم تنشر. عند تخرجي في المعهد العلمي جاء أحد أصدقائنا لأبي وقال له : أبشرك ابنك محمد نجح في المعهد. فأجابه أبي : لا بشرك اللّه بالخير، أنا أريده أن يظل في المجمعة. وعندما انتهى الصيف كان لابد للمتخرجين الذين يودون أن يتابعوا دراستهم من أن يلتحقوا بالكليات في الرياض، فقال أبي لا يمكن أن تذهب، لقد حصلت من التعليم على ما يكفيــك، ونحن مهتمـون بالبيع والشراء. حاولت معه عبـثاً، حتى أخبرني أحد أصدقائه الأعزاء بعزم والدي على تزويجي ابنة أحد شيوخ القبائل، وذلك في محاولة منه لإغرائي بالبقاء. ذهبت إلى صديق والدي - وهو في منزلة عمي- وقلت له: قل لوالدي حتى الـزواج لا أريده. ولكن كانت محاولاتي بلا طائل. فتوسطت لوالدي بأقرب أصدقائه إليه، وفي أحد الأيام - بينما كنا متجهين للمسجد - إذا بذاك الصديق يهمس في أذني بأن والدي وافـق على دراستي، وأخذ عني أخي عبد اللـه مسؤولية البيع والشراء، فانزاحت عن نفسي غمة كبيرة.


على ذكر عدم تمتعك بمرحلة الطفولة معالي الوزير، بودي سؤالك عما يقوله لنا علماء النفس والتربية حيال الطفل الذي لم يعش طفولته؟
- صعبة، لكن اللّه سبحانه وتعالى يهيىء لك من الأسباب ما يجعلك مطمئناً . لم أتمتع باللعب مع أقراني، لكن أحمد اللّه الذي وفقني لمساعدة والدي وهو في تلك السن.


وماذا عن المسؤولية المبكرة؟ هل أثرت لاحقاً عليك في مراحل عمرك التالية؟
- لا لم تؤثر عليّ. واستعضت عما فاتني بروح النكتة، فأنا أستمتع بالنكتة سماعاً ورواية، وأضحك لها.

.

ينبع
09-09-2005, 05:33 PM
مناهج جيل الآباء


عوداً للمدرسة الابتدائية.. هلاّ قيّمت لنا مناهج تلك المرحلة الزمانية، وأنت المهموم الدائم بهذه المناهج؟
- سؤالك ممتاز، فالكثيرون الآن لا يستوعبون أن الزمن تغير، والمعارف الموجودة والمتاحة كانت في المدرسة عبر مناهجها فقط، وأن المعلومات التي كانت تقدم في تلك الأيام - وخصوصاً في مواد اللغة والدين - كانت مناسبة جداً، حتى بعض التفاصيل في مسائل العبادات وغيرها كانت مناسبة، لكن في هذا الزمن تغير ذلك كله. وهنا دعني أحدثك بقصة سردتها على زملاء لي. كنت في المعهد العلمي متفوقاً في دراستي، وأحرزت الدرجة الكاملة في مادة الفقه التي فيها تفاصيل العبادات، وصليت في أحد الأيام المغرب، وفاتتني ركعة، وكان على يميني أستاذي في الفقه، وبعد قضائي للركعة التي فاتتني قال لي: أعد صلاة المغرب لأنك أخللت بركن منها. قلت: ما هو؟ قال: فقط أعدها. فأعدتها كاملة. فلما انتهيت قال لي: أنت مخلّ بأحد أركان الصلاة، أذكر لي أركان الصلاة.. فذكرتها له جميعاً، وقد حفظتها عن ظهر قلب، وتعجب هو من كوني حاصلاً على الدرجة الكاملة، ثم أُخِلُّ بأركانها لأنني لا أعرف تطبيقاتها.. إذ لم أسجد على الأعضاء السبعة. لذا فأنا ضد التركيز على الحفظ والتلقين الببغائي بدون فهم، بل يجب أن تفهم وتطبق، ومعلوم لدينا أن العلم والعمل مقترنان.


عفوًا معالي الوزير، أنت ترمي في إجابتك هنا بالقول بأن تلك الفترة التي تحدثنا عنها ربما كانت تتحمل تلك المناهج والتي بها تفصيلات وشروحات، وأنها مناسبة لتلك الفترة الزمانية. لكن سؤالي: ما الذي تودّ الذهاب إليه وتودّ طرحه مقابل ذلك، وبصريح العبارة معالي الوزير؟
- قلت مراراً وكتبت: من الضروري أن نعيد صياغة المناهج، وأن نركز على فهمها من قِبل الطلاب، وأن لا نقدم لهم التفاصيل والجزئيات الدقيقة في التعليم العام، لأننا لا نرمي إلى إعداد متخصصين في اللغة والدين والكيمياء والفيزياء وغيرها. يجب أن نعلمهم ما يجب أن يعلموه من أمور دينهم، وكيف يكون أحدهم مسلماً صالحاً، ومواطنـــاً صالحاً يعبد اللّه على علـــم وبصيرة، ويؤدي واجبه، ويعي حق وطنه عليه، وحق أولى الأمر، وحق الناس عليه.. هذه هي مهمة التعليم العام، أن يجعلك تحب دينك، ووطنك، وتسهم في بنائه، وتتعلم مهنة تحبها، وباختصار أن تتعلم ما لا يسعك جهلـــه. أمـــا التخصص فهو من مهمة مؤسسات التعليم العالي.


سأكون صريحًا.. لعلك أوحيت لنا من خلال حديثك الآنف بأنه من الضروري أن نخفّف من بعض التفاصيل الموجودة في كتب الدين. ولكن معالي الوزير ربما كان للمخالفين لك رأيٌ يقول بأن ما احتججت به هو ردٌ عليك، وأنه ينبغي أن نزيد من حصص الدين. فطالب اليوم بحاجة إلى زيادة هذه الجرعة التي تحصنه من أفكار منحرفة عبر مصادر المعرفة التي ذكرت، وعليه ربما كان القوم لا يعارضون التطوير أو أساليب العرض المشوقة، ولكن يعارضون تخفيف الجرعة الدينية للطالب؟
- أنا قبل أن أكون في الوزارة، وبعد أن تركتها، وأثناء عملــي فـي الوزارة، لم أطلب أبداً تقليل حصص علوم الدين، ولكني أردت اختيار المواضيع الأنسب، والتي تلامس واقع اليوم، وأنا أتحدى أيَّ أحد يقول إنني طلبت تقليل المواد الدينية، بل أنا أريد المزيد من العلم والعمل بتعاليم الدين الحنيف؛ لأنني أعلم أنها الحصن الحصين، والمناعة الحقيقية لأمتنا، ولكن باختيار المواضيع الصحيحة المناسبة لهذا العصر.

فالتركيز - مثلاً - على تفاصيل في فروع فقهية لبعض العبادات والمعاملات غير مناسب، لأنها لا تمس حياة الطالب، وقد لا يصادفها في حياته ولا مرة واحدة، فهو يحفظها من أجل الاختبار ثم ينساها بعده. هذا ما أردته بالتلقين الببغائي الذي أساء فهمي فيه بعض الناس. الرسول عليه الصلاة والسلام غ يا أخ عبد العزيز غ قال لأصحابه : (صلّوا كما رأيتموني أصلّي) . وقال : (خذوا عني مناسككم) . ولم يقل لهم شروط كذا عشرة ، وأركان كذا عشرة ، كان حريصاً على التفهيم مع التلقين ، ومرة أخرى أرجو أن لا يُساء فهمي ، فالحفظ لازم لكن مع الفهم، ويبقى القرآن الكريم حالةً خاصةً، يحفظه الصغار، وإن لم يفهموا معناه، ليفهموه ويتدبروه، ويطبقوه وهم كبار