المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : بائع الطين



المعلم
10-06-2010, 12:41 AM
قصة أعجبتني فصولها
سأنقلها لكم إن شاء الله في حلقات
-1-


وصلت إلى البيت في الساعة العاشرة ليلاً،عائداً من العمل الذي من المفروض

أن ينتهي في الساعة السادسة مساءً،إلا أن بُعد المعمل عن مكان سكني،وجشع صاحب

المعمل الذي بوده أن يُبقي العمال في المعمل ليلاً نهاراً،وبأجر زهيد،لا يسمن

ولا يُغني من جوع،كل هذا يجعلني أتأخر حتى هذا الوقت،وأحياناً يُبقينا صاحب

المعمل حتى الواحدة بعد منتصف الليل،إذا كان مزاجه مُتعكر من زوجته الجميلة

التي تصغره بعشرين عاماً،والتي تزوجها من أبيها رغماً عنها

بسبب الحاجة والفقر.

أول شيء فكرت في فعله عندما دخلت إلى الغرفة هو اسكات معدتي التي قرصها

الجوع طوال اليوم.

بحثت في "النملية"هكذا يسمونها،ولا أدري لماذا! فقد كانت عبارة عن رفوف

خشبية لها باب من المنخل الناعم كي لا تدخل الحشرات،وبنفس الوقت يسمح بدخول

الهواء لتهوية الطعام،ولها باب ثاني من الخشب له قفل خارجي،وتستعمل قديماً

بدلاً من الثلاجة،وعلى كل حال أنا لست بحاجة لها لأن الطعام لا يباتُ عندي

وحجم الغرفة صغير،ولا يتسع لثلاجة،وإذا أردتم الصراحة!أنا لا أملك ثمنها.

لم أجد شيء أكله في النملية سوى نصف رغيف من الخبز،بقيَ من الأمس وقليل من

دبس البندورة في وعاء زجاجي،نسميه "قطرميز" أعطتني إياه أمي عندما

جئتُ من القرية،أمي الحنونة التي لم تصدق عندما قلت لها إن دبس البندورة

يُقدم في مطاعم المدينة بجانب البطاطا المقلية،ولكني لم أخبرها بأن دبس

البندورة الذي تصنعه بيديها أفضل بألف مرة من دبس البندورة الذي

يقدمونه هنا،أمي الحنونة التي حاولت مراراً أن تقنعني بالعدول عن الذهاب إلى

المدينة للعمل،وأن أبقى في القرية لكي أعمل مع أبي في زراعة الأرض،أمي

الحنونة التي كانت تبتسم عندما أتذمر إذا تأخرت في تحضير الطعام،أين أنت

يا أمي لتري ابنك يأكل نصف رغيف شبه يابس مدهون بدبس البندورة.

مددت دبس البندورة على نصف الرغيف و فوقه بضع نقاط من الزيت،و قليل من

مسحوق النعنع اليابس،وكما تقول أمي(كل شيء مع الجوع طيب)والأن بعد أن

أسكت معدتي الجائعة،اشتهيت على كأس من الشاي لأخفف من طعم دبس البندورة

فقد بدأتُ أشعر بحرقة في معدتي بعد أن التهمت الخبز بشراهة من شدة جوعي

وأعتقد إن كأس من الشاي سوف يُعدل مزاجي.

تركت الماء تغلي في الأبريق جيداً،ثم وضعت الشاي الأسود على الماء،ففاحت رائحة

الشاي العطرة في الغرفة،فتحت علبة السكر فتسمرت عيناي في قاعها الفارغ

وأدركتُ حينها إني سوف أنام من دون أن أشرب الشاي.

مع أن الحرقة اشتدت في معدتي،إلا أن التعب من العمل كان أشد على جسدي المنهك

فرحت أغط في نوم عميق.

كانت الساعة الثانية بعد منتصف الليل عندما أيقظتني من نومي دقات على

الباب،ولكن من شدة تعبي،اعتقدت إني كنت أحلم،فعدت للنوم،ولكن مرة ثانية

دُقَ الباب ولكن هذه المرة كانت الدقات أقوى مما جعلني أستيقظ،وأذهب لأفتح

الباب،وقد انتابني شعور بالخوف والقلق،وبدأت الأفكار تدور في رأسي،من هذا

الذي يزعجني في هذه الساعة المتأخرة من الليل.

المعلم
10-06-2010, 05:42 PM
-2-



ذهبت لكي أفتح الباب،وعيناي بالكاد ترى الطريق إليه،ومن غير أن أسأل

أو أستفسر عن هوية هذا الزائر الذي قضىَ مضجعي وانتهك حرمة نومي

امتدت يدي إلى مقبض الباب وفتحته بهدوء،وأنا أحاول بصعوبة أن

أبقي عيناي مفتوحتان لأرى ذلك الشخص الواقف أمامي،بوجه شاحب،وجسم

ضعيف،ولولا ثيابه الجديدة التي كان يرتديها لحسبته متسول ساقه قدره

التعيس إلى من هو أتعس منه.

تمعنت بوجه الزائر وقلت له:نعم! ماذا تريد?

نظرَ بوجهي بأستغراب وقال:أنا ابن خالتك..أيمن..صديقك،ألم تعرفني

نعم إنه ابن خالتي وصديقي أيمن!كيف لم أعرفه،ولكن معي حق أن لا أعرفه

فقد مرت سنين طويلة منذ رأيته أخر مرة،عندما سافر إلى اوروبا الشرقية

لكي يدرس الطب،ولم يعد بعد أنتهاء الدراسة،بل فضل البقاء هناك لكي يعمل

بالتجارة،ولكن ما الذي غيره إلى هذه الدرجة فقد كان ممتلئ الجسم،ذو وجه

منير وجميل.

أخذته بالأحضان وقلت له:أرجوك لا تؤاخذني فأنا لم أعرفك من شدة النعاس

تفضل بالدخول..البيت بيتك.

أبعدت ثيابي المرمية على الأريكة ليتمكن من الجلوس عليها،ويا ليتني لم

أبعد عنها الثياب،فقد بانت على حقيقتها،بالية،مهترئة وقد خرج القش

المحشو بداخلها إلى الخارج.

جلس أيمن وهو يبتسم،ولكن ابتسامته كانت صفراء،تكشف عن وجه مهموم و خائف

فسألته:ما بالك? لماذا كل هذا الشحوب على وجهك?

نظرَ إليَ بعينين خائفتين وقد اغرورقت بالدموع،وقال:أنا أسف جداً على إزعاجك

في هذا الوقت المتأخر من الليل،فقاطعته قائلاً:لا عليك يا رجل،ما هذا الكلام

الذي تقوله! تستطيع أن تأتي في أي وقت تشاء،وتابع حديثه بصوت متقطع

يخالطه البكاء..صدقاً أنا أسف ولكن لم يكن أمامي سوى بابك أدق عليه

فقد كنت في القرية،وأخذت عنوانك من أمك وهي تسلم عليك كثيراً،وقد أرسلتني

لكي أختبئ عندك حتى يحين موعد سفري إلى اوروبا.

قاطعت كلامه مستغرباً! تختبئ عندي! ولماذا تختبئ?

تابع حديثه ببطئ وهو يمسح الدموع من عينيه..لقد جئت من اوروبا منذ اسبوع

في إجازة لكي أزور أهلي،ولكني لم أهنئ بهذه الإجازة،فقد قتل ابن عمي جاره

عن طريق الخطأ،وسلم نفسه للشرطة،ولكن أهل القتيل يريدون قتل أي شخص

يرونه أمامهم،والبارحة كنت مختبئ عند أمك في القرية،ولكنها خافت أن يراني

أحداً عندكم،فيخبرهم عني،فنصحتني أن أختبئ عندك في المدينة حتى يحين موعد سفري

ولم أستطيع مغادرة القرية إلا بعد منتصف الليل كي لا أصادف أحداً من أهل

القتيل،ومرة ثانية أكرر أسفي وأعدك بأنني لن أزعجك أكثر من ثلاثة أيام.

هونت عليه قائلاً:ما هذا الكلام يا رجل! إذا لا يتسع لك المكان أضعك على

رأسي،صدر البيت لك والعتبة لي،وطلبت منه أن يبدل ثيابه،وأعطيته ثياب

للنوم من عندي،وبصعوبة بالغة أقنعته بالنوم على السرير و نمت أنا على

الأريكة الممزقة التي كانت تتحرك تحتي كموج البحر.

عندما استيقظت،لم تكن الشمس في مكانها الذي عهدته كل صباح،فقد قطعت مسافات

بعيدة عن نافذتي،والساعة قد قاربت من العاشرة صباحاً،وطبعاً لن أترك ضيفي

لوحده وأذهب للعمل وعلى كل حال تأخرت كثيراً وسوف يطردني صاحب المعمل.

خرجت لشراء الفطور،وعدت بسرعة قبل أن يستيقظ أيمن،وكان الفطور سهل

التحضير،بيض مقلي وحمص ناعم،ولم أنسى أن أشتري السكر لكي أشرب

الشاي مع الضيف.

أيقظت أيمن بلطف،ودعوته لتناول الفطور فقد كان جائعاً مثلي.

جلسنا نشرب الشاي بعد الفطور ونحن نتحدث ونسترجع الماضي،وأيام الطفولة

والمدرسة،وتلال القرية،والسباحة في مياه السواقي،والسباق في بيادر

القمح،وحصاني الخشبي الذي انكسر،كانت أيام جميلة لم نشعر وقتها بهموم الحياة.

كان أيمن يجول بنظره في أرجاء الغرفة التي توحي بالفقر والحاجة،ونظرَ إليَ

وقال:لماذا لا تأتي معي إلى اوروبا وتعمل معي بالتجارة?.

ضحكت بصوت عالي وقلت له:ليس معي نقود لأشتري طعام،فكيف أسافر إلى اوروبا

وأعمل بالتجارة.

فقال لي:لا عليك أنا سوف أدفع لك كل التكاليف،وعندما تعمل وتربح

تعيد لي النقود،ويجب أن تفكر بسرعة،قبل أن يحين موعد سفري،فإذا وافقت

فسوف تسافر معي بعد ثلاثة أيام.

لم أفكر كثيراً،فما أعانيه في عملي،وحياتي يجعلني أوافق بسرعة على عرضه.

وفعلاً لم أضيع الوقت،ذهبت معه إلى السفارة وحصلت على تصريح السفر،وأشترى

لي بطاقة سفر بالطائرة.

ذهبت لكي اودع صاحب المعمل وآخذ باقي أجري منه،ولكن كما توقعت،فقد

طردني ولم يعطيني شيء،وقال لي:اذهب درب الذي يأخذك لا يرجعك،تركته وذهبت

إلى القرية لأودع أمي و أبي،ويا ليتني ما ذهبت.